العدد 2173 - الأحد 17 أغسطس 2008م الموافق 14 شعبان 1429هـ

علت الأشياء وتصاغر الإنسان

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

للأغنياء أن يبذخوا ويزايدوا على بعضهم، ويستعرضوا أمام المجتمع ما عندهم من خير ونعمة؛ ليكونوا في أعين الناس ما يريدون كبارا أثرياء راقين كرماء. وإذا غفلوا كيف سيكونون في عين الرقيب الحسيب فهم سيفوزون بنصف المعادلة، أعني سيكسبون اعتبارا ما في أعين الناس، الذين سينظرون إليهم نظرة ثراء تتوق لها نفوسهم.

ولكن ما هو القول في مظاهر البذخ التي يحاول الفقراء الاقتراب منها ليحاكوا الأثرياء في مظاهرهم وزينتهم؟

سأكتفي ببعض الأمثلة التي توضح حالة الكثير من العوائل والأسر البسيطة التي بالكاد تستطيع تسيير حياتها الضرورية في الزمن الذي لا يرحم بغلائه وارتفاع أسعاره وتغير أحواله.

بعض أقرباء الزوج والزوجة من النساء يستأجرن ملابس الحفلة من أماكن أصبحت معروفة لدى الجميع، وقسم منهن يستأجرنها من صديقاتهن؛ كيلا يكون الثوب والموديل معروفا ومحرجا لهن أمام الأخريات، لتكون الصورة في غالبية أفراح الزواج هي أن أكثر من 70 في المئة من النساء في حفلات الزواج والأفراح التي تعنيهن لقرابة أو صداقة قوية لا يظهرن في فرحهن ومناسباتهن بما يملكن، بل يحاولن البروز بملابس وزينة ومقتنيات أخرى يرهقهن شراؤها فيلجأن لاستئجارها.

وإذا كان هذا المنطق مقبولا عند البعض؛ لأنه هروب وتحايل ذكي على ما هو أكثر كلفة ومشقة وهو الشراء فسنكون مهيئين ومقبلين على عادات وظواهر أخرى لا تختلف في جوهرها عن هذه الظاهرة.

لا أتحدث في هذا الاحتمال من الفراغ، فقد نقل لي أحد الأشخاص عن نظرة التفاخر والمظاهر التي تعيشها زوجته أمام الآخرين، موضحا أنه دعا إلى منزله مجموعة لا تتعدى أصابع اليدين من أصدقائه على وجبة غداء، اشترطوا (للأخوة والميانة بينهم وبينه) أن تكون من عمل زوجته، فتفاجأ حين دعاهم إلى غرفة الطعام بأشكال وألوان الصحون والملاعق والشوك الموجودة على المائدة، وبعد ذهاب الضيوف علم أنها استعارة من إحدى صديقات زوجته.

أخبرني صاحب مكتب لتأجير السيارات أن نمطا جديدا بدأ يسود بين الناس وهو الاستئجار لا للحاجة، بل لضرورات المظهر كما يقول، فسألته في أي أمر مثلا؟ فقال لي: أبسط الأمور أن يذهب الرجل لدعوة في مكان يعتقد أن المشاركين فيه من العيار الثقيل(أثرياء) وأصحاب مواقع ومراكز راقية. وأضاف: بعض الرجال اليوم لا يستأجرون السيارات فقط بل حتى المشالح التي يلبسونها في المناسبات.

أعتقد أن هناك سببين رئيسيين لنمو مثل هذه الظواهر. الأول صعود قيمة الأشياء وهبوط مكانة الإنسان أمامها، فعالم اليوم بزخمه الإعلامي الموجه أصبح عالما ماديا بحتا، صخبه وضجيجه وعروضه كلها قيم مادية، أما الإنسان المسكين فضاع في هذا العالم الجديد، ولم تعد له قيمة إلا بما يملك وما يلبس وما يقتني من أشياء.

أثّر هذا الصخب والضجيج في الإنسان نفسه فبدأ يفقد الثقة بقيمته وذاته وماهيته، وقبل لنفسه أن يكون أشياء ومقتنيات يصحبها إنسان، فحضوره للأفراح واستجابته للدعوات ليس حضورا لإنسانيته ذات القيمة المثمنة والمقدرة من قبله ومن الآخرين، بل هو حضور للأشياء والماديات التي يحب أن ينتسب إليها ويتزين بها وإن لم يكن مالكا لها.

ضاع الإنسان فهانت عليه نفسه وتلاشت شخصيته، وما لم يستعد الثقة بها من جديد فسيرهق في سبيل البحث عنها، وسيكلفه ذلك المزيد من البذل والإسراف والبذخ والمظاهر إلى أن يصل إلى العناء والتعب الذي لا يطاق، ليعرف أن نفسه هي أفضل وأحسن ما يعبر عن وجوده وحضوره، وعلى وجه الخصوص حين يعلم الناس أن غالبية مظاهر الآخرين كاذبة ومصطنعة ومستأجرة.

أما السبب الثاني فهو انسلاخ الإنسان التام من مبدأ «القناعة» واستمراره في التطلع إلى ما في أيدي الناس، بحيث يشغله مد البصر من هنا وهناك عن النظر إلى قدرته المادية واستطاعته الشرائية وخططه المستقبلية.

لقد قرأنا الحديث الشريف: «القناعة كنز لا يفنى» ولم نلتفت إلى أن القناعة ليست كنزا للمال فقط، بل كنزا لراحة الروح والضمير والرضا بواقع الحال مع تحمّل المسئولية تجاهه.

وقد ورد في الدعاء المأثور «اللهم قنّعني بما رزقتني وبارك لي في ما آتيتني». لن نتبارك بما أعطنا الله مهما كان عظيم عطائه لنا ما لم نعوّد أنفسنا الشكر والقناعة؛ لأن الكل سيتطلع ولن تشبع عيناه إلا بتراب الأرض، وتعب البال في الدنيا.

إن غالبية أسباب الفقر والقلق والتوتر هي من صنع الإنسان بنفسه، وقبوله أن يركض دون أن يضع حدا لهرولته. هذا القول لا يتناسى الواقع ولكنه يحمّل الإنسان قسطا مهما من المسئولية.

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 2173 - الأحد 17 أغسطس 2008م الموافق 14 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً