العدد 221 - الإثنين 14 أبريل 2003م الموافق 11 صفر 1424هـ

على هامش حرب الخليج الثالثة... لبيك يا صدام

غسان الشهابي comments [at] alwasatnews.com

ليس من باب التشفي أن يكتب المرء اليوم في شأن «عراق صدام»، إذ ان الموقف لا يحتمل أي نوع من التشفي، أو كما يطرح في مجالس «الحكي» العربية بصيغة «ألم أقل لكم...؟»، ولكن الأمر يتعدى هذا إلى حاجتنا الماسة إلى بحث هذه الظاهرة التي كان من الأجدر أن تنطفئ في الثلث الأخير، من القرن العشرين على الأقل وذلك بزوال أو تراجع على الأقل صورة الفرد الحاكم لتحل محله المؤسسات الحاكمة، لا أن تستمر حتى مطلع هذا القرن، ولا تزاح إلا بقوة السلاح... وأي سلاح هذا.

ففي الوقت الذي نستطيع أن نتفهم فيه خروج العراقيين إلى الشوارع هاتفين باسم رئيسهم، لا باسم وطنهم الذي تحيط به حاملات الطائرات، وتدك أراضيه بأنواع من الأسلحة، بعضها يجرب لأول مرة، نجد المشهد ذاته يتكرر في أكثر من شارع عربي.

إذ تفهمنا أن الكاميرا لا تلتقط صور الرشاشات التي وضعت وراء ظهور الخارجين في الشوارع العراقية للهتاف، فأي رشاش هذا يجبر أقواما من العرب في غير بلد على حمل صور الرئيس العراقي ذاته، والهتاف باسم، يفدونه بأرواحهم، على الطريقة الثورية القديمة التي يصبح فيها الفرد هو الأمة، أو تختصر الدولة في الفرد.

صدام الذي أعلن ذات مرة أنه يريد أن يأخذ مكان جمال عبدالناصر في قلوب العرب، نجح إلى حد ما في هذا الشأن، تقبله الشارع الأردني، وكان أن أغدق عليه من ثروات النفط العراقي بأسعار بخسة، وبالكثير من المساعدات، وكذلك فعل مع الشعب الفلسطيني، وكان يعطي، وغيره يعطي أيضا، ولكن صوت صدام كان عاليا في هذا المضمار، وكان إعلانه بأنه سيحرق «نصف إسرائيل»، بمثابة القشة التي تعلق فيها اليائسون من الأنظمة العربية، أرادوا أن يصدقوها طالما أن الأنظمة العربية لم تتجرأ على قولها، وربما استقر لدى البعض أنه حتى لو لم يفعلها صدام، ولم يحرق شبرا من «إسرائيل»، ولكن يكفي أنه قالها جهارا نهارا، وانضمت في هذا الإعجاب شعوب من شمال إفريقيا أيضا، بعدما أغدقت أجهزة النظام على المثقفين والإعلاميين من أجل رسم صورة عملاقة للرئيس العراقي في أعين الناس، ونجحوا.

وفي حين أن عبدالناصر تعرض إلى حربين قاهرتين، فإن صدام اختار أن يعرض بلاده إلى ثلاثة حروب من وزن آخر، غير آبه بالنتائج في كل مرة، وفي حين اختار عبدالناصر الواقعية في التعامل مع ما حدث، فبدأ اتصالات سرية للحل السلمي بعد هزيمة 1967، رأى صدام أن من الصعب على نفسه الأبية أن يحاور أو يتنازل، أو يقبل بأي نوع من التسويات حفاظا على بلده، حتى لو أن حبه لنفسه يفوق حبه لبلده... وهذه فروق بين الرجلين.

ويبقى السؤال القائم: ما الذي حققه صدام حسين من حروبه التي دخلها مختارا، وليس مرغما؟

فلقد اختار بدء الحرب على إيران، وساعدته إيران في ذلك الوقت بشكل غير مباشر حين بدأت الثورة في عنفوانها تعجب بنفسها وبإزاحة الشاه من على عرشه، وأخذت «تلحن» بتصدير الثورة إلى الخارج، ومن عادة إيران أنها لا تصدر أفكارها أو جيوشها شرقا، بل غربا حيث الخليج العربي، في الوقت الذي أغرى انتصار الثورة الإسلامية في إيران، شيعة العراق الذين يشكلون حوالي 60 في المئة من الشعب، فانتبه صدام إلى هذا التحرك، وربطه بتخوف دول الخليج من تسرب هذه الأفكار، ومشاوراتها لتشكيل تكتل يحميها أمنيا، فابتدع عدة حوادث ليبرر من خلالها الهجوم على تلك الجمهورية الناشئة التي حاكمت وقتلت ثلة من كبار القادة والجنرالات المهمين لديها، واشتبكت في صراع مع الولايات المتحدة، فأي ضير من الهجوم عليها؟

حرب استمرت ثماني سنوات، ترجح الأرقام أن الخسائر المادية من هذه الحرب بلغت حوالي 1000 مليار دولار، على هيئة إنفاقات عسكرية ضخمة، وخسائر اقتصادية، تحمل العراق منها من يقارب 450 مليار دولار، راح فيها 500 ألف قتيل لكلا الجانبين، وانتهت الحرب كما بدأت، الرجوع إلى اتفاق الجزائر الذي وقع في العام 1975 برعاية الرئيس الجزائري في ذلك الوقت هواري بومدين، والذي كان صدام حسين يمثل فيه الجانب العراقي، فقد كان نائبا لرئيس الجمهورية إذ ذاك.

وإذا كانت تلك الحرب اتسمت بالسخونة والبرودة في سنواتها الثماني، فإنه حدث أن سقط في يوم واحد من الأيام الساخنة حوالي عشرة آلاف قتيل من الجانبين، لقاء هذه المغامرة الدموية، وهذا لم يكن يعني شيئا للرجل.

ولكن مغامرته الأكثر ضراوة وتخبطا، كانت بعد ثلاث سنوات، حينما قام الرئيس بمغامرة أخرى بغزوه للكويت، في خطوة صعقت الوطن العربي، وفتتته إلى «دول المع» و«دول الضد»، وذلك تحت مبررات متعددة، بدأت بخطاب صدام في ذكرى 17 يوليو/تموز والذي قال فيه صراحة ان الكويت والإمارات العربية المتحدة تتآمران عليه، ثم حقل الرميلة المتنازع عليه، وبدأ الغزو بحجة جماعة من الوطنيين الكويتيين استجاروا بالنظام العراقي ليخلصهم من حكم الصباح، وانتهت «المسرحية» بعودة الفرع إلى الأصل، وصار «حامي البوابة الشرقية» حراميها، باقتحامه أولا هذه البوابة، وتركها مفتوحة على مدى 13 عاما للأميركيين والبريطانيين يكثفون وجودهم في المنطقة بحجة حماية أصدقائها ومنابع النفط حاليا، وإلى وقت غير معلوم، ما كلف عودة العراق مرة ثانية إلى حدوده، 120 ألف قتيل، و20 ألفا آخرين قتلوا في الثورة الشعبية التي قامت بعد انتهاء الحرب داخل العراق.

دخل العراق الكويت وكان ذخر العرب في الترسانة الحربية، لديه حوالي مليون جندي نظامي، من شعب قوامه أقل من 27 مليونا من البشر، إلى جانب 25 ألفا من القوات الاحتياطية، على الأرض لديه 5500 دبابة، و3700 قطعة مدرعة، وما بين 600 إلى 700 طائرة حربية، و200 مروحية، و250 صاروخ أرض أرض.

خرج الجيش العراقي من الكويت وقد فقد نصف هذه الترسانة، دخل الجيش العراقي الكويت منهكا، وخرج منها محطما، حتى قال أحد قادة الجيش الأميركي في ذلك الوقت ان بغداد خسرت 2100 دبابة في حرب الكويت، تم تدمير 10 في المئة منها في ساحة القتال، أما الباقي، فقد وجدت مهجورة، فر منها أفرادها وتركوها للريح تصفر فيها، وللغزاة المنتصرين يعتلونها ويصورون من فوقها صورا تذكارية تعزز تفوقهم... وهزيمتنا.

الحربان اللتان خاضهما النظام العراقي، لم تنعكسا سلبا على العراق وحده، ولو حدث ذلك فقط لكان يكفي من أجل وصفه بالكارثة، ولكنهما طالتا الدول المجاورة الأخرى، التي ما صدقت أن تنتهي الحرب الأولى، لتزج من جديد في حرب ثانية. فالعراق وحده كان ينتج من النفط 3,5 مليون برميل يوميا، أي ما يوفر له في المتوسط 15 مليار دولار في السنة من دخل النفط وحده، هذا الدخل حرم منه على مدى السنوات الممتدة من 1990 إلى اليوم، أي أن الصافي من دخل النفط يبلغ حوالي 195 مليون دولار ذهب على هيئة تعويضات، وإعادة بناء، وتقسيم حصة العراق بين الدول المنتجة للنفط في أوبك، وأصبح «النفط مقابل الغذاء» في مبادلة لم تخل من إهانة وقسر، بجانب الحسابات التي جمدت، إضافة إلى مليارات أخرى من الدولارات التي أنفقها على إصلاح بنيته التحتية التي دمرت لحساب «عاصفة الصحراء».

في الوقت الذي كلفت هذه الحرب الكويت، 23 مليار دولار لإعادة بناء ما تم تخريبه وحرقه من آبار النفط ومن البنى التحتية، وما قيمته 8,5 مليار دولار لتوقف تصدير وبيع النفط الكويتي مدة الغزو والتحرير، ناهيك عن الأمراض الاجتماعية التي ظهرت، والتي لا يمكن قياسها حسابيا، وكذلك ما لا يمكن أن يقاس بالأرقام من الدمار البيئي والصحي الذي لحق بالمنطقة أساسا.

كما خسرت المملكة العربية السعودية في حرب تحرير الكويت، نصف ناتجها الوطني، بفقدانها 50 مليار دولار، ودفعها حصتها من المساهمة في حرب التحرير، وهي 16,8 مليار دولار، ومنحها 3,2 مليار دولار للدول المتضررة الأخرى.

وما أن وضعت الحرب أوزارها وتم تحرير الكويت في يوم يعقب يوم احتفالها بالعيد الوطني في 25 فبراير/شباط، حتى ولدت - بعد أقل من تسعة شهور - جنين «الهرولة»، فإذا بمنظر الوزراء العرب، حاملين حقائبهم الدبلوماسية، ومتوجهين إلى مدريد في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 1991، لتبدأ من بعدها سلسلة من الاتفاقات، وما يشبه حفلات «الشراب» الجماعي، حين تلعب الكؤوس في الرؤوس، فيتدنى التمسك بالسمت الاجتماعي والوقار، فأخذت الدول العربية تتسابق في الاعتراف بعلاقاتها الماضية بالكيان الصهيوني، والاعتراف بالكيان الصهيوني، ومن «وادي عربة» إلى «كامب ديفيد» مرة ثانية، ومن المشي سرا وخفاء وحذرا وخجلا نحو «إسرائيل»، تعدى الأمر الهرولة إلى الجري السريع، فلم يعد هناك ما يخجلون منه، وما يخافون عليه.

غير أن الحرب على العراق لم تنته بالنهاية التقليدية، جلوس المنتصر والمنهزم إلى طاولة المفاوضات، وتوقيع أوراق التعهدات في صفوان، بل أن القوات الأميركية والبريطانية - تحديدا - قد عاد عشقهما إلى الصحراء، وحضرا قواتهما إلى حرب أخرى، فطورت مصانع السلاح البريطانية مثلا دبابات الجيش الرئيسية أبرامز، لتصنع أبرامز 2 التي توائم القتال في المناطق الصحراوية، وصارت هي عماد الدبابات البريطانية، وبعدما كانت صبغة جيوش حلف الناتو يغلب عليها اللون الأخضر، تحضيرا للحرب في أوروبا الشرقية، وفي أجواء الخضرة والغابات، صار اللون الحنطي والرملي الرمادي هو الغالب عليها، إذ ان ميدان المعركة انتقل إلى الصحراء.

ومن «عاصفة الصحراء» التي حررت بموجبها قوات التحالف دولة الكويت، إلى «ثعلب الصحراء» التي نفذتها قوات البلدين ضد العراق بهدف تقليص قدرته على إنتاج أسلحة الدمار الشامل، وقامت فيها قوات البلدين باستهداف 100 هدف عسكري، من خلال شن 650 غارة لمدة 70 ساعة، وذلك في نهايات العام 1998.

ومنذ ذلك الحين وحتى 28 سبتمبر/ ايلول 1999، نفذت القوتان الأميركية والبريطانية على العراق 12,95 ألف طلعة جوية، أوقعت 187 قتيلا و500 جريح، لأن أهدافها كانت واضحة ومحددة، ومن سوء حظ القتلى أنهم وُجدوا في ذلك المكان، وفي تلك الساعة.

واليوم يحتاج العراق إلى 600 مليار دولار لإعادة إعماره سيدفعها من نفطه ومن قوت شعبه ومن تنميته.

هذا جرد الحساب الأولي لـ «المنجزات» التي قام بها صدام حسين في السنوات العشرين فترة توليه حكم العراق، ناهيك عما حدث للأكراد، ومع ذلك لم يتردد قسم من الشارع العربي عن الخروج في الوقت الذي تهدر فيه الآلة العسكرية الأميركية، ليفدي صداما - لا العراق - بالروح والدم، فيما هو واحد من أكثر الذين تسببوا في إزهاق الأرواح وإراقة الدماء فداء لعرشه ومجده الشخصي. لا نزال في هذه الرقعة من العالم، لا نفرق بين الوطن والحكومة، إذ تختصر الأجهزة الحكومية عادة الوطن في شخص من يديره، ويتراجع الوطن إلى مراحل متأخرة، ويختلط على العامة من الناس إن هم يدافعون عن تراب أرضهم، أم عن مسامير عرش الحاكم.

سيعمد البعض إلى القول ان ما تقدم يعد «تبسيطا للأمور» على عادة المثقفين، ولكنه تفسير، بالبساطة ذاتها التي سقطت بها واحدة من أعرق وأغنى العواصم العربية تاريخا وحضارة، بعدما توعد حاكمها أن الغزاة سينتحرون على أسوارها، لأن أسوارها هم الناس، وعندما دخل الغزاة لم يجدوا تلك الأسوار، لأن النظام لم يبقِ لهم على أي نوع من الإنسانية، ولأن بانتصار هذا النظام - وهو أمر لم يشك في عدم تحققه أي عاقل - يعني أن تهدر آلة الدماء من جديد، تلبية لرغبات نفسية أقل ما يقال عنها، أنها موغلة في مرض حب الذات

إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"

العدد 221 - الإثنين 14 أبريل 2003م الموافق 11 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً