العدد 2376 - الأحد 08 مارس 2009م الموافق 11 ربيع الاول 1430هـ

ذكرى ميلاد محمد بن عبدالله (ص)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

تمر علينا كل عام ذكرى عزيزة على القلوب قريبة للنفس ومحببة للروح ألا وهي ذكرى ميلاد الرسول الكريم (ص)، ودائما ما نتساءل بشأن كيفية الاحتفال بهذه الذكرى لرجل بعث أمة من العدم، ونشر عقيدة يعتنقها الآن تقريبا ربع البشرية قاطبة، وبنى حضارة بلغت أوجها بعد مماته وأن تمثلت بعضا من القيم والمبادئ التي نشرها وآمن بها ودافع عنها.

هذه الذكرى العطرة لشخصية كتب عنها المفكرون ووصفها أحد كتاب السيرة من الغرب هو هارت مايكل عندما اختار مئة شخصية عظيمة عبر التاريخ وذكر أن أول شخصية تتمثل فيها سمات العظمة هي محمد رسول الله.

ونتساءل بمناسبة الذكرى عن سر هذه العظمة ويمكننا أن نخلص إلى أن ذلك يتمثل في عدة عناصر نسوق منها:

الأول: أن محمدا كان أميا ومع ذلك تفوق على العرب جميعا في الفصاحة والبلاغة، وكان حديثه مختصرا، وخطبه قصيرة، وكلماته محدودة، ولكنها كانت مليئة بالحكم والعبر والدروس، والنصح والإخبار ببعض أنباء المستقبل ونشر القيم المثالية. خذ على سبيل المثال قوله (ص) «آيات المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر» وفي رواية «وإذا خاصم فجر».

إن هذا القول يلخص القيم الإنسانية ويقدم هداية للبشرية. ولهذا حق عليه قول الله تعالى «وإنك لعلى خلق عظيم» (القلم: 4) ووصفه الله بقوله «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك» (آل عمران: 159) لقد كان كما وصف نفسه «إنما أنا رحمة مهداة» لم يرد السيئة بمثلها، ولكن كان يدفع السيئة بالحسنة كان يدعو لقومة «اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون».

الثاني: إنه كان ودودا رحيما لأهله ولقومه وللبشرية جميعا. ولذا قال ناصحا صحابته «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» وكان رحيما لو خُيّر بين أمرين اختار أيسرهما، فلم يرهق قومه العنت، ولم يشدد عليهم، ولم يتطرف في قول أو فعل أو في رد فعل، ولذا قال الله واصفا إياه «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم» (التوبة: 128). ولهذا حق عليه قول الله «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم» (الأحزاب: 6) ولذلك كان الكافر من أهل قريش أو مكة عندما يدخل الإسلام قلبه، يترك أهله وعشيرته، وأمواله حبا في الله وفي رسوله وفي الدين الجديد الذي اعتنقه.

الثالث: كان شجاعا جسورا غير هيّاب للمخاطر، خذ على سبيل المثال موقفه في غزوة أحُد عندما أنصرف بعض المسلمين المقاتلين للغنائم وانكشف الجيش وانتهز الكفار هذه الحالة وهجموا على المسلمين وكاد المسلمون أن ينهزموا ولكن قاتل النبي ببسالة منقطعة النظير رغم ما أصابه من كسور، وأشاع الكفار أن النبي قد قتل، ولكنه كان صامدا حتى أتاه نصر الله وحفظه، وكان دائما يردد افتخارا بقومه وأسرته «أنا النبي لا أكذب أنا ابن عبدالمطلب».

الرابع: كان محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب مؤمنا بوطنه يفخر به ويتحرق شوقا إليه وخاطب مكة بعد أن هاجر منها قائلا «والله انك لأحب البلاد إليّ ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت» وعندما عاد إليها فاتحا كان نموذجا للعفو عند المقدرة وأمر المنادي ينادي «من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق بأبه فهو آمن» كما أطلق شعاره الأبديّ العظيم لخصومه وعشيرته قائلا: «ماذا تظنون أني فاعل بكم». قالوا: «أخ كريم وابن أخ كريم»، فقال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». أنظر هذا النموذج من التسامح والعفو عند المقدرة لأعداء ناصبوه البغضاء والعداوة وتآمروا على قتله. قارن هنا بما حدث من ثورات في بعض البلاد العربية والإسلامية وشهوة الانتقام التي تسيطر على المنتصرين ضد أعدائهم.

الخامس: انه كان رحمة مهداة للعالمين من الأنس والجن، ومن البشر والحجر ولهذا آمن به الجن وسبّح الحجر بين يديه وظللته الغمامة، وكان نموذجا للتقى وللتسامح والاعتدال، ولذا ورد في الأثر «خير الأمور الوسط» وفي القرآن «كنتم خير أمة أخرجت للناس» (آل عمران: 110) وقوله «وكذلك جعلناكم أمة وسطا» (البقرة: 143). فلا تطرف لليسار ولا تطرف لليمين. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، هذا الاعتدال الذي نسيه أو تناساه المسلمون أو من ينتمون للإسلام هذه الأيام، حيث سادت بينهم مفاهيم الجمود والتطرف والتشدد، ومفاهيم الكراهية للآخر المختلف في الدين أو حتى المذهب أو حتى الطائفة أو العنصر أو الجنس. في حين قال النبي الكريم «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى» ونحن الآن يقتل بعضنا بعضا بدعوى تكفير هذا لذاك أو ذاك لهذا، أليس ذلك ابتعادا واضحا عن تعاليم الإسلام وقيمه ومبادئه.

إن الاحتفال بميلاد النبي الكريم لا يكون بإطلاق أيام الاجازات من العمل أو بشراء الحلوى وإنما باستعادة قيم محمد بن عبدالله، والسعي للاقتداء به في الرحمة والاعتدال والعقلانية، وحب الآخر المختلف، وعدم التعصب والحدب على الأهل وصلة الرحم. إنما يكون الاحتفال بالعمل الجاد من أجل تحصيل العلم والمعرفة اقتداء بسنته عليه السلام في غزوة بدر، عندما كان يفتدي الأسير مقابل قيامه بتعليم عشرة من المسلمين. وعندما أعلن «ان طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» وعندما تردد عنه في الأثر قوله «اطلبوا العلم ولو في الصين». لقد جعل محمد بن عبدالله العلم، هو محور دعوته، وركيزة عقيدته، امتثالا لقول الله تعالى في أول آية «اقرأ باسم ربك الذي خلق» (العلق: 1) القراءة هي المدخل لتوصيل العلم والمعرفة، والانفتاح على الآخر لتبادل المعارف والخبرات، وليس لإضاعة الوقت في اللهو واللعب. إن الجهاد الذي دعا إليه الإسلام هو كما قال النبي الكريم عند عودته من إحدى الغزوات «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر فقيل وما الجهاد الأكبر قال جهاد النفس» ويوضح القرآن الكريم جهاد النفس بقوله «إن النفس لأمارة بالسوء» (يوسف: 53) أي أن كل ما يؤدي للسوء من إخفاق وإهمال ورشوة ومحسوبية وانحراف وحب المال وكراهية الآخر من خلق الله، والطعن في الأعراض، والكذب والنميمة ونشر البغضاء والحقد ونحو ذلك، كله منهى عنه لأنه من النفس الأمارة بالسوء والتي علينا الجهاد ضدها.

لم يجلس النبي الكريم عاطلا بل كان عاملا يساعد أصحابه ويؤدي واجبه في أصعب المهام، ونتذكره عندما كان في سفر وحان وقت الطعام وقام كل واحد من أصحابه بمهمة في إعداد الطعام، فقال النبي «وأنا عليّ جمع الحطب» وكان ذلك من أصعب المهمات. كان يبحث عن العمل ولا يجلس عاطلا شاكيا. ولهذا فإن صحابته وخلفاءه كانوا يحرصون على العمل والحض عليه، ويقاومون التواكل والتكاسل والإهمال ويعاقبون عليه. كان الاعتدال والعقلانية والوسطية هي طابع الإسلام كما عبر عنه محمد بن عبدالله، والعمل تحصيل العلم هو ركيزة الدين الجديد.

وهذه الذكرى العطرة والكريمة يجب أن تحفزنا على الاقتداء بسنته والعمل كما عمل، ونشر الحب والسلام والوئام، وكان حافظا للعهد مع الله ومع الناس أجمعين، كان رحيما على البشر وعلى الحيوان، أنظر ما قاله «دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» وانظر لحديثه عن رجل شرب من بئر ثم وجد كلبا يلهت من العطش فنزل البئر ثانية وأخرج له ماء وسقاه، فقال النبي الكريم إن الله نظر إليه فغفر له «إن هذه الرحمة هي النموذج والمثال»، ولذلك قال الله «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» (الأحزاب: 21).

هذه هي قيم الإسلام ومبادئه، فالإسلام ليس مجرد صلاة وصيام وحج، إذا افتقد المرء روح الإسلام وقيمه ومبادئه فإن هذه الشكليات تصبح جوفاء ولا تشفع لصاحبها، عليك السلام يا رسول الهدى يا رحمة للعالمين.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 2376 - الأحد 08 مارس 2009م الموافق 11 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً