العدد 2447 - الإثنين 18 مايو 2009م الموافق 23 جمادى الأولى 1430هـ

ثقافة المناظرة الانتخابية

منبر الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع منبر الحرية

تتيح وسائل الإعلام والاتصال الحديثة العديد من الفرص الثقافية والسياسية المفيدة والجديدة التي لم تكن متاحة في عصر ما قبل الفضائيات، على سبيل المثال. وكمثال واحد على ذلك، يمكن انتقاء تجربة الإطلاع على «ثقافة المناظرات» الانتخابية، وهي جزء لا يتجزأ من الممارسات الديمقراطية الغربية التي كنا نكتفي بالسماع عنها عبر الصفحة المطبوعة والكلمة المكتوبة فقط: فقد سمعنا (عن بعد) عن مناظرة تاريخية بين مرشحين اثنين للرئاسة الأميركية في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، وهما جون كينيدي الديمقراطي وريتشارد نيكسون الجمهوري. ويبدو أن هذه المناظرة قد تركت أثرا عميقا في النفس الجماعية الأميركية والثقافة الشائعة درجة اتخاذها تقليدا في جميع التنافسات الرئاسية التالية وبضمنها التنافس المحتدم والساخن الذي جرى قبل بضعة أشهر بين باراك أوباما المرشح الديمقراطي الأسمر من ناحية، وبين جون ماكين المرشح الجمهوري الأشقر، من الناحية الثانية.

لقد أتاحت المناظرات الثلاث التي سبقت الانتخابات الرئاسية التي جرت بعد تلك المناظرات وتأسيسا على معطياتها للجمهور، فوفرت هذه المناظرات الفرص الثمينة للناخب الأميركي، ليس فقط للاطلاع على أفكار كل واحد من المرشحين على نحو مباشر، مرئي ومسموع، بل كذلك (ربما) للاطلاع على تفاصيل شخصية المرشح وطريقته في الكلام والجلوس واختيار الملابس والحفاظ على اللياقة عبر الحفاظ على مسافة لائقة بينه وبين منافسه، وكيفية تلقيه للنقد ثم كيفية الرد، زد على ذلك طريقته في انتقاء الألفاظ وحركة الجسم وتعابير الوجه والعيون، من بين أشياء أخرى body language لا يمكن أن تظهر إلا عبر مثل هذه المقابلات المباشرة والنادرة.

هذه جميعا تأتي في قائمة «المحرمات» في الثقافة السياسية الشائعة عبر التاريخ الحديث للعالم الثالث، للأسف؛ إذ لا تتاح الفرصة للجمهور بالاطلاع، مباشرة، على المرشحين كي يقرر هذا الجمهور من ينتقي ولماذا. وبذلك تتمكن «الديمقراطية الأميركية» أن تسجل هدفا للفوز بسباق الديمقراطيات العالمية، هدفا في شباك العديد من هذه الديمقراطيات التي تكتفي، على سبيل المثال، بتقديم المتنافسين على نحو غير مباشر أو بالإنابة عبر وسائل الإعلام الأثيرية واللافتات المعلقة والملصقات والصور والبيانات الانتخابية. هذه، بطبيعة الحال، طرائق مختلفة لعرض المرشحين وأفكارهم أمام الجمهور بهدف المساعدة على الاختيار الصحيح، بيد أنها جميعا لا ترقى إلى فكرة الصراع المصور والمسموع على حلبة التلفاز. وهذا ما أتاحته وسائل الاتصال الحديثة لنا الآن عبر تجربة الانتخابات الرئاسية الأميركية.

إنه لمن نافلة القول، أن يفكر المتابع في العالم النامي، عند الاطلاع على مثل هذه الممارسة الديمقراطية المفيدة: لماذا لا نفعل الشيء ذاته هنا؟ أي، لماذا لا نشاهد مناظرات من هذا النمط بين المرشحين للرئاسة والمرشحين للبرلمان أو للمجالس النيابية الوطنية أو لرئاسة الوزراء والحكومات؟

يبدو للمرء أن أسباب الحرمان من هذا النوع من المناظرات المباشرة لرؤية وسماع «من ننتخب» وننتقي، عديدة، ومنها أن طبيعة السلطة وإدارة القوة السياسية في مجتمعاتنا التقليدية تكمن على عدد من المسلمات، كأن يكون من المفترض أن يحرم المعارض من نعمة أو مَلَكة الصوت: فهو غالبا ما يكون مغمورا ومغموط الحقوق، لا يسمح بسماع صوته: ليس لأنه أخرس، ولكن لأنه يتجاوز حدوده، أو حدود «اللياقة» في طرائق مواجهته للأعلى أو للسلطة.

من هنا صار تقليد المناظرة تقليدا غريبا ومضطربا بل ومرفوضا في ثقافتنا وفي عالم يكون فيه صاحب اليد العليا هو الكائن الوحيد القادر على إنتاج الصوت المسموع، بينما يكون غيره أخرسا لا قدرة لديه على التعبير عما يريد.

لنلاحظ العديد من الممارسات الانتخابية في عالمنا الذي غالبا ما نسميه بـ «العالم الثالث» (عدا الهند، مثلا)، إذ نجد أن أهم أسلحة مواجهة التغيير ومقاومة الجديد هو سلاح حرمان الخصم من أن يُسمع صوته. هذا لا ينطبق على الحياة السياسية الأميركية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالتنافس على مؤسسة الرئاسة فيها. في عالمنا «الدافئ» تكون الانتخابات الرئاسية بلا منافس أو تنافسات، إذ غالبا ما يسمى الرئيس ويكتفي الجمهور بالاحتفاء والاحتفال بـ»الترئيس». وهكذا صار هذا تقليدا مؤسفا حرم العديد من المنافسين الجيدين من فرص التنافس والخدمة العامة في عالمنا. أنا شخصيا قضيت حياتي في جمهورية لم ينتخب لها رئيسا واحدا قط. منذ تأسيسها في 14 يوليو/ تموز العام 1958. الرؤساء يأتون ويذهبون مثل الغيوم العابرة، أي بالانقلابات العسكرية أو بالتغيرات العنيفة، إن لم يكن بتناسل السلطة أو توريثها. وللجمهور الاكتفاء بالقبول بالأمر «الواقع» الممرر عبر الإعلام الوحيد الجانب، المركزي أو «الموجه». ليس لدينا الوقت الكافي للمناظرات ولمثل هذا «الهراء الأميركي»! ذلك أن الرئاسة تأتي وتذهب بطرائق أخرى، تتبعا لخطى الأقدمين، ومنها طريقة «البيان رقم واحد» الذي تعودنا سماعه على حين غرة في إحدى صباحات شهر يوليو، شهر الثورات!

لقد حاول الرئيس السابق صدام حسين استثمار الارتكان الأميركي إلى المناظرة وثقافتها الشائعة من أجل تحقيق مكاسب في الصراع الذي نشب مع الغرب بعد غزو دولة الكويت الشقيقة، مقترحا على الرئيس السابق جورج بوش الأب نوعا من «المناظرة» بواسطة تسجيل نداء أو حديث للرئيس الأميركي موجه إلى الشعب العراقي، مقابل حديث للرئيس السابق موجه إلى الشعب الأميركي، علّ في ذلك خلاصا من الحرب التي كانت محققة، لا مفر منها. بيد أن هذه اللعبة لا يمكن لنا إتقانها أو لعبها بالطريقة الصحيحة في مقابل من هم خبراء بها، كالرئيس الأميركي أعلاه، فكانت النتيجة الضحك على الإعلام العراقي المركزي «الموجه» الذي سارع سنة 1991 إلى عرض حديث بوش للجمهور العراقي عبر محطة التلفاز الوحيدة العاملة في العراق وقتذاك حيث كانت الفضائيات من المحرمات، بينما رد البيت الأبيض بأنه لا يستطيع أن يفرض على الجمهور وعلى شبكات التلفاز الأميركية عرض حديث للرئيس السابق صدام حسين بطريقة قسرية، الأمر الذي أشعر النظام العراقي بأنه قد أستُغفل ببساطة متناهية. وقد حاول الرئيس السابق فعل الشيء نفسه في مقابلته الشهيرة مع صحافي الـ CBS دان راذر «Dan «Rather الشهير قبل حرب 2003 ببضعة أيام، إذ إنه طالب بمناظرة مع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، الأمر الذي قاد إلى شعور دان راذر بالمفاجأة والذهول وخاصة أن الحرب كانت قاب قوسين أو أدنى. لم تتحقق المناظرة التي طالب الرئيس السابق بها، ولم تتمكن من إعطائه الفرصة لتبرير الوضع المعقد بين العراق والولايات المتحدة، ولو أن مناظرة من هذا النوع قد عقدت بوساطة دان راذر، لكانت اليوم قد عرضت آلاف بل مئات الآلاف من المرات كي يحفظها الجمهور العراقي عن ظهر قلب: ثلاث مرات يوميا، مرة مع الفطور والثانية مع الغداء، وثالثة بعد العشاء!

إن خلاصة الكلام تتجسد في أن الديمقراطيات الفتية في الدول النامية هي بحاجة إلى ممارسات أعمق تسمح لها بالخروج من سلة العالم الثالث التقليدي إلى صنف العالم المتقدم، حيث يكون لكل متنافس صوته المسموع وصورته المرئية، كما يحدث اليوم في العالم الغربي الذي نخصه بنظرات الاحتقار الدونية ولا نملك من الأدوات التي تجعله يخصنا بما يكفي من التقدير.

* أستاذ محاضر في جامعة ولاية أريزونا. والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»

إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"

العدد 2447 - الإثنين 18 مايو 2009م الموافق 23 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً