العدد 2480 - الأحد 21 يونيو 2009م الموافق 27 جمادى الآخرة 1430هـ

إيران... ومخاطر المواجهة بين السلطة والشارع

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يبدو أن إيران بدأت تتجه رويدا نحو أزمة مفتوحة على احتمالات لا يعرف من الآن القعر الذي ستستقر عليه. والاحتمالات المجهولة أخذت ترتسم ميدانيا بعد أن رفضت القوى المنافسة على رئاسة الجمهورية مبدأ القبول بالأمر الواقع والإقرار بالنتائج التي أعلنها وزير الداخلية (المتهم الرئيسي بالفساد والرشوة والتزوير) مقابل رفض السلطة السياسية القبول بالاعتراض القانوني وإقفال الباب أمام إعادة الانتخابات أو فرز أصوات صناديق الاقتراع في كل أنحاء الجمهورية الإسلامية.

إقفال الأبواب أمام تسوية عقلانية تصالحية تتحمل مسئوليته السياسية والمعنوية السلطات العليا لأنه لم يترك للشارع سوى خيار المواجهة والاحتجاج الدائم والتمسك بالموقف المبدئي.

السلطة وضعت نفسها في الواجهة واختارت سياسة المواجهة مع الشارع والاصطدامات المحدودة التي حصلت أمس في بعض المدن والمواقع تشكل بداية انزلاق نحو توترات مفتوحة. المواجهات ليست بالضرورة ستؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير صورة المعادلة أو إعادة تشكيل سلطة سياسية جديدة ومتوازنة تلعب دور الضابط والراعي للمتناقضات. فالاصطدامات عادة لا تنتهي إلى تكوين هيئة مضادة إلا إذا اعتمدت على مجموعة شروط ومعطيات مخالفة لتوجهات الدولة. وهذا المشروع المضاد غير موجود في إيران الآن في اعتبار أن التعارضات قائمة بين أنصار النظام وبناة الدولة ورجال الثورة. فالكل يتحرك تحت سقف دستور الجمهورية ولا توجد توجهات انقلابية تريد كسر الدولة وتغيير النظام.

بسبب هذا التشابك في بنية العلاقات الداخلية يرجح أن تتشكل مراكز قوى متضادة في إطار السلطة بين تيار إعادة ترتيب التوازن في سياق تسووي يضمن الاستقرار لمختلف تكوينات الثورة وأطرافها وبين تيار يريد احتكار مصدر القرار وضبطه في دائرة قبضة حديد لا تتردد في استخدام القوة لكسر هيبة الشارع ودوره الخاص في المعادلة السياسية.

ما يحصل الآن في إيران لا يمكن تفسيره في سياق منهج واحد. الا أن المكشوف من الصورة يوضح نمو كتلة سلطوية أخذت تتخوف من الشارع وبدأت تتوجه إلى كسره وحشره في البيوت. وهذه النقطة تعتبر جديدة في تاريخ الثورة التي اعتمدت تقليديا على الشارع خلال العقود الثلاثة من عمرها. فالسلطة في إيران كانت معروفة بأنها تتفاخر بعدم خوفها من الشارع وكانت دائما تستخدمه في إطار استعراض القوة سواء في سياق تعديل توازنات الداخل أو في مجرى المواجهات الدائمة مع أعداء الثورة والدولة في الخارج.

الجديد أن السلطة بدأت تتخوف من الشارع وأخذت تتراجع في سياسة الاعتماد عليه لشرح تصوراتها بشأن الاختلافات الداخلية والمواجهة الخارجية. لجوء السلطة إلى الأجهزة الأمنية وأدوات القمع ومؤسسات رسمية (الحرس الثوري، قوات الاحتياط) للدفاع عن وجهة نظرها وتخويف الشارع ومنعه من حق الاحتجاج والتظاهر يشكل خطوة تراجعية في هيبة الدولة. فالشارع الذي كانت تتفاخر به السلطة وتعتبره قوة مرنة طيعة ومطواعة ويمتلك الاستعداد للتضحية بنفسه دفاعا عنها بدأ يتجه نحو ضفة الاعتراض وعدم القبول بالإملاءات. وهذا الجديد في المعادلة يطرح فعلا سلسلة أسئلة بشأن النهاية التي ستصل إليها المواجهة في حال انزلقت السلطة نحو الإفراط في استخدام القوة لفرض وجهة نظرها الوحيدة والأحادية؟

خطورة المسألة أن الشارع منقسم على نفسه. وداخل كل قسم هناك فرقاء وتوجهات ليست بالضرورة متوافقة على برنامج واحد ومشروع سياسي موحد. والانقسام في حال تطور إلى صدامات دموية متتالية سيضع إيران الجمهورية في موقع حرج يزداد صعوبة إذا امتدت دورات الاحتجاج واتسع نطاقها.

الانقلاب على الشارع

انقلاب الشارع في تنويعاته على السلطة أهم تطور في مشهد الصورة. فالشارع الإيراني كان مفخرة الدولة والثورة وكانت طهران تتباهي أمام العالم بأنها السلطة الوحيدة التي تعتمد عليه وتعود إليه للاستفتاء أو الاستطلاع أو اختبار القوة. الآن أخذ الشارع المشروخ إلى جبهات ومراكز قوى أخذ يفلت من رقابتها وبدأ يتوجه من دون أوامر أو توجيهات عليا للتحرك خارج دائرة السيطرة.

هذا الواقع الذي بدأ يتشكل في المسرح الإيراني يحتاج إلى وقت لتحديد توجهاته المضمرة ولكن لاشك تتحمل السلطة المسئولية في انفراط التعاقد السياسي بين الدولة والشارع. فالانحياز الذي أظهرته القيادة السياسية في معركة رئاسية بين أنصار النظام (موالاة ضد موالاة) أطلق تموجات حرارية غير منظورة أحدثت مفاجأة غير متوقعة. وزاد الطين بلة نمو نزعة الاستبداد الفردي القائم على إطلاق محمود أحمدي نجاد «تصريحات طاووسيه» يمكن أن يتخوف منها الخارج ظرفيا ولكنها تفقد قيمتها السياسية داخليا. فالتخاطب مع الداخل بلغة القوة والعنف والتهديد يؤدي عادة إلى نتيجتين: إما كسر شوكة الشارع وإذلاله سياسيا من خلال الترهيب النفسي، وإما إلى تحدي مناعة الشارع واستفزازه واستنفاره ودفعه عنوة إلى الخروج خوفا من الانغلاق والعزلة.

في النتيجة تبدو السلطة هي الخاسر الأول في الوجهتين. إذا انكسرت شوكة الشارع وأذل وانكفأ إلى الأحياء والبيوت تكون إيران خسرت قوة حيوية ومعنوية تفاخرت بها طوال 30 سنة في إطارها الجغرافي والإقليمي. وإذا استفز الشارع ودفع عنوة للخروج وتحدي السلطة والقبول بالمواجهة وتفضيلها على السكوت تكون إيران خسرت مساحة من الاستقرار كانت تستخدمها سابقا في المناورات الدولية أو حتى في المفاوضات المطروحة عليها في المرحلة الراهنة.

الدولة الآن تقلصت خياراتها ولم تعد في الموقع السابق الذي كانت عليه قبل 12 يونيو/ حزيران الجاري. والسبب تتحمل مسئوليته السلطة السياسية حين قررت الانحياز والابتعاد عن موقع الوسط الذي يدير أجنحة الدولة من موقع الراعي لكل الأطياف والتوجهات.

هل فقدت سلطة إيران فرصة العودة إلى موقع الحكم لا الحاكم أم أن الاحتمالات لا تزال مفتوحة؟ الاحتمالات مفتوحة حتى الآن ولكنها أصبحت مشروطة بمجموعة عوامل تبدأ بإقلاع رئيس الجمهورية المنتخب عن استخدام لغة بخارية لا قيمة لها في معادلة الداخل سوى إشعال وقود الانفجار والتحريض على الكراهية والاقتتال الأهلي وتنتهي باعتماد المصالحة مع الشارع والذهاب نحو خطة عمل تسووية تصالحية ترتب العلاقات في دائرة التوازن بين مراكز القوى.

العالم بدأ يتغير سيكولوجيا بعد انهيار «تيار المحافظين الجدد» وطرده من البيت الأبيض. وخروج مشروع التقويض من إدارة واشنطن أضعف عناصره الإقليمية في دائرة «الشرق الأوسط». وهذا المتغير السيكولوجي لا بد أن تدركه السلطة السياسية في طهران حتى لا يفوتها القطار وتنقلب على خطابها التقليدي وتعاملها الحيوي مع الشارع. إعادة هيكلة الخطاب السياسي يشكل رافعة داخلية لإعادة تأسيس علاقات متوازنة مع مراكز القوى ما يعطي القيادة دفعة معنوية مطلوبة للتجاوب مع دعوة «اليد الممدودة» وتقبل الدخول في إطار المفاوضات الشفافة والمفتوحة.

إقفال الأبواب مع الخارج المعطوف على تكسير قنوات التنفيس في الشارع الإيراني (المشهود له بالحيوية) وتخويف الناس وقطع الخيارات أمامهم كلها مجموعة عوامل تؤدي إلى انسداد آفاق الحل (التسوية) وتدفع القوى نحو الانفجار والتصادم.

هناك فرصة للتراجع. والمشكلة في تعطيل هذا الاحتمال نمو «الرؤوس الحامية» التي لا تقرأ جيدا المتغيرات. وهذا النمو المضطرد في «الأجنحة الطاووسية» يشجع دائما على المغامرة ودفع السلطة نحو الاضطراب والشارع نحو الاحتجاج. إيران بدأت تتجه رويدا نحو أزمة مفتوحة على احتمالات مجهولة. والسؤال ليس من يربح: الشارع أم السلطة؟ السؤال أن إيران ستخسر في الاتجاهين

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2480 - الأحد 21 يونيو 2009م الموافق 27 جمادى الآخرة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً