العدد 2504 - الثلثاء 14 يوليو 2009م الموافق 21 رجب 1430هـ

دول عدم الانحياز... من الحياد إلى الشراكة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تبدأ اليوم دول عدم الانحياز اجتماعات القمة الخامسة عشرة في شرم الشيخ وسط قراءات تحاول إعادة النظر في وظائف حركة تأسست في مؤتمر باندونغ في العام 1955 وبدأت نشاطها في بلغراد في العام 1961. فالحركة التي قامت على مبادئ عامة بحضور قادة كبار في حقبة الخمسينات من القرن الماضي تعرضت لضغوط قوية من الدول الكبرى ونجحت في تجاوزها بالتأكيد على حق الدول الصغيرة والنامية في التمايز والاستقلال وعدم الانحياز للمعسكر الاشتراكي (السوفياتي) أو الرأسمالي (الأميركي).

فكرة عدم الانحياز جاءت ردا على الثنائية الدولية والتأكيد على حق الدول المستقلة حديثا عن الاستعمار (الأوروبي آنذاك) بعدم الانجرار نحو «الحرب الباردة» أو الانخراط في سياسة التجاذبات بين المعسكرين. فالفكرة كانت محاولة ذكية من الرئيس المصري جمال عبدالناصر والرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو والرئيس اليوغوسلافي جوزف تيتو ورئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو للتهرب من الضغوط الكبرى التي كانت تمارسها موسكو وواشنطن على «العالم الثالث» للانضواء تحت مظلة حلف وارسو أو مظلة الحلف الأطلسي (الناتو). وجاءت الفكرة الذكية في وقتها المناسب معتمدة على مجموعة مبادئ تبين لاحقا وبالتجربة الملموسة مدى صحتها.

وضع قادة الدول الأربع (مصر، إندونيسيا، يوغوسلافيا، الهند) سلسلة مفاهيم لتبرير «عدم الانحياز» ارتكزت على نقاط عامة ولكنها تعكس في جوهرها مخاوف الصغار من الكبار. فالمبادئ أكدت على حق تقرير المصير، الاستقلال الوطني، السيادة، رفض التمييز (الفصل) العنصري، مقاومة الاستعمار، عدم الانحياز للتكتلات الكبرى أو الأحلاف العسكرية، والابتعاد عن مظلة الحرب الباردة (الثنائية الدولية).

هذه المبادئ العامة لاتزال حية حتى اللحظة على رغم رحيل الزعماء الأربعة وتحطيم يوغوسلافيا وتهميش إندونيسيا والعدوان على مصر (يونيو 1967). الأفكار الصحيحة لا تموت حتى لو توفي أصحابها وتغيرت الظروف وتطورت الأحوال. والأفكار الجيدة والبريئة يصعب دفنها وأحيانا تتقدم مع الزمن وتصبح مجموعة شعارات عامة تأخذ بها كل الشعوب بما فيها تلك التي كانت تعيش في إطار الانقسام الدولي بين المعسكرين الشرقي والغربي.

الآن أصبحت أفكار دول عدم الانحياز من الثوابت والمسلمات وبات من الصعب إنكارها أو تجاهلها حتى في تلك الخطابات الرسمية التي يتبادلها قادة دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين والولايات المتحدة في المناسبات الثنائية والمشتركة والدولية.

أفكار دول عدم الانحياز شكلت قوة ممانعة وازدادت فعالية مع تحولات الزمن لأنها انطلقت من رؤى صحيحة. فالدول التي رفعت تلك المبادئ ربما تراجعت اقتصاديا واهتزت مكانتها الإقليمية أو اختفت عن الخريطة السياسية (يوغوسلافيا) إلا أن أفكار تلك الدول اتسعت تأثيراتها وبدأت عواصم الغرب والشرق تأخذ بها وتروج لها بصفتها تشكل الإطار الفكري للمصالح العامة والشراكة الإنسانية.

روح «عدم الانحياز» لم تمت بفعل تقادم الزمن بل غادرت مناطق العالم الثالث وأخذت تتحول إلى مبادئ مشتركة للشعوب التائقة للتقدم والنهوض والمساواة ورفض القهر ومكافحة التمييز. وهذه الروح لم تعد الآن مكروهة ومنبوذة ومستغربة كما كان حالها في خمسينات القرن الماضي لأنها بدأت تتأسس عليها مجموعة مفاهيم تعتمد على حيثيات سياسية ومنظمات أهلية وقطاعات مدنية. وبسبب هذه الوظائف الجديدة تبدو أفكار عدم الانحياز على بساطتها الأكثر فعالية وحيوية في عصرنا لأنها نجحت في تخطي الحواجز الزمنية واختراق الصعوبات السياسية. وحين تتحول الفكرة إلى حاجة تستطيع أن تصمد وتكسب بفعل قدرتها على كسر الإطار النظري للمفاهيم ودفعها عمليا إلى سياق الاحتراب الميداني السلمي والمسالم.


معركة أفكار

خسرت دول عدم الانحياز الكثير من المواقع وتراجعت مكانتها الإقليمية ولكنها اكتسبت معركة الأفكار وجعلت من مبادئ الحركة نقطة ارتكاز لمفاهيم علاقات الاحترام بين دول العالم. وهذا الكسب الفكري يعزز الحاجة إلى تجديد وظيفة دول عدم الانحياز وتطويرها وإعادة هيكلتها لتصبح على سوية التحديات في العقود المقبلة.

دول عدم الانحياز بدأت تدخل مرحلة الطور الرابع من تأسيسها. والطور الرابع في حياة الدول أو نمو الإنسان خطير للغاية لأنه أما يؤدي إلى الترهل والشيخوخة والغياب عن مسرح الزمن أو يشكل مناسبة لإعادة التجديد من خلال توسيع الأفق والرؤية على أساس مد قاعدة متقدمة لشبكة العلاقات وقنوات الاتصال.

الحركة تأسست في الخمسينات (باندونغ) وانطلقت في الستينات (بلغراد) وكافحت للحفاظ على وحدتها واستقلالها في فترة «الحرب الباردة» ونجحت في التعايش وتبرير وجودها بعد انهيار الاستقطاب الثنائي (التجاذب الدولي) في التسعينات وحافظت على دورها المحدود والنسبي في ظل فترة «السلم البارد» وتفرد الولايات المتحدة في قيادة العالم.

الآن بدأت دول الانحياز تدخل طورها الرابع في ظل تراجع أميركا عن سياسة التفرد والانفراد وبدء استعدادها للاتجاه نحو تبني فكرة المشاركة الدولية في إطار مفهوم تعددي لا يستأثر بالقرار ولا يعزل القوى الأخرى عن حق التدخل في تقرير مصيرها.

هل تنجح دول عدم الانحياز في إعادة تشكيل منظومتها الفكرية في قمة شرم الشيخ في ضوء المتغيرات الدولية والإقليمية؟

الأفكار الصحيحة لا تغيب عن مسرح التاريخ مهما تعاقب الزمن. ودول الانحياز التي اجتازت طور التأسيس والانطلاق في الخمسينات والستينات، وطور «الحرب الباردة» في السبعينات والثمانينات، وطور «السلم البارد» في التسعينات والعقد الأول من القرن الجاري، تستطيع إعادة إنعاش وظائفها في طور الشراكة الدولية وتعدد الأقطاب في حال نجحت في ترتيب مهماتها الفكرية في مرحلة يشهد العالم معركة كبرى في دائرة صراع الإرادات. ظروف العالم باتت تضغط على دول عدم الانحياز للانتقال من الحياد إلى الشراكة. وهذه مهمة جديدة لا بد من التعامل معها على سوية متقدمة.

اليوم تبدأ دول عدم الانحياز قمتها في شرم الشيخ في مرحلة يشهد العالم تحولات لا تقل أهمية عن تلك التحديات التي واجهت عبدالناصر وسوكارنو وتيتو ونهرو في الخمسينات. فهل تكون دول الجنوب (العالم الثالث) على السوية نفسها وتعيد تأسيس مجموعة مفاهيم عادلة في فترة بدأت دول الشمال تتراجع مكانتها وأخذت تعترف بدور الشعوب غير الأوروبية والأميركية في بناء عالم جديد متعدد الأقطاب ومتنوع الحضارات والثقافات؟

الإجابة تتطلب حاجة، والحاجة تتطلب التحدي، والتحدي يتطلب استجابة. كل هذه العناصر موجودة، المشكلة تبقى في إرادة القوة (القيادة) القادرة على استخراجها وتصنيعها ودفعها باتجاه المشاركة في بناء الحاضر والمستقبل.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2504 - الثلثاء 14 يوليو 2009م الموافق 21 رجب 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً