العدد 2510 - الإثنين 20 يوليو 2009م الموافق 27 رجب 1430هـ

عوالم الوعي... وطبقات الوجود

هبة رؤوف عزت Heba.Raouf [at] alwasatnews.com

كاتبة مصرية

عطفا على مقال سابق عن ألوان من الموت، كموت القلوب لدى الأفراد، وموت الوعي الجماعي لدى الأمم، وموت الهمة لدى الشعوب، جلست طوال الأسبوع الماضي أتأمل في موت آخر هو الموت الجزئي لأجزاء فينا... خفية، فقد يموت فينا جزء ويعيش آخر، فدلني تفكيري على أن الإنسان يعيش في عوالم مختلفة تخلق لديه طبقات من الوعي، هي كما علمنا أساتذتنا: عالم الأفكار والقيم، وعالم الأشخاص، وعالم المؤسسات، وعالم العلاقات.

قد يعيش إنسان في عالم القيم والأفكار لكنه لا يتواصل، تضمر لديه القدرة على بناء العلاقات الصحية والتفاعل مع المحيطين، فيموت ككائن اجتماعي رغم عبقريته، ويتحرك في المؤسسات فيزيد أداءها لكنه لا يتمكن من التفاعل مع أشخاصها، يمشي ناجحا بربع ميت من عالمه، وقد يحظى بالتقدير المهني ويترقى في العمل المؤسسي لكنه يعيش وحيدا بلا أصدقاء أو أسرة.

رأيت في الحياة هذه النماذج، بعضها أدرك المشكلة مؤخرا فأحيا ما مات من علاقات باستعادة التواصل، والاعتذار، وتغيير الطباع والعادات، والبعض الآخر أنكر أهمية ذلك فعاش ملء السمع والبصر، لكنه حين مات لم يمش في جنازته صديق أو صاحب، فقط أهله، بل غاب بعضهم زهدا في صحبته لمستقره الأخير أو بخلا بالوقت أن يضيع في جنازة بخل صاحبها مبكرا على الآخرين بوقته واهتمامه.

مثال آخر هو من يعيش بلا قيم أو فكر رفيع، يجري بين الناس جري الوحوش، تغلب على قراراته النفعية، يبني عليها صداقاته وعلاقاته، ويستغل المؤسسات في تضخيم منافعه، ولا يبالي بالقيم ويدوسها في طريقه، وينتهي به المآل لنجاحات... بناها على أشلاء الآخرين، وسمعة سيئة تسبقه إلى حيث يذهب.

تتعدد الأمثلة، نختار في لحظات مختلفة ما قد يكفل الحد الأدنى من الحياة لمستوى من الوجود أو الوعي، وقد نختار أن يضمر مستوى آخر حتى يموت.

هناك عالم خامس قد يدخل على هذه المصفوفة فيشتتها ويقتل الحي في مكوناتها، هو عالم الأشياء.

لا نستغني عن التعامل مع الحياة في مقوماتها المادية، نوظفها لدعم المؤسسات وتحقيق الأساس اللازم لنمو العلاقات، وتحويل القيم لآليات تمكنها من التجلي في الواقع، لكن حين تجتاح معايير عالم الأشياء -خاصة السلع- عوالمنا المختلفة، ويتم «تشييء» مستويات الوعي، فإن الكثير من القيم والعلاقات تموت بالسكتة القلبية ويصعب إفاقتها مهما حاولنا إنعاشها.

وقد يمكن مقارنة أنواع الشخصية التي يتحدث عنها علماء النفس بمستويات الوعي والوجود، من الناس من يعيش عوالمه المختلفة بتوازن وتناغم واعتدال، فيسعد وينشر السعادة حوله، ومنهم من مات مستوى من مستويات وعيه ووجوده، فإما أن يشقى هو في صمت أو يشقى به من حوله.

والضربة في عالم القيم تكون في مقتل، خذ مثال الأب الذي ينفق على أبنائه فيقيم المؤسسة على دعائم مادية، ويهتم بصورته المهنية فيحقق لنفسه المكانة الاجتماعية المرجوة، لكنه لا يقوم بدوره كأب في الرعاية والمسئولية ويؤسس علاقته مع زوجته على الهيمنة والسلطة المطلقة.

هذا أب ميت حتى لو ملأ البيت ضجيجا، وحتى لو استمرت الأسرة كمؤسسة شكلا رغم فشلها في تحقيق مقاصدها، لأن صورة الأب راعي القيم والقدوة والقوام على الرعاية العاطفية يتم تدميرها تماما في نفوس الأبناء، وقد يعي الأب ذلك فيقوم بالمهمة التعويضية الأسهل بكثير من جهاد التربية ويلجأ لاستمالة الأبناء وتحسين صورته بتوفير السلع والأشياء، فيعوض نقص الرجولة الحانية والأبوة الفعالة بشراء الحديث من الآلات، لكنها لن تعوض أبدا مكانته الضائعة وصورته الميتة كأب غائب وقيمة مفتقدة.

أو انظر لأستاذ الجامعة الذي يحصل العلم من أكبر الجامعات، ويدير مهاراته بكفاءة منقطعة النظير، ويحتل المواقع الإدارية في الجامعة بل قد يتقاتل عليها مع غيره، لكن عالم القيم لديه ميت، وعالم العلاقات ميت، فيدمر طلابه، ويعطي أسوأ نموذج لأستاذ الجامعة الذي هو محط نظر وتطلع الطالب الذي يبحث عن قودة مجتمعية فيرى هذا الوحش الذي لا يقدم له سوى المعلومات الجافة... الميتة.

كان لنا حظ أن عاصرنا جيل أساتذة رواد كانوا لنا آباء قبل أن يكونوا معلمين، واليوم الأستاذ الجامعي الذي يمنح الطالب الرعاية ويبث في روحه القيم الرفيعة أصبح من الندرة بحيث يظن المرء أحيانا أنه غير موجود كالعنقاء... والخل الوفي!

أو خذ مثال الطبيب الذي يحصل على أفضل الدرجات العلمية، ويؤسس الوحدات المتخصصة، ويدير علاقاته مع النخبة ليرفع من اسمه وشأنه، لكنه يهدر علاقته بالمرضى، ويسيطر عليه عالم الأشياء والبحث عن الثروة والشهرة، فيهدر قيمة الحكمة والرحمة، ويحيي الأبدان لكنه يميت المهنة ويهدر الثقة في قطاع كامل من العلماء.

عوالم الوعي وطبقات الوجود هذه تؤثر في تشكل المجتمعات، وحين يموت لدى الجماعة الشعور بالعدل ويستمرئ الناس الظلم فإن هذا الظلم والفساد مؤذن بزوال العمران.

البداية تكون في النفوس، لذا فإن إحياء موات النفوس هو البداية، وإذا كان من أحيا أرضا مواتا فهي له فإن من أحيا نفسا ميتة أو عالما من عوالمها أو مستوى من مستويات وجودها فكأنما أحيا الناس جميعا.

قد تحتاج القيم لتجديد، وقد تحتاج المؤسسات لتنظيم، وقد يحتاج الأشخاص لإعادة تأهيل، وقد تحتاج العلاقات لإعادة بناء، وتحتاج الأشياء لتوظيف رشيد... وتحجيم.

وحين نصل لتوازن عوالم الفرد، ونحقق عدالة عوالمنا المشتركة، سننهض.

إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"

العدد 2510 - الإثنين 20 يوليو 2009م الموافق 27 رجب 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 7:24 م

      رائع جداً

      رااائع جداً ؛ بارك الله فيكم ..
      وفى انتظار مزيد من نظراتكم النظيفة الصادقة ..

اقرأ ايضاً