العدد 2513 - الخميس 23 يوليو 2009م الموافق 30 رجب 1430هـ

مفهوم التحيّز والتمركز المعرفي في التفكير الديني الإيراني المعاصر (4-4)

عبدالجبار الرفاعي comments [at] alwasatnews,.com

مفكر اسلامي عراقي

لقد استعار شريعتي بعض آراء المثالية التاريخية لهيغل، كما أخذ من ماركس «البناء التحتي والفوقي، والصراع الطبقي، والأيديولوجيا، والاغتراب». واقتبس فكرة «سجن الذات» من هايدغر، وعممها إلى ما أسماه «السجون الأربعة» بعد أن ضم إليها: سجون «الطبيعة، والمجتمع، والتاريخ». كذلك استفاد من ظاهريات هوسرل واهتم بسارتر، وأفاد من وجوديته في تحليل بعض الظواهر. كما حاول أن يتوكأ على فكرة الاعتراض التي قررها ألبير كامو، بقولـه: «أنا اعترض، إذن أنا موجود،. يكتب شريعتي «إنني اتخذت من كلمة ألبير كامو هذه درسا لحياتي، على أساس نفس الرسالة والمسئولية الصغيرة التي أحس بها، بالنسبة لوعيي وإحساسي وعقيدتي».

لقد استقى شريعتي أدواته التحليلية من علم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، وفلسفة التاريخ، والأنثروبولوجيا، والميثولوجيا، وهيمنت على عقله الفلسفة الاجتماعية الفرنسية والألمانية أكثر من سواها، لكنه ظل أقل تعاطيا مع مقولات الفلسفة والآراء الفلسفية، ربما بسبب تخصصه ودراساته في الاجتماع ومقارنة الأديان.

وكان يدرك أنه اجترح دربا لم يمهد من قبل لدى الدارسين في ديارنا، فالدراسات الإسلامية في الحواضر العلمية المعروفة، وكليات الدراسات الشرعية، تستعين بالمناهج والأدوات الموروثة، ولا تتقن ـ وربما تخشى ـ التعاطي مع مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة.

ولعلّ روح الاقتحام التي اتسمت بها شخصية شريعتي، هي ما حفزه للسير في ذلك الدرب، والمغامرة بالمضي فيه حتى النهاية، على رغم الهجاء البالغ القسوة الذي تعرض لـه، وشتى ألوان التهم، وفتاوى تفسيقه وضلاله. إنه كان مدركا بما يحف بمغامراته من مخاطر، وما يكتنفها من مزالق، باعتباره يدشن نمطا جديدا في دراسة الدين والاجتماع الإسلامي، مستندا إلى مفاهيم ومناهج مختلفة. فقد تحدث عن ذلك بصراحة: «أهم درس أستطيع أن أعطيه لطلابي كمعلم، هو أن عليهم، لأجل معرفة عميقة بالدين، انتهاج سبيل العلماء غير المتدينين، بل المناهضين للدين، أو حتى من كان ينشد محاربة الدين. أنا أسلك هذا السبيل، وأتحدث بنفس اللغة المنددة بالدين، والمتنكرة لدعائمه الغيبية، تحت عناوين: علم الاجتماع، والاقتصاد، وفلسفة التاريخ، وعلم الإنسان. أني أتحدث بهذا المنهج الذي اعتبره أفضل المناهج لمعالجة المسائل العلمية والإنسانية. إنه المنهج ذاته الذي نهجته أوروبا منذ القرن الثامن عشر، لدراسة مشكلاتها الإنسانية بجميع أبعادها، ومناوئة الدين في المجتمع. سأعالج قضايا الدين حتى من منظور طبقي اقتصادي، لكن بموضوعية، ومن دون تعصب وتحيز ما استطعت».

لقد حسم شريعتي خياره، وقرر استخدام المناهج الغربية في دراسة الدين والاجتماع الإسلامي، ولم يتوقف عند الجدل الواسع الذي لا يزال محتدما، بشأن مشروعية دراسة الدين والمجتمعات الإسلامية، بمناهج مستوردة من أديان ومجتمعات أخرى. فبدلا من اصطفافه بجنب أحد فرقاء الصراع، واستنزاف تفكيره في التدليل على مشروعية أولا مشروعية ذلك، بادر لحشد مختلف المناهج في دراساته، ولم يتردد في انتقاء واستخدام أي مصطلح أو مفهوم، يحسبه مناسبا لحقل بحثه. وكأنه، بمغامرته هذه، أراد القول: إن السبيل الأمثل لاختبار المناهج وأدواتها هو بتطبيقها مباشرة على ميادين معينة. وان اكتشاف ما تتمخض عنه عملية التطبيق من معطيات، هو معيار اختبارها. كما أن نتائج التطبيق ستقودنا إلى استئناف النظر في بعض المناهج، وإمكان تمثلها في سياقات حضارية أخرى، فنستبعد منها أو نختزل ما لا يتسق مع بيئتنا، أو لا يمكن توطينه ودمجه في محيطنا الثقافي.

وقد صرح شريعتي بأنه يعمل في دراساته على صياغة رؤية اجتماعية من منظور إسلامي، فمثلا يلمح إلى محاولته هذه بإشارة دالة قائلا: «باعتبار تخصصي العلمي هو في علم اجتماع الدين» وهذا التخصص منسجم مع عملي» فإني أسعى لتدوين نوع من علم الاجتماع المرتكز على الإسلام والمصطلحات المستوحاة من القرآن والحديث».

إلا أنه في مناسبة أخرى يوضح أنّ دراساته لا تتناول المفاهيم المودعة في المصنفات التراثية، مثلما لا تهمه طبيعة هذه المفاهيم في وعاء الذهن، وإنما تنصب جهوده على تمثلها في التاريخ، وأنماط تجليها في الاجتماع البشري. فمثلا يتحدث عن التوحيد الذي يتناولـه في دراساته بقوله: «أعني بالتوحيد حضوره في التاريخ والمجتمع، لا مفهوم التوحيد في عالم الكتب، أو عالم الحقيقة. فليس حديثي بشأن التوحيد الذي تحدّث عنه القرآن، ومحمد (ص)، وعلي (ع). ما يهمني الآنَ هو التوحيد في المجتمع والتاريخ، والأمر هكذا لدي دائما».

ويحاول استخدام مختلف المنهجيات، ويستعين بما يطلع عليه من أفكار في العلوم الإنسانية الجديدة، ليوظفها في حقل دراساته، فلا يتردد في الاستعانة بالمعطيات الراهنة في حقل الميثولوجيا، والنماذج الرمزية، أو غيرها. يكتب في سياق استعارته لتلك المعطيات: «إنني شخصيا أهتم بدراسة الأساطير ولي علاقة دائمة بالأساطير والنماذج الأسطورية». ويضيف «منذ فترة وأنا أعمل في حقل الأساطير، لشغفي بالأسطورة أشد من التاريخ. وأحسب أن ما تشي به الأسطورة من حقائق أوفر من التاريخ، فالأسطورة حكاية وجدت في فكر الإنسان، أمّا التاريخ فهو حقائق أوجدها الإنسان. الأسطورة تحكي التاريخ كما ينبغي أن يكون».

ويمكننا ملاحظة التفسير الرمزي واستعمال الأساليب الحديثة في البحث الميثولوجي في مواضع كثيرة من آثار شريعتي.

وتظل محاولة شريعتي، مع جرأتها وريادتها، عرضة لعدد من الملاحظات النقدية والاستفهامات. باعتبارها توظف أدوات منهاجية متنوعة في دراسة الظواهر الدينية، من دون أن تتنبه إلى أن الأبعاد الميتافيزيقية، التي تنفرد بها تلك الظواهر، ليس بوسعنا إدراكها، واستكناه مضمونها، بوسائل العلوم الاجتماعية الوضعية. مضافا إلى أن شيئا من العناصر المنهاجية والمفاهيم والمصطلحات التراثية المولدة في سياق نشأة وتطور الاجتماع الإسلامي قد يتمكن الباحث من استخدامها، مباشرة، أو بعد تهذيبها، أو تفكيكها، وإعادة بنائها وصياغتها في اطار المعطيات الراهنة للعلوم الانسانية.

عاش شريعتي في عصر طغى فيه صوت النضال، وتسابق المثقفون لتأييد ومساندة الانتفاضات والحركات الثورية، وفي بداية حياته أغواه بريق الشعارات، وشغف بفعل الاحتجاج والاعتراض، فتضامن مع استغاثات الكادحين، ولوعة المحرومين، وأنين المعذبين. وتلاحم في شخصيته المثقف والداعية والباحث والمناضل، وذابت الحدود في وجدانه بين النموذجين، بل أمسى الوجه الحقيقي للمثقف في وعيه هو الداعية، وتحولت في وعيه الثقافة إلى إيديولوجيا، وتمحورت جهوده في «أدلجة الدين والمجتمع». يقول شريعتي: «سألني أحد رفاق الدرب: ما هو برأيك أهم حدث وأسمى أنجاز استطعنا تحقيقه خلال السنوات الماضية؟ فأجبته: بكلمة واحدة، وهو تحويل الإسلام من ثقافة إلى إيديولوجيا».

ما الذي يقصده بالأيديولوجيا؟ وهل يستطيع أن يحتفظ بموقفه المعرفي كباحث يتسلح بالموضوعية ويبتعد عن التحيز ويقترب من الحياد، في الوقت نفسه الذي يوسع دائرة الأيديولوجيا، لتستوعب الدين والثقافة والمجتمع؟!

قبل الإشارة إلى ذلك نقتبس نصا مطولا من آثاره، يضيء هذا المفهوم، ويحدد ملامحه في منظوره.يكتب شريعتي: «الأيديولوجيا عبارة عن عقيدة ومعرفة عقيدة. وهي بالمعنى الاصطلاحي، رؤية ووعي خاص يتوفر عليه الإنسان فيما يتصل بنفسه، ومكانته الطبقية، ومنزلته الاجتماعية، وواقعه الوطني، وقدره العالمي والتاريخي، وفئته الاجتماعية التي ينتمي إليها. وهي المسوّغة لهذه الأمور، والتي ترسم له مسئولياته وحلوله وتوجهاته ومواقفه ومبادئه وأحكامه، وتدفعه بالتالي إلى الإيمان بأخلاق وسلوك ومنظومة قيم خاصة، فعلى أساس رؤيتك الكونية، وابتناء على نمط «علم الاجتماع» و»علم الإنسان» و»فلسفة التاريخ» الذي تحمله، يمكن تحديد ما هي عقيدتك في الحياة، وفي علاقتك بنفسك وبالآخرين وبالعالم؟ كيف ينبغي العيش، وما الذي يجب فعله؟ أي مجتمع يتعين بناؤه، وكيف يتوجب تغيير نظام اجتماعي بشكل نموذجي، وما هي مسئولية كل فرد حيال المجموع؟ وما هي صراعاته، وأواصره، وأشواقه، ومثله العليا، وحاجاته، ومرتكزاته العقيدية، وقيمه الإيجابية والسلبية، وسلوكه الاجتماعي، ومعايير الخير والشر لديه، وبالتالي ما هي طبيعة الإنسان وهويته الاجتماعية؟ وعلى هذا فالإيديولوجيا هي عقيدة تحدد الاتجاه الاجتماعي والوطني والطبقي للإنسان، وتفسر نظامه القيمي والاجتماعي، وشكل الحياة، والوضع المثالي للفرد والمجتمع، والحياة الإنسانية بكل أبعادها، وتجيب عن الأسئلة: «كيف تكون؟» و»ماذا تفعل؟» و»ماذا ينبغي فعله» و»كيف يجب ان نكون؟».

لكن ما هي حدود الأيديولوجيا؟ وماهي علاقتها بالعلوم والمعرفة التقنية؟ يجيب شريعتي: «الأيديولوجيا تهدي للإنسان ما تمنحه له الإمكانات التقنية تماما.ما التقنية إلا مجموعة الجهود الإنسانية الرامية إلى توظيف الطبيعة لتحطيم هيمنتها وجبرها، وفرض احتياجاتنا عليها. الأيديولوجيا تقنية يستعين الإنسان بها وبالمعرفة لتوظيف التاريخ والمجتمع حسب ما يشاء».

ويتداخل مفهوما التقنية والأيديولوجيا لديه، بنحو تصبح «التقنية عبارة عن فرض إرادة الإنسان على قوانين الطبيعة، أوهي استخدام العلم من قبل الإرادة الإنسانية الواعية، للوصول إلى مبتغاة. العلم هو مسعى إنساني لفهم الطبيعة واكتشاف ما فيها، والتقنية هي سعيه لتطويع الطبيعة واستخدامها، واصطناع ما ليس فيها. وفقا لهذا التعريف تكون الأيديولوجيا بالمعنى الأخص للكلمة، تقنية بالمعنى الأعم للكلمة».

ويبدو أن الهموم النضالية لشريعتي، ومحاولاته الواسعة لأنسنة الدين، والتشديد على المضامين الاجتماعية للاسلام، هي الباعث لمسعاه في تحويل الاسلام «من ثقافة إلى أيديولوجيا». وربما تأثر شريعتي بأطروحات جماعة لاهوت التحرير، ودعواتهم لتحويل الدين إلى أيديولوجيا لمناهضة الاستعمار، وتحرير الأرض، وتنمية المجتمع، بعيدا عن مشاغل اللاهوت الكلاسيكي.

وما لا ريب فيه أن هيمنة الأيديولوجيا على وعي الباحث ولاوعيه، تحول بينه وبين الوصول إلى نتائج علمية، أكثر موضوعية وحيادا في تفكيره وبحثه. ذلك أن الأيديولوجيا تقود أية عملية تفكير وتوجهها الوجهة التي تنشدها، وتضاعف التحيزات والمفروضات القبلية في ذهن الباحث، وتسوقه دائما إلى مواقف ونتائج محددة سلفا، باعتبار التفكير الأيديولوجي يسعى إلى تغيير العالم لا تفسيره. وينشغل أنصار الأيديولوجيا في سكب المجتمع في قوالبها ورؤيتها الخاصة، ولذلك ينددون بالتعددية، ويكرهون الناس على تفسير رسمي للمعتقدات الدينية والاجتماعية والسياسية، ويخنقون الأسئلة الكبرى، ويعملون على ترسيخ الجزمية واليقين، وبالتالي بناء مجتمع مقلّد مغلق.

وتكمن المفارقة في أن شريعتي الذي أعلن عن مطمحه في الانتقال بالإسلام «من ثقافة إلى أيديولوجيا تسود كتاباته نزعة تفكير حرة، ترفض المجتمع المغلق، وتدعو إلى إصلاح الفكر الإسلامي، والانفتاح على مختلف الأديان والثقافات. وتحكي آثاره ذائقة فنان، وروح شاعر، وعقلية ناقد، ونزعة متمرد. ومثل هذه السمات في الشخصية يتعذر على الأيديولوجيا الانسجام والتوافق معها. والمفروض أن مثقفا كشريعتي يدرك مثل هذا التهافت، ويعي الالتباس بين الشخصية الأيديولوجية، وشخصية المثقف، والشاعر، والفنان، والناقد، لكن موقفه ظل ملتبسا بين شفافية الفنان الرومانسي، وبين أحلام وتطلعات المناضل.

إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"

العدد 2513 - الخميس 23 يوليو 2009م الموافق 30 رجب 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً