العدد 2527 - الخميس 06 أغسطس 2009م الموافق 14 شعبان 1430هـ

إخوان اليمن... برغماتية السياسة وراديكالية الأفكار(2-2)

نبيل البكيري- باحث وصحافي يمني 

06 أغسطس 2009

فالمعهود من حركة إصلاحية تغييرية في مثل هذا الواقع المعقد هو سعيها الحثيث والدائم إلى استئصال مثل هذه الأورام الاجتماعية التي غدت اليوم عائقا كبيرا أمام مسيرة التحديث السياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ كان من المفترض بهذه الحركة أن تمد أذرعها التربوية والدعوية إلى قلب مجتمعات التخندق القبلي والعمل على إخراجها ما هي فيه من تخلف وفوضى أضرّ بالمجتمع كثيرا. بل سعت الحركة طوال كل تلك الفترة مركزة جل جهودها نحو مناطق كانت أكثر تحضرا وتقدما علميا وثقافيا بفعل احتكاكها بالحراك الثقافي والسياسي للمستعمرة البريطانية عدن، متجاهلة هذه المناطق القبلية التي مازالت حتى اليوم ترزح تحت كاهل الجهل والفوضى والصراع، مشكلة بيئة خصبة لبذر أي فكر فيها، كما هو الحال في صعدة وغيرها.

إلا أن الدور الكبير والفاعل للحركة الإصلاحية كان قد ابتدأ مع عهد الرئيس على عبدالله صالح الذي استفاد من الحركة الإصلاحية كثيرا في توطيد أركان دولته ونظامه الذي كان على وشك التهاوي والسقوط تحت ضربات الجبهة الوطنية في بديات ثمانينيات القرن الماضي لولا وقوف الحركة الإصلاحية بكل ثقلها السياسي والعسكري والفكري في تلك المعركة المصيرية بالنسبة إلى نظام الرئيس صالح.

ويعد مثل هذا الموقف الذي تحول إلى شبه تحالف استراتيجي للحركة مع نظام الرئيس صالح من بداية الثمانينيات وحتى ما بعد انتخابات 1993، بمثابة دليل إدانة لغياب الرؤية السياسية الواضحة التي حكمت العمل السياسي للحركة طوال كل تلك الفترة التي تذبذبت فيها الحركة ما بين الحفاظ على مصالحها الخاصة «ممثلة بهيئة المعاهد العلمية» مقابل غض الطرف والسكوت على الأخطاء الكبيرة والكثيرة التي ارتكبها الرئيس صالح في سعيه إلى توطيد أركان حكمه.

وفيما بعد إعلان الوحدة في مايو 1990 وما لحقها من حراك سياسي على الساحة اليمنية من تبني الديمقراطية كنظام والتعددية السياسية وحرية الإعلام تلك الفترة التي لا شك ستبقى العصر الذهبي للديمقراطية اليمنية، ففي هذه الفترة أعلنت الحركة الإسلامية عن نفسها في إطار حزب التجمع اليمني للإصلاح وضمت في صفوفها الكثير من الشخصيات الاجتماعية والاقتصادية المشيخية والدينية والمثقفة.

إلا أن الملاحظ في أداء الحزب السياسي خلال تلك المرحلة، هو تغليب الظاهرة الشعارتية في أجندته على العمل الاستراتيجي المستقبلي وهو ما أدى إلى إخفاقات سياسية فيما بعد، ففي هذه المرحلة التي تم فيها إعداد دستور دولة الوحدة وجد الإصلاحيون أنفسهم أمام جهاد سياسي كبير حشدوا كل طاقتهم من أجله، غافلين عن ترتيبات كبرى في إطار هذا الدستور الذي عارضوه بقوة من خلال المسيرات وحملات التصويت ضده، وذلك بحجة أن الدستور ليس إسلاميا؛ لأنه لم يتضمن نصا دستوريا يقول إن الإسلام مصدر وحيد للتشريع بل مصدر رئيس.

لا أكون مخطئا هنا إذا قلت إن تلك المادة الدستورية كانت بمثابة «حصان طروادة» التي ضمن بها المؤتمر مشاركة الإصلاح في حرب صيف 1994 بكل ثقله، إذ قايضهم صالح عليها فيما بعد بتحويلها بعد الحرب إلى أن الإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع، مقابل ترتيباته الأخرى من تنازلهم عن حقهم في مجلس الرئاسة وعدد من النصوص الدستورية الأخرى التي يطالب الإصلاح اليوم بتغييرها. بالنسبة إلى النظام الانتخابي كان هناك توجه إلى اعتماد نظام القائمة النسبية وكان المؤتمر الشعبي العام من أول المطالبين به، ولكن العجيب حينها هو موقف الإصلاح الذي كان يرفض هذه القائمة جملة وتفصيلا.

غياب الاستراتيجية السياسية في عمل الإصلاح هو الذي دفع به إلى الوقوف في صف الرئيس صالح والتحالف ضد الاشتراكي مع أن هذا الأخير كان صاحب مشروع ورؤية سياسية واضحة لا شك تتقاطع في كثير من خطوطها مع أدبيات الإصلاح السياسية، من قبيل الديمقراطية التعددية والحقوق والحريات والدولة المدنية وهي المفاهيم التي لا وجود لها في قاموس الرئيس صالح الذي يتربع على كرسي نظام سياسي أسري بحت، إذ لا يعد المؤتمر الشعبي العام كحزب إلا كتخريجة ديكورية للمطبخ السياسي لهذا النظام، أمام الرأي العام الخارجي والمحلي.

إلا أن هذه التقلبات السياسية للإصلاح جعلته أي الإصلاح يدفع الكثير من رصيدة الشعبي كحزب طليعي إصلاحي يسعى إلى التغيير نحو الأفضل والأجمل لجماهير هذه الأمة التي علقت على الإصلاح آمالا كبرى ومستقبلا عريضا وهو ما عكسته الإخفاقات الكثيرة إلى نوع من الإحباط والتمرد والتململ الذي يضرب هذا الوطن اليوم في كل مفاصله وكياناته مهددة بتفتيته إلى كنتونات طائفية مناطقية بغيضة تقتل بعضها بعضا.


جمود الفكر وغياب الخصوصية

فكريا ومنهجيا تُعد الحركة الإصلاحية اليمنية الحديثة من أفقر الحركات الإسلامية كلها بل تعد فكريا وسياسيا عالة على غيرها من الحركات الإسلامية الأخرى وفي مقدمتها طبعا الحركتان الإخوانيتان المصرية والسورية، مع أن طبيعة المجتمع اليمني هو أقرب فكريا إلى المدرستين الإسلاميتين السودانية والمغاربية. لكن الملاحظ على الحركة الإسلامية اليمنية، هو زهدها الكبير في الفكر والمفكرين، وإغراقها في التقليد والمقلدين بعد أن كانت مدرسة إصلاحية وفكرية رائدة في عموم العالم الإسلامي، بفضل أعلامها الكبار خلال القرون الثلاثة الماضية كالشوكاني وابن الأمير والمقبلي وغيرهم.

قد تكون هذه النزعة في التقليد وعدم التجديد التي طرأت على هذه الحركة هو بفعل عاملين اثنين لا ثالث لهما الأول وهو يرجع إلى طبيعة المنشأ والتأثر في المراحل الأولى لتأسيس لدى قادة هذا العمل من اليمنيين الدارسين في القاهرة حينها فضلا عن ما لحق ذلك من تواجد للأعداد كبيرة من المدرسين والأساتذة المصريين والسوريين العاملين في المجال التربوي والتعليمي في اليمن فيما بعد الثورة وحتى مرحلة لاحقة من التسعينيات الماضية، هذا ما يتعلق بالتقليد الفكري والتنظيمي والمنهجي.

ما يتعلق بالتقليد الفقهي والعقائدي وهو ما تحدثنا عنه سابقا ناتج عن المخرجات التعليمية اليمنية للجامعات السعودية والذين توافدوا إلى المملكة بشكل كبير، بحثا عن أعمال في بداية الأمر ليس إلا ولكن الأمر تطور إلى تعلم ودراسة وتأثر بأفكار المدرسة الفقهية والعقائدية السلفية وعودة هذه المخرجات حاملة معها الكثير من أفكار هذه المدرسة ومؤسسة لامتدادات فكرية لها هنا في اليمن كما هو الحال بالنسبة إلى التيار السلفي بشقية التقليدي والحركي، وكان منهم أيضا متأثرون بها في أوساط الحركة الإخوانية الأبعد عن التقليد والجمود، وهم بلا شك من جروا الحركة إلى دائرة التبعية السلفية في بعض المسائل.

وأعتقد هنا أن هذين السببين كانا عائقيين كبيرين أمام نشأة وتكون مدرسة إسلامية إصلاحية يمنية ذات خصوصة بعيدة عن التقليد والجمود، كما هو الحال بالنسبة إلى المدرستين التونسية والسودانية أو حتى المغربية، فلكل من هذه المدارس الفكرية خصوصيتها المحلية على رغم تأثرها، بل ونشأتها بفعل التأثير الإخواني. ففي الحال الإسلامية اليمنية التي كانت مهيئة أكثر من غيرها لأن تكون ذات خصوصية واستقلالية عن غيرها من الحركات بفعل الموروث الفكري والفقهي والإصلاحي اليمني عدا عن بوادر نظرية لعمل حركي تنظيمي مبكر من قبل المفكر الإصلاحي الكبير الأستاذ أحمد بن عبدالوهاب الوريث صاحب مجلة الحكمة، والذي وافته المنية وهو في ريعان شبابه في بداية ثلاثينيات القرن الماضي فضلا عن ما تلا ذلك من عمل سياسي من قبل أحد أهم رموز الحركة الإصلاحية اليمنية الشهيد محمد محمود الزبيري مؤسس «حزب الله» في الستينيات.

إلا أن خطورة هذا التقليد هو في تأخير وعرقلة مسيرة التحديث والإصلاح السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي التي باتت بحاجة إلى مزيد من الاجتهاد والتجديد مسايرة للتغيرات الكبرى التي طرأت على حياة الناس وأحوالهم، وأحوال العالم وتقلباته المتلاحقة في كل مجالات الحياة البشرية التي باتت اليوم مهددة تحت رحمة ما بات يعرف بالعولمة.

صحيح أن هناك تطورا سياسيا متسارعا فيما حققته الحركة الإصلاحية مع شركاء الحياة السياسية في إطار ما عرف بالقاء المشترك الذي يضم إلى جانب الإصلاح أحزابا قومية واشتراكية ومذهبية ما يعد دليل على حيوية الحركة، لكن هذا التطور السياسي مازال منفصلا عن التأطير الفكري والفقهي له، بل مازال هناك من يرى هذا التقارب مع أحزاب المشترك نوعا من الخيانة والتراجع عن صريح الدين بالضرورة. فما لم ينتبه مفكرو الحركة وقادتها إلى هذا الجانب من خلال إحداث جملة من المراجعات الفكرية في إطار منهج وحلقات القواعد التنظيمية تماشيا مع هذه المتغيرات السياسية، سيظل الفعل السياسي مجرد فعل تكتيكي محفوف بالمخاطر والفشل بأية لحظة، وهذا نقطة ضعف خطيرة يستغلها الخصوم وقتما يريدون.

العدد 2527 - الخميس 06 أغسطس 2009م الموافق 14 شعبان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً