العدد 2527 - الخميس 06 أغسطس 2009م الموافق 14 شعبان 1430هـ

دولة المرابطين في مواجهة حركة الموحدين

نشوء دولة الموحدين وصعودها (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

آنذاك تركز جهد الأمير المرابطي علي بن يوسف على مواجهة الخطر الافرنجي في الأندلس ومواجهة حركة الموحدين في المناطق الجبلية حين أخذت تتسع بسرعة مهددة ملك المرابطين بالانهيار. ففي سنة 518 هجرية / 1124م «تسمى محمد بن تومرت السوسي بالمهدي وكان لما اشتهر حينه في قبائل الجبال ووصلوا إليه رحل معهم إلى جبل ابجليز لهرغة فلما صار في منصة الجبل وحماية عشيرته خاطب القبائل ومد يده للبيعة وذلك في سنة 519 هجرية» (المراكشي، الجزء 4، ص68). ويروي ابن القطان أن «المهدي» ارتقى إلى جبل ابجليز في سنة 515 هجرية/ 1121م ومكث فيه ثلاث سنوات وأعلن دعوته، وأخذ يحرض أتباعه على قتال الملثمين (المرابطون)، ثم أمر في سنة 519 هجرية/ 1125م بتمييز الموحدين و«نودي في جبل المصامدة من هرغة وجنفيسة» وأخذ بفرض سلطته في الجبال. ويقال إنه قتل كل من يشك بعصمته وبأنه الإمام وهو المهدي المعلوم، كما فعل بحق هزميرة تينمل سنة 518 هجرية حين ارتكب مجزرة وقيل إنه قتل منهم 15 ألفا. وبعد أن استأصلهم وسبى أموالهم بنى حصن تينمل. ولما ملك المهدي تلك الجبال وما حولها، ضاق الأمر على علي بن يوسف فبعث إليه عسكرا فهزمه.

وبرزت في سنة 519 هجرية حركة ابن ردير الذي عاث في البلاد فسادا خصوصا حول غرناطة الأمر الذي دفع الفقيه القاضي ابن رشد (جد فيلسوف الأندلس) إلى الذهاب إلى مراكش وشرح للأمير علي أمر البلاد وما «بليت به من معاهدتها وما جروه إليها وجنوه عليها من استدعاء ابن ردير، وما في ذلك من نقض العهد والخروج عن الذمة» (المراكشي، جزء 4 ص 72). فأمر الأمير بإجلاء حركة ابن ردير، ونبه القاضي (ابن رشد الجد) الأمير إلى ضرورة بناء الأسوار لمواجهة الأسوأ، فشرع علي بن يوسف في بناء سور مراكش، كذلك أمر ببناء الأسوار في بلاد الأندلس (المرية وقرطبة واشبيلية). وعاد ابن رشد الجد من مراكش إلى قرطبة وتوفي هناك سنة 520 هجرية (1126م) وهي السنة التي ولد فيها حفيده الذي سيكون له شأنه الكبير في قرطبة وتاريخ الأندلس في عهد الموحدين.


حركة المهدي

تطورت حركة المهدي (الموحدون) في سنة 520 هجرية وطاعت له الجبال كلها «فأخذ الأمير علي بن يوسف يبني المراصد بقرب مراكش ويسد الطرق التي ينزل منها أتباع المهدي إلى الأوطية (الأودية)»، (المراكشي، ص 75).

وينقل المراكشي عن ابن القطان رواية طويلة عن حركة المهدي حين أقدم في سنة 521 هجرية (1127م) على جمع 40 ألفا من الرجال ونحو 400 فارس ونزل إلى مراكش فخرجت إليهم لمتونة في أكثر من عددهم مع أميرهم علي بن يوسف فهزموه. وطال حصار مراكش نحو 40 يوما «يلتقون فيه ويتقاتلون» إلى أن خرج علي بن يوسف بعساكره وانهزم ومات من عسكره خلق كثير بالزحام عند باب دكالة، وفر أقوام من عسكره إلى وادي أم ربيع. ثم وصلت التعزيزات وقام علي بن يوسف بهجوم معاكس «فهزمهم وقتلهم قتلا ذريعا» في معركة عرفت بهزيمة البحيرة إذ «قتلوا فيها أجمعين» ولم يبق إلا نفر يسير مع عبدالمؤمن و«قدم عبدالمؤمن مرة أخرى وبات على هيلانة فحشدهم ورجع بهم إلى مراكش فهزموا أيضا» وسقط للموحدين 12 ألفا وعاد عبدالمؤمن مع 50 رجلا إلى المهدي فاستبشر وقال «بقي الأمر».

كان المرابطون في سنة 522 هجرية (1128م) يخوضون حروبهم على ثلاث جبهات: جبهة في المغرب ضد الموحدين (المهدي)، وجبهة في الأندلس ضد الفرنجة، وجبهة داخلية (تقلبات على ولايات المدن). وقام الأمير علي بن يوسف بخلع العهد وولاية الدولة لابنه سير (الأمير أبي محمد) في سنة 522 هجرية وجمع لذلك أهل العقد والحل من الفقهاء والقضاة وكملت له البيعة (ولاية العهد) وأرسل بها إلى سائر الأقطار والأنظار فاستقرت البيعة، وقلص صلاحيات ابنه تاشفين فاقتصرت على مدن الأندلس فولاه إمارة غرناطة في سنة 523 هجرية والمرية. وبعد سنتين أضاف له ولاية قرطبة فدخلها سنة 524 هجرية (1130م) وبرع تاشفين في إدارة البلاد الأندلسية وأحبه أهل قرطبة وعلا ذكره و«ساس أهل الأندلس سياسة طار بها ذكره من الاستقامة واتباع لأمور الشريعة» (المراكشي، جزء 4، ص79).

تحرك سير ضد شقيقه بعد أن ارتفع صيته في الغزو والجهاد فطلب من والده عزله عن الأندلس ففعل واستدعاه إلى مراكش وصار بتصرفه وكان يحضر مجلسه في جملة كبار رجال لمتونة.

استفاد الموحدون من صراع الإخوة فكرروا هجماتهم في سنة 523 هجرية (1129م) وحاصروا مراكش أياما عدة ثم رجعوا عنها إلى محلتهم، ثم هاجم الموحدون في سنة 524 هجرية (1130م) كيك وهزموا عساكر علي بن يوسف و«أخذوا أموالهم وسلاحهم وأخبيتهم» (المراكشي، جزء 4، ص84). ونزل عبدالمؤمن بن علي بقوات الموحدين إلى أغمات في سنة 524 هجرية وسجلوا انتصارا على المرابطين فخرج إليهم علي بن يوسف من مراكش وهزمهم. وعاد عبدالمؤمن من حركته فوجد المهدي مريضا إلى أن توفي في سنة 524 هجرية و«كتم أصحابه وفاته، وكان عمر المهدي نحوا من خمسين سنة» (المراكشي، جزء 4، ص 84).

أحدث رحيل المؤسس محمد بن تومرت (الملقب بالمهدي) حالات فراغ استوجبت إخفاء موته على اتباعه خوفا من تفكك عصبية الدعوة وتنافر شوكة الموحدين. واضطر صاحبه عبدالمؤمن إلى أخذ مكانه، ولكونه ليس من جلدة هرغة، كما يذكر ابن خلدون في تاريخه، وخوفا من افتراق الكلمة أرجأ إعلان الأمر «إلى أن تخالط بشاشة الدعوة قلوبهم» (ص 270). وزعم عبدالمؤمن مرض «المهدي» لمدة ثلاث سنوات «حتى إذا استحكم أمرهم، وتمكنت الدعوة من نفوس كافتهم كشفوا حينئذ القناع عن حالهم». ولعب الشيخ أبو حفص دوره في إظهار موت «المهدي» للناس و«عهده لصاحبه وانقياد بقية أصحابه لذلك» ورضي الكافة و«أجمعوا على بيعته بمدينة تينملل سنة أربع وعشرين» (ابن خلدون، ص 270).


كر وفر

استمرت المعارك بين المرابطين والموحدين في سنة 525 هجرية (1131م) وأخذت تميل الكفة لمصلحة الموحدين فزادت شعبيتهم في بلاد المصامدة فانقسمت قبائلها وبدأت تكفر بعضها بعضا وانتهت باجتماع مصامدة الجبل على دعوة المهدي بينما أيدت دعوته فئة قليلة من مصامدة السهل. واستغل الفرنجة تصاعد المواجهة في بلاد المغرب بين حركة الموحدين ودولة المرابطين فزادت مناوشاتهم لكنها باءت بالفشل ونجح المرابطون في كسر تقدمهم في أكثر من مكان في سنتي 526 و527 هجرية. (1132م / 1133م).

أرسل علي بن يوسف من جديد ابنه تاشفين لمواجهة الفرنجة في منطقة اشبيلية ونجح في إيقاع هزيمة بهم في سنة 528 (1134م) في منطقة فدان بالقرب من زلاقة التي كان جده يوسف بن تاشفين أوقع فيها هزيمة كبرى بجيش الفونس في سنة 479 هجرية (1086م).

حاول تاشفين بعد انتصاره في معركة فدان أن يرتب الجبهة الداخلية ويعيد توحيدها بتقديم تنازلات لتيار الفقهاء والعلماء فأجرى تنقلات عدة في مراكز القضاء في اشبيلية وفاس وغرناطة إرضاء لفقهاء المذهب المالكي. وألحق تعييناته بقرار مهم وهو تولية الفقيه القاضي أبو بكر بن العربي (تلميذ الإمام الغزالي) أمر القضاء. وتأخر استلام ابن العربي منصبه إلى سنة 528 هجرية بسبب غضب والده علي بن يوسف من قرار ابنه تاشفين واعتراض فقهاء المالكية على ابن العربي بسبب انحيازه للمذهب الشافعي على الطريقة الأشعرية.

يعكس قرار تاشفين مسألة مهمة وهي تطور موازين القوى لمصلحة حركة الموحدين واضطرار أمير الأندلس إلى التراجع وإرضاء تيار الإمام الغزالي بموقع في القضاء بهدف توحيد الجبهة الداخلية ومنع الشقاق الذي أشعل عواصف فكرية لا قيمة لها في سياق الصراع الكبير مع الفرنجة.

تحسنت مواقع المرابطين في الأندلس بعد التغييرات في إدارات الدولة فتكررت غزوات تاشفين في سنة 529 هجرية (1135م) ونجح في تسجيل انتصار ضد الفرنجة في منطقة البكار فارتفعت مكانته وعظم شأنه في الأندلس في فترة صعبة حين أخذت حركة الموحدين تقترب من أسوار عاصمة دولته في المغرب. فقرارات تاشفين كانت صحيحة إلا أنها جاءت متأخرة على المستويين: الأندلس (اتساع رقعة الفرنجة) والمغرب (حصار حركة الموحدين دولة المرابطين).

آنذاك كان علي بن يوسف يقود الدولة من مراكش ويخوض المعارك ضد الموحدين بينما كلف ابنه تاشفين تدبير أمر الدولة ومواجهة الفرنجة في الأندلس. إلا أن عوامل الضعف أخذت تضغط على كاهل الدولة وبدأت المدن تشهد حركات اعتراض وحوادث عنف. فحصلت حادثة في سنة 529 هجرية قتل فيها قاضي قرطبة أحمد بن خلف التجيبي بحضور تاشفين ووالد ابن رشد في وقت الصلاة. بعدها ثارت العامة ونهبت منازل اليهود ردا على قتل أحد أبناء المدينة. وقامت في اشبيلية حركة شغب ضد قاضيها ابن العربي (أبو بكر) الذي أظهر قسوة في أحكامه ضد المخالفين والمفسدين ما أثار العامة ضده (المراكشي، جزء 4، صد 93).


ابن تاشفين

في هذه الفترة برز اسم تاشفين نظرا لشجاعته وظهوره على الفرنجة في أكثر من موقع إذ كرر هزيمتهم في سنة 530 هجرية (1136م) فرفع من إمكانات إعادة تقديمه لولاية العهد بعد والده. ونجح أيضا صاحب بلنسية ومرسية يحيى بن غانية في كسر شوكة الفرنجة في أكثر من مرة بين 528 و531 هجرية وهو أمر ثبت موقعه وجعله قوة مميزة في دولة المرابطين.

استدعى علي بن يوسف ابنه تاشفين إلى مراكش بعد أن اعتلت صحته في سنة 531 هجرية (1137م) وأخذت شوكة الموحدين تقوى في بلاد المغرب، فعزم على نقل ابنه من الأندلس إلى المغرب بسبب خبرته العسكرية في قتال الفرنجة. إلا أن الابن فشل في مهمته ونجح جيش عبدالمؤمن في سنة 533 هجرية (1139م) من الانتصار عليه في موقعة دامت أكثر من شهر في منانة في موضع بني ملول. فأخذ عبدالمؤمن بلاد منانة وقضى على قبيلة جزولة وقتل الآلاف من فرسانها ورجالها.

آنذاك توفي سير (ولي عهد دولة المرابطين) في حادث غامض في سنة 533 هجرية وأجمع شيوخ المرابطين في مسجد الجامع الكبير بالسقاية في مراكش على بيعة تاشفين فعقدت له الولاية ونقش اسمه إلى جانب والده على الدنانير والدراهم (المراكشي، جزء 4، ص98).

بوفاة سير انكشف صراع الإخوة وظهر الانشقاق والتصدع في مختلف أجنحة دولة المرابطين فدب الصراع بين مراكز القوى واختلف الحلفاء وبدأت الاتجاهات تتضارب من طريق الرشوة والفساد والوشاية. وكان الفيلسوف ابن باجه، الذي أصيب مشروعه الفكري بصدمة، أبرز ضحايا تلك الفترة المضطربة فمات فجأة وبطريقة غامضة. ويقال إن مؤامرة دبرت ضده من خصومه في بلاط أمير فاس فمات مسموما على يد منافسيه من الأطباء (أبو العلاء بن زهر) في سنة 533 هجرية بعد سنوات من الإحباط الذي انعكس على حياته المشوشة وأفكاره التي لم تكتمل أو تعرف النضج.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2527 - الخميس 06 أغسطس 2009م الموافق 14 شعبان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً