العدد 2569 - الخميس 17 سبتمبر 2009م الموافق 27 رمضان 1430هـ

جدليات التفكير الديني في إيران (2)

عبدالجبار الرفاعي comments [at] alwasatnews,.com

مفكر اسلامي عراقي

عبدالجبار الرفاعي

عبدالجبار الرفاعي - مفكر إسلامي عراقي 

11 - مشروع الدولة الإسلامية كان أحد أحلام الدارسين في الحوزة العلمية منذ مدة طويلة، وقد استطاعت الحوزة في خاتمة المطاف تجييش وتعبئة الجماهير، تحت لافتات وشعارات تطبيق الإسلام، وإشادة حكومة الحق والعدل، من خلال إعادة صياغة الحياة الاجتماعية في ضوء الفتاوى والأحكام الوفيرة في التراث الفقهي، فتحقق الظفر بانتصار الثورة، والإعلان عن الدولة الإسلامية.

لكن الكثير من المتحمسين لتطبيق الفقه، والاستناد إليه في تنظيم الإدارة، والاقتصاد والمال، والثقافة، والتربية والتعليم، اكتشفوا غربة حقل واسع من الفقه عن الواقع، وغربة الواقع عن هذا الفقه، لأن الفقه لا يعدو إلا أن يكون معرفة تشكلت في السياقات الثقافية والحضارية للاجتماع الإسلامي عبر التاريخ، وهذه المعرفة مطبوعة بكل ما اكتنف الحياة الإسلامية من اختلالات وظواهر اجتماعية وسياسية وغيرها.

وكان عجز الفقه التقليدي عن الوفاء بمتطلبات الدولة والاجتماع الإسلامي المعاصر، باعثا لانبثاق طائفة من الأسئلة الحائرة، التي ظلت غائبة قرونا طويلة.

ومنها: هل الفقه صناعة بشرية أم تشريع الهي؟ بل هل هناك تشريع إلهي يحكيه الإنسان، أم أن ما يكتبه الفقهاء هو تعبير عن ذاتياتهم ومكوناتهم الذهنية ومفروضاتهم وقبلياتهم ورؤيتهم الكونية؟ وهل الدين والفقه مسئولان عن إدارة وتنظيم كل ما يجري في الحياة البشرية؟ وما الذي يبقيه الدين والفقه من دور للعقل والخبرة البشرية؟ أليس نظام المعاملات الفقهي سوى إمضاء وتهذيب للمعاملات والتشريعات السائدة في المجتمع العربي عصر البعثة؟ وهل تتسع تلك الأطر التشريعية الخاصة بمجتمع بسيط لمجتمعات تجارية وصناعية تسودها الكثير من المعاملات المعقدة غير المعروفة للإنسان من قبل؟

وهكذا تبدت حيرة الفقه التقليدي عن استيعاب تطلعات الثوار، وإنجاز أحلامهم، وتحقيق وعودهم وآمالهم، فاستفاقت جماعة من النخب لتحاكم التراث الفقهي وتسائل اللاهوت التقليدي، وتغربل مفاهيمهما ومقولاتهما، فلم تعد قناعاتهم الماضية يقينيات، وإنما تحول شيء منها إلى شكوك، وما أنفك بعضهم يرزح في ارتيابه ولا يقينه.

12 - تنتشر في إيران عشرات الجامعات والحوزات العلمية، والمئات من مراكز البحوث والدراسات، وعدد كبير من دور الطباعة والنشر، كما تشير المعطيات الاحصائية لوزارة الإرشاد في طهران إلى نشر ما يزيد على 20000 (عشرين ألف) عنوان كتاب في كل سنة من السنوات الأخيرة، مضافا إلى صدور نحو عشرين صحيفة يومية في العقد الماضي، وعشرات الصحف والمجلات الأسبوعية والشهرية، والدوريات الفصلية. وهي بمجموعها تهتم بجداليات التفكير الديني، واستفهاماته القلقة، وطروحاته المتنوعة. ولا يكف الصحافيون والباحثون وسائر الكتاب الذين يساهمون في تحرير تلك المطبوعات والنشر فيها عن الحوار والنقاشات الساخنة في المسائل السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تتصل بصورة عضوية بمواقف ورؤى لاهوتية ودينية، تصدر عن مرجعيات تراثية في الفلسفة والعرفان وعلم الكلام والفقه والتفسير...الخ، أو مرجعيات جديدة تنتمي إلى مكاسب الدراسات الإنسانية الغربية.

وربما لا توحي لنا غزارة الإنتاج الفكري بمستوى هذا الإنتاج وممكناته النهضوية، من دون العودة إليه وإجراء دراسات استطلاعية لمضامينه واتجاهاته، غير أن ما يمكن رصده بيسر وسهولة هو وفرة الأسئلة، وتعدد المسائل المطروحة فيه، واختلاف طرائق فهمها ومقاربتها، وكثرة المناظرات على الورق، وتدفق الردود والأجوبة، حتى أن موضوع (التعددية الدينية) الذي أثاره الدكتور عبدالكريم سروش في مقالة له نشرها في إحدى الدوريات الناطقة بالفارسية في طهران، تحوّل إلى ما يشبه الموضة الفكرية لمدة تجاوزت العقد من السنين، فكتبت مئات المقالات والبحوث والأطروحات والكتب، مختلفة أو متفقة مع رؤى سروش.

إن المثقف في إيران يظل مسكونا بهاجس اللاهوت وقضاياه، مهما كان تخصصه أو مجال اهتمامه ونمط همومه المعرفية، ذلك أن الفضاء الثقافي الذي يتموضع فيه ينبض على الدوام بجدل الدين والتدين واللاهوت والواقع.

جدليات التفكير الديني قبل الثورة «1905 - 1979»

شغلت مفاهيم الهوية والأصالة والخصوصيات المحلية المفكرين الإيرانيين منذ مطلع القرن العشرين، وكانت الثورة الدستورية المعروفة في تاريخ إيران القريب بــ (المشروطة) لحظة حاسمة بلغ فيها الصراع ذروته بين تيارين، تبلور موقفهما في إطار رؤيتهما للهوية وصيرورتها، ونمط التعاطي مع الآخر، فبينما شدّد أحد التيارين على حراسة الهوية، ومنع توظيف مكاسب الفكر السياسي الغربي الحديث، والإفادة من مقولات الحريات والحقوق لديه، بذريعة تحصين الذات وتأصيلها، والحفاظ على نقائها وطهرانيتها والاقتصار على ما يشتمل عليه التراث من مفهومات تتصل بالاجتماع السياسي، رأى التيار الثاني ضرورة الانفتاح على الآخر، واستدعاء خبراته، واستعارة معطيات فكره وتجارب اجتماعه السياسي، فيما يتعلق بتدوين الدستور، والتمثيل الشعبي، والتداول السلمي للسلطة... وذهب هذا الفريق إلى أن المجتمع المثالي في العصر الحديث هو المجتمع المفتوح، ذلك أن انغلاق المجتمع يفضي إلى تبديد طاقاته، وطمس فاعلياته، وبالتالي موته، وانطفاء جذوة الانبعاث فيه.

واستمر السجال الفكري في إيران لعشرات السنين يدور حول طبيعة العلاقة مع الآخر، وكيفية الاحتفاظ بالخصوصيات، والسبيل لأن نكون معاصرين من دون أن نفرط بأصالتنا. أي أن سؤال الهوية كان هو السؤال المحوري الذي انبثقت منه جميع الأسئلة الفرعية لسنين طويلة في التفكير الديني، وانخرط في هذا السؤال وما تفرع عنه أبرز المفكرين إلى قيام الثورة الإسلامية سنة 1979.

وكان البحث دائما لدى الفريق الأول عن التمايزات الجوهرانية بين الشرق والغرب، والتوكيد على استعادة وترسيخ القيم الثقافية المحلية، من خلال استعارة المبادىء الابستمولوجية للاستشراق، وإعادة توظيفها بإتجاه معاكس.

وتصاعدت وتيرة الخطاب التحريضي لهؤلاء الدارسين بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن بعض المفكرين اتسم خطابه بالنقد المزدوج للأنا والآخر، مثل فخر الدين شادمان (1907 - 1967) الذي كان يتمتع بثقافة تقليدية وحديثة في آن واحد، وعمل أستاذا للتاريخ في جامعة طهران للفترة (1950 - 1967) وأصدر في العام 1947 أهم مؤلفاته (تسخير تمدن فرنكي = احتلال الحضارة الغربية) الذي دونه بأسلوب تطغى فيه الاستعارة والكنايات، وترتسم فيه التشبيهات العسكرية المتفشية في أسلوب الكتابة وقتئذ، وخلص فيه إلى أن السبيل للتخلص من هيمنة الغرب يكمن في استيعاب مكاسب الحضارة الغربية، يكتب شادمان: «يمكن تشبيه الحضارة الغربية بجيش قوامه مئة مليون جندي، فكل كتاب غربي قيّم نأتي به إلى إيران، وكل ترجمة صحيحة نقدمها للإيرانيين، وكل مشروع وتصميم معمل أو بناية أو مكنة أو... نأتي به (من الغرب) إلى إيران، ونترجم مكوناته وشروحه وتفاسيره بصورة صحيحة إلى الفارسية، نكون بذلك قد استطعنا أسر أحد جنود هذا الجيش الجرار وتوظيفه لخدمتنا في إيران».

لكن مفكرين آخرين نهجوا منهجا مختلفا في بيان ماهية الغرب، وما ينبغي للمجتمع الإيراني من موقف حياله. وفي طليعة أولئك أحمد فرديد (1910 - 1994) أستاذ تاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة في جامعة طهران، والذي يلقبه تلامذته ومريديه بـ (الفيلسوف الشفاهي) باعتباره لم يدون آراءه أو ينشرها بنفسه، ويوصف بأنه مفكر عميق، غير أن بيانه ملتبس، ولغته مبهمة مضللة. وكان ينهل من آراء الفيلسوف الألماني هايدغر، ويستند إليه كمرجعية في التعرف على ماهية الغرب، واستعار فكرة هايدغر القائلة: «إن كل حقبة من حقب التاريخ تختص بسيادة حقيقة معينة تطغى على بقية الحقائق، وتقذف بما سواها إلى الهامش».

إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"

العدد 2569 - الخميس 17 سبتمبر 2009م الموافق 27 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً