العدد 2590 - الخميس 08 أكتوبر 2009م الموافق 19 شوال 1430هـ

الرجل الأول في بلاط الأمير

محنة ابن رشد بين السياسة والفلسفة (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

مضى على تكليف ابن رشد بالمهمة حوالي11 سنة وحتى الآن لم يظهر عليه اشتغاله بالفلسفة. فشهرته الأساسية كانت في الطب وأنه صديق ابن طفيل صاحب القصة الفلسفية «حي بن يقظان» التي وضع فيها تصوراته التوفيقية بين الشريعة والحكمة وحاجة الإنسان إليها كغذاء للروح والعقل.

واجه ابن رشد صعوبات كثيرة في تلخيص أرسطو وشرحه، أولاها عدم معرفته اللغة اليونانية (الإغريقية) فاضطر إلى استخدام تضلعه بالفقه والتفسير للتحقق من الترجمات ومقارنتها لضبط الصحيح من الخطأ. واعتمد في ذلك أسلوب مقاربة النصوص وترجيح نص على آخر وتقوية نص وتضعيف آخر وهو الأسلوب الذي أسسه علماء الحديث في جمع سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأحاديثه.

استفاد ابن رشد كثيرا من مهنته قاضٍ في قرطبة وإشبيلية ومن علومه القرآنية والطبية ودروسه السابقة في تعلم طرق المتكلمة في المناظرة والمحاججة لتنظيم أفكار فلاسفة اليونان وترتيب مقالاتهم. كذلك استفاد من صلات صاحبه ابن طفيل بأمير الموحدين الذي كان يرعى العلم ويحب الفلسفة الأمر الذي أتاح له التفرغ لمهنته (القضاء) ومهمته (شرح فلسفة أرسطو).

منذ العام 564 هجرية (1169م) بدأت شهرة ابن رشد تنتقل من حقل الطب إلى حقل الفلسفة فقام خلال فترة عمله كقاضٍ في إشبيلية في تلخيص كتاب «الحيوان» لأرسطو. بعدها احتاجه أمير الموحدين لتولي القضاء في قرطبة ليأخذ مكان والده فانتقل في العام 566 هجرية (1171 م) إلى مسقط رأس أسرته وأجداده وتولى قضاء قرطبة لمدة عشر سنوات شرح خلالها كتاب «مابعد الطبيعة» لأرسطو وغيره من المصنفات اليونانية (راجع نصري نادر، مقدمة كتاب فصل المقال).

تدافعت في الفترة المذكورة الحوادث في المغرب والمشرق ولاحظ المؤرخ ابن الاثير تلك العلاقة بين المنطقتين حين كان الفرنجة يردون على خسائرهم في المشرق بهجمات مضادة في المغرب لإرباك دولة الموحدين ومنعها من إرسال تعزيزات تدعم قوات نور الدين محمود في بلاد الشام.

ويؤرخ ابن خلدون معارك ابن عبدالمؤمن ضد الفرنجة في الأندلس من سنة 564 إلى سنة 567 هجرية وهي السنوات التي دخل فيها صلاح الدين الأيوبي مصر وأخذ يعيد تنظيم أمورها ويرتب أوضاعها تمهيدا «لإعلان نهاية دولة الفاطميين وعودة مصر إلى مظلة الخلافة العباسية» وهو أمر تحقق في سنة 567 هجرية (1172م).

بعودة مصر إلى الخلافة العباسية توحدت بلاد الكنانة مع الشام في دولة نور الدين التابعة للمركز في بغداد، وفي الآن ازدادت هجمات الفرنجة في الأندلس الأمر الذي دفع يوسف بن عبدالمؤمن إلى تركيز جهوده لوقف الهجمات والتصدي للغزوات التي كانت تربكه. وسجل ابن عبدالمؤمن انتصارات عسكرية ضد حملات الفرنجة في الأندلس التي استمرت خمس سنوات ونجح فيها الموحدون في كسر شوكتهم وضم مرسية وبلنسيه إلى دولتهم في العام 567 هجرية أعقبها قيام ابن عبدالمؤمن بهجوم معاكس وصل إلى مدينة رندة ومحاصرة طليطلة من الشرق، لكنه تراجع عن اقتحامها بسبب صعوبات التموين والإمداد فعاد إلى إشبيليه في سنة 568 هجرية (1173م) بعد أن اطمأنّ إلى أوضاع دولته وعجز الفرنجة عن مواصلة مهاجمته. واستغل فترة الهدوء وبدأ بتحصين القلاع وترتيب أمور الدولة لمواجهة ما يحضره الفرنجة من هجمات في المستقبل.

في وقت كان عبدالؤمن يعزز القلاع والحصون في الأندلس، حصلت انتفاضة في قفصه فاضطر إلى العودة إلى مراكش واستبقى ابن رشد في مركز القضاء في قرطبة، واستمر إلى جانب وظيفته في إخراج أفكار أرسطو وغيره من بطون الترجمات العربية المتعددة والمتناقضة.


ظهور الدولة الأيوبية

آنذاك حصل تطور مهم في المشرق وهو وفاة نور الدين محمود زنكي في سنة 569 هجرية (1174م) بعد خلافات على الاستراتيجية العسكرية مع صلاح الدين الأيوبي أثرت نسبيا على المواجهة مع ممالك الإفرنج. وبرحيل نور الدين حصلت مناوشات بين صلاح الدين ورجال دولة قائده السابق تطورت في أحيان كثيرة إلى معارك حامية للسيطرة على دمشق وحلب. واضطر صلاح الدين إلى خوض حربين في الآن: واحدة ضد أولاد نور الدين وإخوته في حلب والجزيرة (أعالي الفرات)، وأخرى ضد المواقع الإفرنجية فأغار على مخافرهم الأمامية في حوران والكرك واسترد قلعة شقيف (جنوب لبنان) وحاصر بيروت على الساحل. واستمر التجاذب العسكري في المشرق على جبهتين داخلية مع ورثة الدولة الزنكية وخارجية مع ممالك الفرنجة وهو أمر عطل على صلاح الدين تنظيم هجومه الكبير إلى فترة قصيرة نظرا إلى صعوبات تتعلق بترتيب وضع مصر وتحصينها معطوفة على صعوبات بحرية (بناء أسطول) وفنية وحاجته الملحة إلى قوات بشرية لتعزيز قوته.

لم يختلف وضع المغرب عن المشرق إذ واجه عبدالمؤمن بدوره صعوبات داخلية أثرت على قدراته التنظيمية حين كان في أمَسّ الحاجة إليها لوقف التمدد الإفرنجي في الأندلس.

انتهى ابن عبدالمؤمن (أبويعقوب) من تطويق انتفاضة قفصه في العام 577 هجرية (1181م) وما كاد يستقر وضعه الداخلي حتى جاءت الأخبار من الأندلس حاملة معها معلومات عن حشود للرد على الغزوات الافرنجية التي قام بها أمير الموحدين في إشبيلية وإنزاله بهم هزيمة بحرية كبيرة.

أمام هذه التحولات اضطر خليفة الموحدين إلى معاودة الجهاد فاستنفر الهمم لصد الغارات على قرطبة ومالقة ورندة وغرناطة. وترافق التصادم العسكري مع إعادة تنظيم ولايات الأندلس وتوزيع حواضرها. فعقد لواء إشبيلية لابنه أبي إسحق، ولواء قرطبة لابنه أبي يحي، ولواء غرناطة لابنه أبي زيد، ولواء مرسية لأبنه أبي عبدالله. واستدعى ابن رشد إلى مراكش وجعله طبيبه الخاص واستبقاه على وظيفته في قرطبة، وتعزز موقعه وبات الرجل الثاني في بلاط الدولة بعد ابن طفيل.

بعد توزيع الألوية والمواقع وتثبيت مكانة ابن رشد اتجه أمير الموحدين (أبويعقوب) في سنة 579 هجرية (1183م) على رأس حشود ضخمة إلى ما وراء أشبيله فوصل حصن غامق وحصلت مواجهة عنيفة انتصر فيها الموحدون وسقط الأمير شهيدا «يقال من سهم أصابه في حومة القتال» (ابن خلدون، صفحة 286).

بمقتل الأمير الموحدي الثاني تولى ابنه يعقوب الامارة في سنة 580 هجرية (1184م) فأعاد تنظيم القوات وشن هجمات مضادة بمساعدة شقيقه أمير قرطبة (أبويحي) وأنزل بالفرنجة خسائر فادحة و»مضى إلى مراكش فقطع المناكر وبسط العدل وباشر الأحكام» كما يذكر ابن خلدون (صفحة 286).

توفي ابن طفيل في السنة التالية(581 هجرية) فارتفعت مكانة ابن رشد وبات الرجل الأول في بلاط الموحدين فانفرد بصلاته الخاصة مع أمير الموحدين الثالث، الذي لعقب بالمنصور، فكرمه واعتنى به ووفر له سبل المعاش لاستكمال مهمته (شرح أرسطو وتلخيصه) واستبقاه على وظيفته (الطبيب القاضي) ومستشاره القانوني.

إلى إبقاء ابن رشد في مقامه وحظوته، بدأ المنصور يقدمه على كبار شيوخ دولة الموحدين. فالقاضي كان طبيب والده الخاص وأحد كبار المقربين من جده الأمير المؤسس وهو أمر جعل من ابن رشد الرجل الأول في البلاط بعد رحيل الفيلسوف ابن طفيل.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2590 - الخميس 08 أكتوبر 2009م الموافق 19 شوال 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 8:30 ص

      حسب علمي

      حسب قراتي ان كثير من مؤرخي الفلسفة من اخواننا اهل السنة ينهون عصر الفلسفة الاسلامية بأبن رشد واما نظرائنا في الانسانية فيتتبعون الفلاسفة الشيعة مثل الملاصدرا ويترجمون لهم ولا يقفون عتد ابن رشد

    • زائر 2 | 4:54 ص

      Hero

      Arabs and Muslims need another Salahuddin to make them great.

    • زائر 1 | 3:47 ص

      لا تنبش

      جله تاريخ اسود.

اقرأ ايضاً