العدد 2593 - الأحد 11 أكتوبر 2009م الموافق 22 شوال 1430هـ

أرمينيا وتركيا بين العلمانية والعثمانية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حضور وزراء خارجية روسيا الاتحادية والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية حفل توقيع بروتوكولين بين تركيا وأرمينيا لإقامة علاقات دبلوماسية وفتح الحدود بين البلدين يؤكد الأهمية الدولية لذاك الحدث التاريخي. فالحضور أرسل إشارة إلى وجود مظلة دولية تضمن التوقيع الذي يحتاج إلى موافقة البرلمانين في تركيا وأرمينيا حتى يكون ساري المفعول بعد شهرين.

الحدث تاريخي وربما يشكل بداية مراجعة لملف يحتوي على مجموعة أوراق تشتمل على الإقرار والاعتراف والمحاسبة والاعتذار من جانب وكذلك يشير إلى احتمال حصول تحول في التحالفات السياسية في منطقة جغرافية استراتيجية من جانب آخر.

الجانب المعنوي (الأخلاقي) من المسألة مهم للغاية لأنه يدفع المصالحة إلى منطقة وسطى لا تحرج تركيا المتهمة بارتكاب «إبادة جماعية» خلال الحرب العالمية الأولى، ولا تعطي أرمينيا كل ما تطمح إليه في موضوع تجاوزه الزمن وأصبح من التاريخ.

الشعب الأرمني عنده حق حين يطالب الحكومة التركية بالإقرار والاعتراف والاعتذار حتى يمكن المحاسبة والصفح والمغفرة. والشعب التركي عنده حق حين يعترض على المبالغة في تضخيم أنباء المجازر وتجاهل الظروف الدولية والأسباب الداخلية التي دفعت الحكومة بين العامين 1915 و1917 إلى ارتكاب تلك المذابح ضد أقلية قومية - مسيحية تعايشت مع المسلمين في الأناضول ثمانية قرون من التساكن والتسامح.

البعد الإنساني مهم لأنه يفتح ثغرة في جدار الانقطاع بين الشعبين الجارين ويشجع القيادتين إلى إيجاد صيغة توفيقية تفكك الأزمة السياسية بين تركيا وأرمينيا. الفشل في معالجة الجانب الخلقي من المشكلة شكل نقطة حساسة عطلت إمكانات التفاهم بين الطرفين. الأرمن (القوميون المتشددون) يشترطون الاعتراف بالإبادة والإقرار بالمسئولية ومحاسبة المتورطين تاريخيا في ارتكاب المجازر. الأتراك (القوميون المتشددون) يرفضون التهمة أساسا ويحمّلون الجانب الأرمني مسئولية إثارة الحساسيات في مرحلة كانت تركيا تخوض معركة في الحرب العالمية الأولى وتتعرض لحملات أوروبية عسكرية بهدف تقسيمها وتشطيرها إلى دويلات.

الاختلاف على المراجعة التاريخية ساهم في تأخير التفاهم على الملف. فالشعب الأرمني كان حتى العام 1992 يعيش معظمه مشردا في العالم ولا يوجد عنده دولة مستقلة سوى تلك «الجمهورية» الصغيرة في مظلة الاتحاد السوفياتي. والشعب التركي كان يمرّ في فترة اضطرابات وانقلابات وتجاذبات أهلية بين تيار سياسي قومي علماني متطرف وتيار إسلامي معتدل فشل مرارا في تعديل توجهات دولته نظرا لتحكم عسكر أتاتورك في مقاليد السلطة.

كان من الصعب التوصل إلى صيغة تفاهم وتوقيع بروتوكولات كما حصل أمس الأول في مدينة زوريخ السويسرية لو لم تقع متغيرات دولية كبرى في تسعينات القرن الماضي أفضت إلى تشكيل جمهورية أرمنية مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهوض تيار إسلامي معتدل في تركيا يمتلك شعبية قادرة على الضغط ومنع القوى العلمانية القومية المتشددة من الانقلاب.

التفاهم انتظر حصول تعديلات دولية وإقليمية حتى تكون القوى المتشددة في الطرفين مستعدة لتقبل ذاك التغيير في القناعات الشعبية والثقافة السياسية. فالجانب التركي المسلم يؤكد أن المذابح حصلت في عهد «جمعية الاتحاد والترقي» وفي ظل قيادة عسكرية نخبوية تلقت علومها آنذاك في المعاهد الألمانية وتشبعت بأيديولوجية علمانية قومية متطرفة معادية للإسلام وكارهة لتاريخ السلطنة العثمانية. ويرى الأتراك أن سياسة الاقتلاع التي مارستها تلك النخبة ضد الأقليات الأرمنية بدأت أولا بالانقلاب على السلطان العثماني في العام 1908 وعزلته عن القرار في العام 1909 بناء على تصورات علمانية قومية مخالفة لعقيدة الإسلام ومضادة للعثمانية وللعرب ولكل الأقليات المسيحية التي كانت تعيش في ظلال السلطنة.


التاريخ والجغرافيا

ذريعة الجانب التركي صحيحة تاريخيا لأن المجازر حصلت بعد الانقلاب على العثمانية والإسلام وتجريد السلطان من صلاحياته الدستورية والشرعية وتحويل الدولة إلى وعاء تتحكم بأجهزته نخبة عسكرية قادت البلاد إلى التحالف مع ألمانيا وخوض الحرب العالمية الأولى إلى جانب «دول المحور» في مواجهة بريطانيا وفرنسا. وبسبب هذه الذريعة التاريخية نجحت القوى الإسلامية المعتدلة في تطوير مصالحة ترفع تهمة الإبادة عن عقيدة الإسلام والدولة العثمانية مقابل الاستعداد للاعتذار من دون مبالغات وضمن نطاق التسامح الإنساني.

الجانب الأرمني من جهته لم يتهم الإسلام في ارتكاب المجازر باعتبار أن الأقليات كانت تتعايش وتتساكن في ظل السلطنة العثمانية إلى أن وقع الانقلاب العسكري وظهرت نظريات «التتريك» العلمانية المتطرفة بإشراف نخبة تعلمت وتدربت في الأكاديميات الألمانية في مرحلة كانت أوروبا تشهد فيها صعود حركات قومية ترفض التنوع والتعدد وتتبنى أيديولوجية الدمج العنيف أو الاقتلاع أو الطرد خارج حدود الوطن بداعي المحافظة على النقاء والتجانس لصون سيادة «الدولة» المعاصرة والحديثة.

ما تعرضت له الأقلية الأرمنية بين العامين 1915 و1917 في الأناضول، يشكل كارثة إنسانية حصلت في محطة تاريخية انتقالية حاولت خلالها نخبة عسكرية (قومية علمانية متطرفة) تتريك كل «الأقليات» التي كانت تعيش في السلطنة العثمانية منذ قرون. وهذه الحقيقة التاريخية كانت تنتظر متغيرات في الجانبين حتى تتمكن تركيا وأرمينيا من التراجع إلى منطقة وسطى تسمح بالتفاهم على الحد الأدنى تمهيدا للمراجعة المتبادلة. وهذا الأمر بدأ بالتحقق خطوة خطوة لو لم تحصل حرب السنوات الست في إقليم ناغورني - كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان. حرب الإقليم (الجيب الأرمني في أذربيجان) امتدت من العام 1988 إلى العام 1994 وكانت مدمرة عمرانيا وبشريا وأدت إلى تأسيس تحالفات دولية - إقليمية ساهمت في تأخير التفاهم وانتعاش قوى التطرف والتيارات التي ترفض أي تراجع أو اعتذار.

حرب الإقليم آنذاك شكلت مناسبة لحصول تحالفات إقليمية اخترقت حدود القوقاز حين أيدت إيران وروسيا أرمينيا بينما وقفت تركيا إلى جانب أذربيجان. وبسبب اختلاط الأوراق كان هناك صعوبات إقليمية تمنع تقدم ملف المفاوضات إلى الأمام نتيجة اختلاط العامل الجغرافي بالاكتشافات النفطية (مرور الأنابيب) بالاضطرابات السياسية - القومية من منطقة الشيشان إلى جورجيا.

كل هذه الإضافات الجيوسياسية والنفطية أشعلت سلسلة توترات وحروب كانت آخرها تلك التي حصلت في أغسطس/ آب 2008 بين روسيا وجورجيا وأدت إلى تعديل التوازنات الإقليمية في منطقة القوقاز ومهدت الطريق إلى نشوء تقاربات أو تقاطعات بين تركيا وإيران من جانب وروسيا وتركيا من جانب آخر.

مجموع هذه المتغيرات كانت تنتظر إشارة ضوئية خضراء من أوروبا والولايات المتحدة حتى تستطيع القيادة التركية الإسلامية المعتدلة (العثمانيون الجدد) أن تتقدم وتكسر قوالب أيديولوجية (أتاتوركية) كانت تعتبر قبل عشر سنوات من المحرمات أو المقدسات. وحين جاءت الإشارة من واشنطن (دخول باراك أوباما البيت الأبيض وتخليه عن درع بوش الصاروخي) انفتحت الأبواب الأوروبية أمام آفاق التقارب الأرمني - التركي برعاية دولية قوية ومحكمة من مختلف الجهات. فالتوقيع الذي حصل أمس الأول في زوريخ بحضور وزراء خارجية روسيا وأميركا وبعض دول الاتحاد الأوروبي أكد صلابة المظلة الدولية وقوتها في حماية هذا التقارب الثنائي التاريخي والجغرافي.

يبقى السؤال: هل يكون التوقيع على البروتوكولين والعمل بهما بعد شهرين بداية تحول في خريطة التحالفات الإقليمية أم أنه مجرد خطوة نفطية - تجارية لا تعكس خلفيات سياسية وإنسانية في منطقة القوقاز الاستراتيجية؟ الجواب يحتاج إلى مساحة زمنية للاختبار. فالاتفاق لن يسري مفعوله إلا بعد مصادقة برلمان البلدين عليه ما يعني أن العملية السياسية تنتظر خطوات لتطويع التطرف القومي العلماني في الطرفين تمهيدا لفتح الحدود وتلك المعابر التي تربط أرمينيا بأوروبا تحت مظلة تركيا «العثمانية الجديدة». المصالحة صعبة وتحتمل حصول عقبات وعثرات لأن المسألة لا تقتصر على الجغرافيا بل تذهب بعيدا لتحفر في ذاكرة التاريخ.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2593 - الأحد 11 أكتوبر 2009م الموافق 22 شوال 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 11:02 م

      تتممه عبد علي البصري

      وتحسن تركيا اقتصاديا . وخرجت من الذل الذي كانت تعاني منه مع اوربا واسرائيل . واصبح لها كلمتها المستقله في العالم . وفي الملف العراقي فهي في طور التطور الايجابي حيث آثرت الحرول السلميه مع الملف الكردي بعد ان رأن ان القوه لا تجدي وطمأنت الحكومه العراقيه على زياده منسوب مياه الفرات للحد من شحه المياه في العراق .هذا هو المعنى الصحيح للحكومه الاسلاميه يعنى مو الحكومه الاسلاميه قطع الايدي ولارجل ورجم وحرق البشر وتكفيرهم .؟؟؟؟!

    • زائر 1 | 10:55 م

      التغير المحتوم. عبد علي البصري

      ان ا لتغير الجيوسياسي في النطقه له ابعاد اقتصاديه وامنيه وسياديه الا ان السياسه التركيه الحاليه تسير في الاتجاه الصحيح بسبب سياسه المحنك اردوغان وعبد الله غول كلاهما منشقان من حزب الرفاه الاسلامي فمن يوم استلما قياده الحكم في تركيا رئيس تركيا ورئيس الوزراء شهدت تركيا تحسن سياسي مع جيرانها مثل ايران وارمينيا اليوم وسوريا بالامس وأصلحا ما افسده قاده العسكر بالامس. ولا يخفى على احد من متتبعي الاحوال التركيه ان هناك تحسن في الاقتصاد التركي . هكذا معنى الحكومه الاسلاميه تحسين احوال الناس اقتصادياً

اقرأ ايضاً