العدد 2596 - الأربعاء 14 أكتوبر 2009م الموافق 25 شوال 1430هـ

السلطة الفلسطينية... وخيار الانتفاضة الثالثة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل باتت السلطة الفلسطينية في موقع صعب ولم يعد أمامها من خيار سوى الاستعداد لمواجهة الاستحقاقات المقبلة على منطقة «الشرق الأوسط»؟

قراءة الملف الفلسطيني من مختلف الزوايا تكشف عن وجود انسدادات من كل الجهات. فالموقف من جانب الحكومة الإسرائيلية مقفل كالعادة ولا توجد مخارج معقولة لكل الأوراق المطروحة على طاولة المفاوضات المعلقة حتى الآن.

تعليق المباحثات مسألة مرجحة باعتبار أن تل أبيب وضعت شروطا تعجيزية تقوض مباشرة احتمال توصل المحادثات الثنائية باشراف أميركي إلى نتيجة منطقية. والشروط الإسرائيلية التي ظهرت على الشاشة السياسية تشتمل على نقاط ثلاث: الأولى الاعتراف بيهودية الدولة العبرية. الثانية رفض تجميد توسيع المستوطنات وزيادة بناء الوحدات السكنية في القدس. الثالثة عدم الاعتراف بتلك القرارات الدولية والاتفاقات الثنائية التي تنص على الانسحاب وقيام دولة فلسطينية «قابلة للحياة».

هذه الشروط التعجيزية تعطل إمكانات نجاح المفاوضات وتلغي سلفا مفعول التوصل إلى صيغة توفيقية تستطيع السلطة الفلسطينية التأسيس عليها. فالتسوية دائما تحتاج إلى قواعد للبناء. وحين تكون كل الأسس معطلة أو مرفوضة تصبح هناك استحالة منطقية للاستمرار في التفاوض. تل أبيب ترفض فكرة العودة، وترفض أن تكون القدس عاصمة للدولة الفلسطينية، وترفض تفكيك جدار الفصل العنصري، وترفض وقف الاستيطان وقضم الأراضي وقطع الأشجار ورفع الحواجز والموانع وغيرها من شروط... وكل هذا الكم من السلبيات يجعل من المفاوضات مجرد حوار لا معنى له.

المشكلة لا تقتصر على الجانب الإسرائيلي فقط وإنما تمتد لتشمل الجانب الأميركي الذي تراجع عن وعوده بسبب ضعوط «اللوبيات» في واشنطن. فالرئيس باراك أوباما بدأ نشاطه الدبلوماسي قبل ثمانية أشهر بزخم واشترط على حكومة بنيامين نتنياهو أن توقف (تجمد) المستوطنات حتى تبدأ واشنطن اتصالاتها الإقليمية تمهيدا لاستئناف مفاوضات السلام. وجاء الشرط الأميركي ليشجع الطرف الفلسطيني على التمسك بمبدأ تجميد المستوطنات قبل الشروع في المفاوضات ما أعطى حيوية لفكرة عدالة التسوية. إلا أن تراجع الطرف الأميركي عن الشرط المبدئي عطل إمكانات التسوية لأنه أعطى الضوء الأخضر للاستيطان وأقفل الباب أمام الجانب الفلسطيني الذي لم يعد بإمكانه الموافقة على عودة المفاوضات من دون التزام تل أبيب بوقف التمدد الاستيطاني.

الآن أصبح الطرف الفلسطيني أمام خيارات صعبة. فهو لا يستطيع القبول بمبدأ التفاوض من دون التشديد على مطلب التجميد، ولا يستطيع الدخول إلى التفاوض والتنازل عن هذا الشرط، ولا يستطيع أن يرفض فكرة التفاوض لأن حكومة تل ابيب مستمرة في مشروع التوطين والتهويد وتوسيع رقع المستوطنات.

تخلي واشنطن عن مبدأ وقف الاستيطان عكس زوايا الصورة فاصبحت «إسرائيل» هي الطرف الذي يريد التفاوض من دون شروط مسبقة بينما السلطة الفلسطينية أصبحت هي الطرف الذي لا يقبل التفاوض إلا بعد تحقيق شروطه. وانعكاس الصورة يكشف فعلا عن ضمور السلام وتقلص احتمالات نجاحه وذلك لسبب بسيط وهو أن المفاوضات المفتوحة على أفق زمني إذا استمرت في ظل توسيع المستوطنات تصبح عمليا لا قيمة سياسية لها نتيجة تآكل الأرض ونمو كتلة سكانية يصعب السيطرة عليها لاحقا.

لا جدوى إذا من المفاوضات في حال بدأت من دون تجميد عمليات الاستيطان. وأيضا لا جدوى من مقاطعة المفاوضات التي تراهن عليها واشنطن لأنها لن توقف الاستيطان. فالتوطين إذا سيستمر سواء حصلت مفاوضات أو لم تحصل وسواء نجحت أو لم تنجح. النجاح والفشل لا معنى لهما لأن النتيجة واحدة وهي استمرار الاستيطان وعدم قدرة واشنطن على استخدام نفوذها وممارسة الضغط على «إسرائيل».

تهرب الولايات المتحدة من المسئولية، وعجزها عن تطوير صلاحياتها بناء على القرارات الدولية، وتراجعها عن خطوات اعتمدتها ممرا لاستئناف المفاوضات أدى في النهاية إلى توريط السلطة الفلسطينية واستدراجها إلى معركة غير متوازنة في معادلة القوة. فأميركا الآن أخذت تضغط على الطرف الفلسطيني بصفته نقطة ضعف المعادلة وبدأت تطالبه بالتخلي عن شروطه المسبقة (وقف الاستيطان) حتى تتشجع وتدعو الطرف الإسرائيلي إلى تقبل فكرة المفاوضات.

هذا الالتواء في المنطق الدبلوماسي الأميركي كان ولايزال يشكل جوهر أزمة كل المفاوضات التي حصلت سابقا في «الشرق الأوسط». وبسبب الالتواء المذكور نجحت «إسرائيل» في استخدام المفاوضات مظلة لمخالفة القوانين الدولية وتلك القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن.


الأبواب المقفلة

مشكلة إدارة أوباما لا تختلف في جوهرها عن كل المشكلات التي واجهتها الإدارات الأميركية السابقة. والمشكلة تتمثل في عجز الرئيس عن مواجهة اللوبيات والضغوط الدبلوماسية والتهديد بالتشهير والفضح واختلاق «مؤامرات». وأوباما الذي أظهر في مطلع عهده بعض الشجاعة بدأ الآن يتردد ويتراجع ويبالغ أحيانا في اتخاذ خطوات تكشف عن ضعفه وخصوصا في موضوع التخلي عن شرط «تجميد المستوطنات» وثم دعم الموقف الإسرائيلي في معارضة «تقرير غولدستون».

مواقف أوباما الأخيرة بشأن الملف الفلسطيني ومفاوضات التسوية أصبحت هزيلة وبدأت تقارب السياسة الأميركية التقليدية في انحيازها للشروط الإسرائيلية. ومواقف أوباما لم تصل إلى هذا الطور المتراجع عن عبث، فهي جاءت بناء على ضغوط وتوصيات ونصائح بعدم المغامرة في سمعته ومستقبله إذا أراد النجاح في ملفات أخرى. والملفات الأخرى كثيرة وبعيدة وقريبة تبدأ من باكستان وافغانستان وتنتهي في الصومال والسودان.

كان على أوباما الاختيار بين التضحية بسمعته ومستقبله أو مقايضة الملف الفلسطيني والتسوية في «الشرق الأوسط» برزمة من الملفات الأخرى التي يمكن أن تكسبه شعبية وتحافظ على مثالية مواقفه.

قبول أوباما بفكرة المقايضة أدى إلى انعكاس الصورة وحشر السلطة الفلسطينية في زاوية صعبة لا تستطيع الخروج منها من دون إثارة الشارع ضدها وبالتالي الذهاب إلى مفاوضات لا معنى لها وتقتصر وظيفتها على تقديم خدمات للاحتلال وتعطيه الوقت الكافي لاستكمال مشروع توسيع المستوطنات وتقويض أسس «دولة» يرجح ألا ترى النور.

هناك انقلاب في أولويات أوباما بعد أن اكتشف صعوبة فتح الملف الفلسطيني. والانقلاب جاء هدية مجانية من الرئيس الإيراني الذي رفع الغطاء عن «منشأة نووية ثانية» معلنا عزمه على التوصل إلى اتفاق إيجابي مع الدول الست في جنيف. فالأولوية الآن أصبحت للملف النووي الإيراني، وبعده يأتي الملف الافغاني الذي يخشى أن يتطور عسكريا بعد موافقة أوباما على إرسال المزيد من القوات إلى هناك، وبعده الملف العراقي الذي ينتظر موعد الانتخابات التشريعية في يناير/ كانون الثاني من العام المقبل... وأخيرا يأتي الموضوع الفلسطيني الذي تراجع إلى حد بات من الصعب رؤية مخرج له نتيجة انصياع الإدارة لشروط حكومة تل ابيب.

المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية تبدو مقفلة في نتائجها وتوجهاتها قبل أن تبدأ. فهي إذا حصلت لن توقف الاستيطان، وإذا لم تحصل سيستمر الاستيطان بشرط جديد وهو «الاعتراف بيهودية الدولة» ... وهكذا.

أمام هذه القراءة المقفلة من مختلف الزوايا تبدو مسألة المفاوضات في ظل الشروط الإسرائيلية والتراجع الأميركي وانقلاب أولويات أوباما مجرد دعاية سياسية لبضاعة فاسدة لا فائدة منها سوى تقطيع الوقت وتخدير الرأي العام. ومثل هذا الموقف الصعب يضع السلطة الفلسطينية في دائرة محكومة بالأسوار من كل الجهات. وحين تغلق الأبواب أمام الناس وتعلق كل توقعاتهم على حائط الانتظار يصبح خيار المواجهة الملاذ الوحيد أمام الشارع. فهل الشعب الفلسطيني الآن في حال من الاستعداد لخوض استحقاق الانتفاضة الثالثة؟ كل الاحتمالات الأخرى تبدو موصدة إلا هذا الاحتمال.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2596 - الأربعاء 14 أكتوبر 2009م الموافق 25 شوال 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً