العدد 2597 - الخميس 15 أكتوبر 2009م الموافق 26 شوال 1430هـ

الأمير المنصور والناصر صلاح الدين

محنة ابن رشد بين السياسة والفلسفة (3)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يُعتبر الأمير المنصور (أبويوسف يعقوب بن يوسف بن عبدالمؤمن) من الشخصيات الغريبة الأطوار، إذ اتصف بخصال حميدة، فهو إلى صلابته وعزمه على جهاد الإفرنج كان مزاجه العقائدي كثير التقلب. ويصفه المؤرخ ابن الأثير الذي عاصر فترته بأنه حسن السيرة و«كان يتظاهر بمذهب الظاهرية، وأعرض عن مذهب مالك، فعظم أمر الظاهرية في أيامه. وكان بالمغرب منهم خلق كثير يقال لهم الحزمية منسوبون إلى ابن محمد بن حزم، رئيس الظاهرية، إلا أنهم مغمورون بالمالكية. ففي أيامه ظهروا وانتشروا، ثم في آخر أيامه استقضى الشافعية على بعض البلاد ومال إليهم» (المجلد 12، صفحة 146). وكرر ابن كثير، الذي أرخ للفترة نفسها بعد قرنين، سيرته بشكل مشابه فهو كثير الجهاد و«يؤم الناس في الصلوات الخمس» وكان «قريبا إلى المرأة والضعيف» وحسن السيرة وصحيح السريرة و«كان مالكي المذهب، ثم صار ظاهريا حزميا، ثم مال إلى مذهب الشافعي، واستقضى في بعض بلاده منهم قضاة» (المجلد 13، صفحة 25).

بسبب تقلبه المذهبي بين المالكية والظاهرية والشافعية كان الأمير يطيح بأعوانه وشيوخه وقضاته ويستبدلهم ثم يعيدهم ثم يبعدهم الأمر الذي زعزع قواعد الدولة وأضعف مكانتها في عهود من خلفه. مع ذلك اتصف المنصور إلى المزاج المتقلب والشك بأعوانه، بالأمانة والورع وشدة البأس مع الخصوم وكثرة جهاده ضد الفرنجة.

أهم سمات عهد المنصور أنه عاصر فترة صلاح الدين في المشرق العربي وعايش أخبار الفتوحات الكبرى التي سجلها الأيوبيون ضد ممالك الإفرنجة في سنة 583 هجرية (1187م). ففي تلك السنة قام صلاح الدين بمحاصرة الكرك والإغارة على عكا وفتح طبرية، وهزم الفرنجة في معركة حطين، ثم عاد وفتح عكا ويافا وتبنين وصيدا وجبيل وبيروت، وحاصر صور وفتح عسقلان وما يحيط بها من حصون وقلاع، وتوجه إلى القدس وفتحها وشدد الحصار على صور وصفد وفتح حصن هونين وإعاد تطويق صور في وقت بدأت أوروبا تستعد لتوجيه الحملة الثالثة وهي الأعنف في تاريخ الحروب الصليبية.

كانت نقطة ضعف صلاح الدين القوات البحرية وعجزه عن وقف الإمدادات من البحر التي كانت ترسلها الممالك الأوروبية لتغذية بقايا مواقع الإفرنج في مدينة صور التي شكلت ثغرة عسكرية في خطوطه الدفاعية وكادت أن تقلب التوازن الذي أحدثه في معاركه الأولى.

حاول صلاح الدين سد الثغرات العسكرية خصوصا البحرية بتعزيز أسطوله فوجّه نداءات إلى مختلف الأمراء المسلمين غربا وشرقا لإرسال الإمدادات وحشد الطاقات لوقف الموجات المتدفقة من أوروبا. وحاول الناصر صلاح الدين تشكيل جبهة دفاعية تقوم على عقد شبكة من التحالفات الإسلامية تستظل الخلافة العباسية في بغداد. وكانت الثغرة الأساسية ضعف القوات البحرية لذلك ركز انتباهه على كسب أمراء المغرب والأندلس، أصحاب الخبرة والباع الطويل في الحروب البحرية. كذلك حاول الاستفادة من أساطيلهم لقطع الطريق على إمدادات أوروبا لبقايا الإفرنج من طريق البحر ما أدى إلى نجاحهم في منع مدينة صور من السقوط ثم توسيع الثغرة نحو عكا وبدء تنظيم هجوم معاكس ضد قوات صلاح الدين التي باتت في موقع حرج عسكريا في سنة 585 هجرية (1189 م).

وصلت استغاثات صلاح الدين إلى الأمير المنصور (يعقوب بن يوسف) في ظرف غير مناسب. فالمنصور كان في حال صراع مع الفرنجة في الأندلس، وهو أمر رصده ابن الأثير في تاريخه ورصد تلك العلاقة بين اشتداد حروب الفرنجة في المشرق وزيادة الغارات على الحواضر المسلمة في الأندلس. فالتحالف الأوروبي آنذاك أدرك، كما أدرك صلاح الدين، نقاط ضعف جيوش المسلمين (البحر) كذلك التقط احتمال التعاون العسكري بين الطرفين (المشرقي والمغربي) فلجأ إلى إلهاء جيوش أمير دولة الموحدين في الأندلس برا وبحرا حتى لا يرسل التعزيزات لتدعيم مواقع صلاح الدين في المشرق.

استمر حصار عكا مدة سنتين تقريبا (585 و587 هجرية) وصلت خلالها مساعدات كثيرة وساهم الأسطول المصري (الأيوبي) في صد الكثير من الهجمات البحرية إلا أنه عجز عن تطوير الدفاع إلى هجوم مضاد فقرر صلاح الدين إرسال مندوب من قبله للاتصال بالأمير المنصور في مراكش طالبا منه إرسال تعزيزات بحرية لوقف الموجات الأوروبية وعزلها عن الساحل.


المنصور وصلاح الدين

يصف ابن خلدون (توفي 808 هجرية) تلك اللحظات في تاريخه ويذكر أن مبعوث صلاح الدين وصل سنة 585 هجرية وطلب إعانته لمنازلة عكا وصور وطرابلس و«وصل إلى المغرب، ووجد المنصور بالأندلس فانتظره بفاس إلى حين وصوله، فلقيه وأدى إليه الرسالة فاعتذر له عن الأسطول وانصرف». ويردف صاحب «تاريخ العبر» خبره برواية يبدو أنه يشك بصحتها تقول «ويقال إنه جهز له بعد ذلك ماية وثمانين أسطولا» ومنع الفرنجة من سواحل الشام (المجلد السادس، ص 291).

اختلف المؤرخون على تحديد سبب واضح لتردد الأمير المنصور في إرسال النجدة وتمحورت التأويلات على مسألة شخصية تقول إن المنصور انزعج من رسالة الناصر صلاح الدين لأنه لم يخاطبه بلقب «أمير المؤمنين».

يفترض أن العامل المذكور ليس أساسيا ويرجح أن يكون السبب الرئيسي تعرض قوات المنصور إلى هجمات عنيفة لمنعه من إرسال التعزيزات إلى المشرق وهذا ما تؤكده أخبار كتب التاريخ. ففي الوقت الذي كانت قوات الفرنجة تحاصر عكا وتستعد لاقتحامها كانت الحملات في الأندلس تزداد شراسة لقطع الاتصالات ومنع التواصل بين الجبهتين. وبلغ الأمير المنصور أن الفرنجة تغلبت على قاعدة شُلّب وأوقعت بعساكر إشبيليه الكثير من الخسائر واحتلت العديد من حصونها فاستنفر «الناس للجهاد وخرج سنة ستة وثمانين إلى قصر مصمودة (...) وخفّ إلى حصن طُرّش فافتتحه ورجع إلى إشبيليه، ثم رجع إلى منازلة شُلب سنة سبع وثمانين فافتتحه» (ابن خلدون، ص290). خلال الفترة التي كان الفرنجة يحاصرون عكا (585-587 هجرية) كان الأمير المنصور في صراع آخر مع الفرنجة في الأندلس. وهو أمر منعه من تلبية طلب نجدة صلاح الدين ثم عاد وراجع نفسه فأرسل تعزيزات بحرية بعد فوات الأوان إذ سقطت عكا واضطر صلاح الدين إلى توقيع معاهدة صلح مع قائد حملة الفرنجة الثالثة ريكاردوس قلب الأسد.

لم يمضِ كثير من الوقت حتى توفي الناصر صلاح الدين في سنة 589 هجرية (1193م) بينما كان أمير الموحدين يستكمل استعدادته لمواجهات كبرى خارجية وداخلية، تمثلت في اضطراب علاقاته مع أخيه أمير قرطبة (أبويحي) وصديق ابن رشد بعد أن كتب العهد لابنه الناصر بخلافته في العام 587 هجرية. كذلك اضطراب جبهته العسكرية على خطوط التماس مع الفرنجة وازدياد الضغوط على قواته بعد نشوء نوع من التحالف بين الإمارات والممالك الإفرنجية في الأندلس.

حصلت في تلك الفترة الحساسة الكثير من التقلبات منها اضطراب علاقة الأمير مع ابن رشد الذي كان مايزال الرجل المقدم على غيره من شيوخ وقضاة إلى شهرته كشارح لفلسفة أرسطو. وفي وقت كان المؤرخ ابن الأثير يوثق أخبار المرحلة ويلاحق رجال عصره لتدوين المعلومات من الأندلس إلى بلاد الشام والهند كان ابن رشد يغربل الترجمات العربية لكتابات أرسطو وأفلاطون وغيرهما ويعيد تنظيمها في كتب ومحفوظات عديدة ويساجل في أمور قدم العالم وحدوثه والسبب والمسبب والعلة والمعلول والصورة والمادة والوجود الأول والعدم وغيرها من القضايا الذهنية المجردة. فابن الأثير كان يعيش زمانه في عهد صلاح الدين بينما كان ابن رشد يحلق خارج الزمان والمكان في فترة كانت قوات الفرنجة تدق أبواب قرطبة (مسقط رأس أسرته) وكان هو ما يزال يتولى فيها وظيفة القضاء تحت إشراف أميرها أبويحي شقيق أمير الموحدين المنصور.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2597 - الخميس 15 أكتوبر 2009م الموافق 26 شوال 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 3:27 ص

      صلاح الدين !!!!

      صلاح الدين الذي قتل الفيلسوف الكبير السهروردي و أذل المسلمين بمعاهداته مع اعداء الدين و الذي ابرز فضائحه المؤرخ السيد محمد حسن الأمين قبل سنوات في كتاب له حتى اعترفت مجلة العربي بقوة ادلته ولكنه نكست على رأسها وقالت ولكنه شخصية مجيدة عند العرب . عجيب مثل تاريخ السيد الرئيس الرمز الضرورة حامي البوابة الشرقية و اسوار بغداد قاتل الفيلسوف الألهي السيد محمد باقر الصدر.

    • زائر 1 | 1:52 ص

      كتابة التاريخ

      الرجاء الكتابة عن تاريخ الدولة الفاطمية و القضاء على الدولة الفاطمية و اغراق المكتبات ودفن العلم في البحر الاحمر وعلاقة صلاح الدين بن ايوب .

اقرأ ايضاً