العدد 2617 - الأربعاء 04 نوفمبر 2009م الموافق 17 ذي القعدة 1430هـ

التخبط الأميركي في «الشرق الأوسط»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تضارب تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بشأن الاستيطان في القدس والضفة الغربية والتفاوض الفلسطيني - الإسرائيلي يؤشر إلى عدم وضوح رؤية الرئيس باراك أوباما وغموض سياسة إدارته في التعامل مع الملفات التي تهدد الاستقرار في منطقة «الشرق الأوسط». فالوزيرة أطلقت خلال أقل من أسبوع آراء متضاربة اختلفت في توجهاتها العامة بشأن «تجميد الاستيطان» أو «تسهيله» أو اعتراضه جزئيا أو السماح به في مناطق ومنعه في مناطق أخرى.

التعارض في التصريحات بين دبي والرباط والقاهرة يؤسس عمليا سياسة إقليمية قلقة لا تشجع عودة الثقة إلى العواصم العربية التي راهنت في السنة الماضية على إدارة أوباما وإمكان نجاحها في تعديل التعاملات الأميركية بشأن الضغط على تل أبيب ودفعها نحو القبول بحل عادل لمسألة الانسحاب وإقامة دولة فلسطينية «قابلة للحياة».

مسألة الثقة مهمة في التعاطي مع أطراف عربية شعبية ورسمية لأنها تفتح الباب أمام إدارة أميركية افتقدت خلال فترة جورج بوش للصدقية وأورثت المنطقة كوارث سياسية ساهمت في تقويض الدول وتهديد أمنها وتوليد حركات عنف طائفية ومذهبية أخذت تتفشى وتزعزع الاستقرار وتخترق الحدود. والثقة التي اكتسبها أوباما في السنة الأولى بعد انتخابه أخذت تتلاشى بعد سلسلة تراجعات عن وعود بالتغيير الأمر الذي أعاد التذكير بوجود «لوبيات» تعترض خطوات أي رئيس أميركي يفكر فعلا بإعادة رسم صورة مختلفة للهيئة التي تحاول الولايات المتحدة الإطلال منها أمام العالم.

هل تخلى أوباما عن طموح التغيير أم اكتشف عمليا صعوباته أم أنه يحاول تحقيق الحد الأدنى حتى لا يصاب جمهوره بالإحباط؟ السنة الأولى كشفت عن وجود عقبات بين الحلم والواقع. فالأحلام السعيدة التي أطلقها المترشح الشاب كانت كثيرة وجذابة وهي الآن بعد سنة من انتخابه لم تعد ترد في خطبه وتصريحاته إلا جزئيا. حتى القضايا الأميركية الداخلية التي وعد بها جمهوره أصبحت ملفات مجمدة أو عرضة للتفاوض أو قابلة للنقاش والتعديل كما هو حاصل الآن بشأن الملف الصحي.

تنازلات أوباما لم تقتصر على القضايا الخارجية وتلك الملفات الساخنة في «الشرق الأوسط» وإنما شملت أيضا موضوعات أميركية أمنية ودفاعية وتربوية وصحية واجتماعية. وهذه التراجعات المبرمجة تؤكد وجود حواجز موضعية تمنع الرئيس من التحرك خارج المربعات التي تحدد خطواته وتضبط أنشطته ضمن الزوايا الأربع.

الدستور الأميركي يعطي الرئيس صلاحيات واسعة ولكن الدستور أيضا يضع أمام الرئيس عقبات تحدّ من حريته المطلقة في التعامل مع القضايا الخارجية والداخلية. والعراقيل الدستورية لا تقتصر على المواد القانونية بقدر ما تتصل بشبكة من المصالح تديرها أجهزة ضغط تعتمد على تمويل شركات الأدوية والتأمين الصحي أو مؤسسات التصنيع الحربي وغيرها من هيئات إعلامية نافذة تتغذى من دعم مجمعات صناعية أو تجمعات سياسية وأيديولوجية وبحثية.

كل هذه الروافد المتعارضة المصالح تصب من مختلف الجهات في «البيت الأبيض» لتشارك عنوة أو من خلف الكواليس في تصنيع القرارات أو على الأقل في إرباكها أو التأثير على توجهاتها. والارتباك الذي ظهر في تضاعيف تصريحات كلينتون في دبي والرباط والقاهرة يشكل صورة عينية عن حال التخبط الذي تعيشه إدارة أوباما بعد سنة على الانتخابات الرئاسية.


القانون وسلطة العادات

الكلام عن التغيير أصبح متواضعا في تصريحات الرئيس وخطبه. وطرح الأفكار العامة عن الأحلام بدأ يتراجع ليتناسب مع الحقائق الموضوعية ويتكيّف مع الواقع الأميركي. فأوباما لم يتراجع عن طموحاته لكنه اكتشف أن التغيير في دولة كبرى وبلد ديمقراطي ليس سهلا لأنه يحتاج إلى تعديل وتهذيب حتى يتجانس مع قانون المصالح ولعبة تحريك الزوايا من خط الوسط.

بين الحلم والواقع تبدو إدارة أوباما في حال ارتباك لأنها تجتهد للبحث عن بدائل تعوض تلك الوعود. فالرئيس تراجع كثيرا عن مشروع إصلاح الضمان الصحي، وأجّل خطة إغلاق معتقل غوانتنامو، واعاد التفكير بالانسحاب السريع من العراق، وبدأ يتخبط في موضوع أفغانستان. ولا يقتصر التردد على مسألة تجميد الاستيطان وغموض الرؤية بشأن الانسحاب وتأسيس دولة فلسطينية والضعف في التعامل مع حكومة تل أبيب وإنما بدأ يمتد ليشمل الكثير من الوعود التي تعرض إليها في خطاباته بعد انتخابه رئيسا. فالتراجع عام ويتجاوز حدود «الشرق الأوسط» ويتضمن تلك النقاط التي وعد بإصلاحها أو تغييرها في الجانبين الداخلي والدولي. والتراجع يؤكد أن الرئيس الأميركي ليس مطلق الصلاحيات حتى لو كان الدستور يضمن له أو يعطيه حق التصرف وفق خطته المرسومة التي انتخبه الشعب الأميركي بناء عليها ولتنفيذها.

الدستور الأميركي مع الرئيس اوباما والشعب أعطاه في غالبيته الساحقة الثقة لتنفيذ وعوده بالتغيير، إلا أن الواقع يحتاج إلى قواعد عمل تختلف عن تلك المسارات والقنوات التي تعتمدها أجهزة الدولة في سياساتها اليومية وتوجهاتها الاستراتيجية. فالتغيير يحتاج إلى تعديل آخر أطلق عليه الفيلسوف البريطاني برتراند راسل «سلطة العادات». فالفيلسوف راسل ميّز بين سلطة العادات و«سلطة القانون». العادات تستمد سلطتها من الأخلاق العرفية وهي أحيانا أقوى من القانون لانها تتطلب الكثير من الذرائع لتغييرها. واحترام القانون في أميركا تحوّل إلى سلطة عرفية تستمد قوتها من آليات العادات التي أنتجتها الإدارات في سياسة التعامل مع مراكز القوى وأجهزة الضغط. راسل أيضا يشير إلى هذه المعضلة حين يطمح الإنسان إلى تغيير قانون يراه فاسدا. والمعضلة تبدأ حين يحاول المسئول تعديل القانون الفاسد من دون الخروج عليه... أي أن أوباما يطمح أن يغيّر القانون بالشروط التي يفرضها عليه القانون الذي يريد أن يغيّره.

مسألة التغيير في أميركا صعبة ولكنها ليست مستحيلة. وأوباما بعد سنة من انتخابه اكتشف تلك الفجوة الزمنية بين سلطة العادات وسلطة القانون وهي فجوة لا يمكن السيطرة عليها بخطابات الدعوة إلى التغيير بل بإعادة هيكلة الأحلام بشروط الواقع. فهل يستطيع الرئيس الأميركي تكييف الوعود وتشذيبها وتهذيبها حتى تتجانس سلطة القانون مع سلطة العادات؟

الإشارات تدل على أنه تراجع عن الكثير من الملفات والنقاط الحساسة الداخلية والخارجية. ولكن التراجع لابد له أن يتوقف عند حدود وإلا سينزلق الرئيس إلى هاوية تمنعه لاحقا من إعادة ترميم سمعته وتصحيح صورته. السؤال بعد سنة على الانتخابات ليس عن تراجع أوباما عن وعوده بل عن المدى الذي يستطيع الوصول إليه والأسلوب الوسطي (التسووي) في التعامل اليومي وتكييف الحلول بين قانون الحلم وقانون الواقع؟ حتى الآن الجواب غير واضح. والإشارة الوحيدة هي أنه يتراجع عن وعوده من دون ترسيم مسار واقعي ثابت لحركة تنقلاته. وتضارب تصريحات كلينتون بشأن الاستيطان والمفاوضات والسلام في «الشرق الأوسط» كلها نقاط ترمز إلى وجود اضطراب في السياسة الأميركية ما يدل على أن تراجع أوباما لم يستقر على صيغة نهائية للحل. وهذا الأمر القلق يفسر ذاك التخبط اليومي بالتعامل مع ملف خطير في منطقة استراتيجية.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2617 - الأربعاء 04 نوفمبر 2009م الموافق 17 ذي القعدة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً