العدد 2618 - الخميس 05 نوفمبر 2009م الموافق 18 ذي القعدة 1430هـ

القاضي التائه بين الشريعة والحكمة

محاورة ابن رشد لجمهورية أفلاطون (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لم يكتب ابن رشد في السياسة، وحرص على حصر نشاطه في مهنته (طبيب وقاضي شرع) إضافة إلى المهمة التي كلفه بها أمير دولة الموحدين وهي شرح أفكار أرسطو وتوضيح ملابساتها. على رغم ذلك لم يفلت من تهم سياسية أدين بها خلال امتحانه في مجلس الأمير المنصور قبل نكبته.

الكتاب السياسي الوحيد الذي اشتغل عليه فيلسوف الأندلس كان «الجمهورية» لأفلاطون، بينما تركزت جهوده الفلسفية الأخرى على شرح أرسطو. والسبب الذي دفعه إلى مراجعة أفلاطون هو عدم حصوله على كتاب أرسطو في السياسة لعدم توافر نسخة منه بالعربية في الأندلس فاستعاض عنه بكتاب أفلاطون المعروف جدا في الأوساط الإسلامية خصوصا في الحلقات الضيقة التي تتعاطى شئون الفلسفة.

اعتمد ابن رشد على ترجمات مختلفة لكتاب «الجمهورية» واستند على تعليقات وشروحات الفارابي في كتابيه «المدينة الفاضلة» و «السياسة المدنية» وآراء ابن باجه الأندلسي عن «المدينة الكاملة». وتجنب قاضي قرطبة الخوض في تفاصيل «جمهورية» أفلاطون وانتقى بعض المقالات منه وتحاشى الأخرى بذريعة أنها تتعاطى السياسة في جانبيها الخطابي والجدلي، وتركز انتباهه على الجانب البرهاني (العقلي) من فكر أفلاطون.

إلى إهماله بعض الفصول بذريعة أنها بعيدة عن حقل العلم النظري، حاول الرد بمخالفة آراء أفلاطون المتطرفة تاركا السياسة العامة لأهلها لأنه يرى في السياسة مجرد أفكار تتعلق بالعلم العملي (العامة)، وهو من المشتغلين في العلم النظري. فالعلوم النظرية بنظره أرقى من العملية. فالأولى من شئون الخاصة (العلماء والحكماء) بينما تستهوي الأخيرة العامة. ولم يشفع تهرب ابن رشد من الخوض في السياسة من دفع ثمن اشتغاله على هذا الكتاب.

يرجح محمد عابد الجابري أن «تلخيص السياسة» المعروف أيضا بـ «جوامع السياسة» كان من بين العوامل التي أدت إلى معاقبته. ويرى شروح الجمهورية هي الأخيرة في أعماله وأصدرها في سنة 590 هجرية (1194م) قبل فترة وجيزة من نكبته. بينما يرجح مترجم الكتاب عن الإنكليزية (حسن مجيد العبيدي) أنه أصدره قبل فترة طويلة من نكبته بتكليف من والد الأمير المنصور ولا علاقة لنكبته بموضوع الكتاب. إلا أنه يوافق الجابري على خطورة مواضعيه السياسية ويرجح أن تكون لنكبته صلة به لكنها صلة بعيدة وليست قريبة في اعتبار أن الكتاب انتشر في سنة 572 هجرية (1176م). والإشارة الوحيدة المباشرة التي تدل على ظرفه السياسي وردت في فقرة يتيمة تذكر بخجل أوضاع زمانه في عهد دولة الموحدين.

يذكر مترجم الكتاب في مقدمته الطويلة أن ابن رشد جعل من أفلاطون «غطاء يتخفى تحته في تفسيره لصيرورة وحركة التاريخ الإسلامي سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، ولأسباب تبدل الوضع السياسي وظهور الثورات في هذه المدن الإسلامية» (ص36). وجاءت أفكاره الفلسفية «في فلسفة التاريخ» لتعين ابن خلدون لاحقا في كتابة مقدمته التي ورد فيها كلامه «عن الأطوار في تبدل الدول أو قيامها وانهيارها» (ص36) خصوصا في إشاراته عن دولة المرابطين ومراحل من دولة الموحدين.


كتاب السياسة

ماذا يقول ابن رشد عن الكتاب وغايته السياسية؟

يعتبر أن غاية العلم السياسي «هو العمل أو الفعل فحسب، مع أن أقسامه المتفرعة عنه يختلف أحدها عن الآخر بالترتيب وفي درجة مناقشته لهذا الفعل» (ص65). ويشير إلى أن «الإنسان بطبعه يحتاج إلى معونة الآخرين في اكتساب فضائله، ولهذا صح القول: إن الإنسان كائن مدني بالطبع». وهذا يشترك فيه «الإنسان مع الحيوانات إلى حد ما، مثل الحصول على الطعام واللباس والمأوى». وتتم عملية الحصول على الحاجات بطرق مختلفة وأنه «لمن المستحيل على الإنسان بمفرده أن يوفر كل متطلبات عيشه» (ص68).

لذلك لابد من الاجتماع إذ يعضد كل واحد الآخر من أجل «بلوغ الكمال أقصاه، فيعضد الأكمل منهم الأنقص لبلوغ كماله الخاص به، والأنقص كمالا يتبع الأكمل كوسيلة لتهيئة كماله». ولهذا ستكون المدينة (الدولة) فاضلة «بسبب القوة النظرية التأملية التي تتحكم في باقي القوى الأخرى» (ص70). وبرأيه أن أفلاطون أكد في جمهوريته على أن «طبقة الفلاسفة هي الطبقة الحاكمة» لأنها بالضبط تمارس العقلية التأملية (النظرية). فالعدالة في مدينة ابن رشد تقوم «على خضوع كل جزء من أجزاء النفس للعقل» (ص71) فعلى الحكماء كما يشير أفلاطون الأخذ على عاتقهم «سياسة المدن وإدارتها» (ص73). وطرق التعليم في مدينة ابن رشد تقوم على نمطين: الأول الإقناع وهو للجمهور من طريق الأقاويل الخطابية والشعرية، والثاني تعلم العلوم النظرية التأملية وهو للخواص (ص74). أما الأمم التي هي غير فاضلة في دساتيرها فلا توجد طريقة لتعليمها سوى «إكراههم على الأخذ بالفضيلة عن طريق الحرب» (ص76).

يرفض ابن رشد حصر الفضائل الفكرية التأملية في شعب من الشعوب حتى لو كانت بعض الشعوب أكثر استعدادا لتقبل الحكمة من غيرها. كذلك فضيلة الشجاعة فهو يميل إلى القول إن مختلف الأمم تشترك في هذه الفضائل وعليها التعاون والتبادل «فيما بينها وبصورة خاصة في الإقليمين المعتدلين الخامس والرابع» (ص78).

وينتقد ابن رشد أقاويل المتكلمين الذين «يصرحون بأن الله فاعل الخير والشر، وهو حاصل قولهم بالقدر» ويرد عليهم بالقول إن «الله هو الخير المطلق ولا يفعل الشر في أي وقت»، ويستنتج بأن «الخير والشر ليس لهما طبيعة محددة بذاتها، وإنما هو خير أو شر بالقرار» (ص85).

يظهر هنا مدى تأثر قاضي قرطبة برأي أفلاطون في نظرية الخير والشر. فالآلهة عند فيلسوف اليونان الخير المطلق وهي لا تقوم بالحروب. وبسبب نظرية الخير المطلق مقابل الشر المطلق حدد أفلاطون موقفه من الشعر خصوصا إلياذة هوميروس. ففي جمهوريته يمنع بعض أنواع من الشعر كذلك يحرم تداول النصوص الشعرية التي تتحدث عن «حروب الآلهة» التي رواها هوميروس شعرا في إلياذته. فالآلهة عند أفلاطون لا يصدر عنها سوى الخير. ويحاكي ابن رشد موقف أفلاطون من الشعر حين يطالب بمنع بعض أنواع من الشعر العربي الذي يدعو للرذيلة وغيرها. ويقلده أيضا في قوله بمعادلة الخير والشر. فالشر هو من فعل إبليس أو الشيطان لذلك يحذر من تداول بعض الشعر بسبب تأثيره السلبي على سلوك الصبيان وتربيتهم. ثم يكرر رده على علماء الكلام في نظرتهم إلى الشريعة وقولهم «بأن إرادة الله مطلقة غير مقيدة، وأنه كل يوم في شأن، وبالتالي فإن القول عن شيء أنه حسن أو قبيح أمر افتراضي، وأكثر من ذلك، أنه لا توجد لدى الإنسان غاية إلا عن طريق الفرض» (ص149).

على هذه القاعدة يطالب ابن رشد في مدينته (دولته) أن تحذف الأشعار والقصائد «التي تحذو حذو عادات العرب في وصف هذه الأشياء ومحاكاة الأشياء المشابهة لها» (ص92). ويقصد بالأشياء تلك التي وصفها أفلاطون في جمهوريته مثل أن يفعل الرجال الأتقياء «أفعال النساء اللواتي يصرخن أثناء الوضع» أو «النساء المنغمسات في العويل والنواح والرثاء». فالرجال الأتقياء يجب أن يكونوا للحكم وحتى يكونوا مؤهلين للقيام بهذه المهمة لابد لهم من الاتصاف بخصال الشجاعة والابتعاد عن الدناءة والرذائل وعدم السماح لهم «بمحاكاة الخدم أو العبيد، أو محاكاة السكارى والمدمنين».

كذلك يجب أن يبتعدوا عن أعمال الصنّاع والحرفيين «مثل الدباغين أو الإسكافيين أو الخزافين أو ما يماثلهم». ويطالب ألا يسمح للشعراء في مدينته بمحاكاة الأشياء الدنيئة «كما هو شأن القصائد العربية التي وجودها في هذه المدينة غير ضروري» ويسمح لهم «بوصف فضائل النساء وتعففهن» (ص92). ويكرر موقف صاحب الجمهورية من الألحان وصناعة الموسيقى ومنع استخدام بعض الآلات مثل «الدّف» (ص94). كذلك يتبنى معظم أقوال أفلاطون في الرياضة والتدريب وصولا إلى تحديد الأطعمة والأشربة وأنواع الأكل لأن الإفراط في «الطعام والشراب والموسيقى، وكذلك التفريط فيها، إذا ما حدث في المدينة، فإنه سيولد الحاجة إلى القضاء والطب» (ص97). ففي مدينة ابن رشد (جمهورية أفلاطون) لا حاجة «لهاتين الصناعتين، الطب والقضاء» وأنه لا يوجد طبيب أو قاض بأي شكل من الأشكال» لأنه إذا «تم تحديد نوع الطعام وكميته وفق غايات مرسومة» فإن إعضاء المدينة (الدولة) لن يحتاجوا إلى الكثير من الأدوية «التي استعملت قديما وتستعمل في زماننا» (ص98). ويكرر الطبيب والقاضي ابن رشد كلام الفيلسوف ابن باجه الذي ذهب إلى تبني المثاليات نفسها في مدينته الكاملة استنادا إلى كتابات أفلاطون وما قاله الفارابي في (المدينة الفاضلة).


المدينة المثالية

يفلسف ابن رشد موقفه من المدينة الكاملة (الفاضلة) بالقول: «والسبب هو أنه إذا ما اختفت الغاية القصوى لأي شيء موجود، فإنه لا يوجد تعارض بين وجوده وعدمه» (ص99). ويتطرف في موقفه إلى حد أنه يخير ابن مدينته (دولته) في حال عجزه على «أداء العمل الذي يتقن» فمن الأحسن له الموت لأن الموت «سيكون أفضل له من أن يعيش» ويعطي مثال سقراط على قوله إذ «فضل الموت على الحياة عندما وجد أنه من المحال أن يعيش حياته المعتادة» (ص99). ويتوقف ابن رشد عند هذه النقطة ويفكر فيها إسلاميا. فالدين يحرّم قتل النفس، لذلك يعيد النظر بالمسألة ولا يتساهل في الأمر. وبعد المراجعة يصل إلى قناعة أنه لابد من وجود طبيب يساعد على معالجة المرضى «لأنه سيوصف العلاجات النافعة ويميز العلل المستديمة من غيرها» (ص100). كذلك يراجع موضوع القضاء من موقع إسلامي. فالقاضي «مطلوب أيضا ليهتم بتقويم من هو ذو طبع شرير ولا يقبل الانصلاح» وشرطه ألا يكون القاضي خالط الشر ويقترح أن يكون «كبير السن» (ص101). وهكذا يوافق ابن رشد على وجود الطبيب والقاضي بشروط وضمن مواصفات وخصال وفضائل محددة.

يميز قاضي قرطبة بين الواقع الإنساني وقدرات البشر على التحمل لكنه يصرّ على نظرية «الشاب الكامل الخصال» الذي تقوم الدولة بتربيته على حراسة المدينة منذ صغره بإشراف الفلاسفة وهم حكام المدينة. ويفترض في الفلاسفة أن تتوافر فيهم «إلى جانب الحكمة كل الفضائل الخلقية وغيرها من فضائل» (ص102).

يتبنى ابن رشد نظريات أفلاطون مع بعض التردد في الجوانب التي تتعارض مع جوهر الشريعة الإسلامية خصوصا تلك المتعلقة بالتقسيم الاجتماعي للمهن وتوزيع مهمات الطبقات بتراتب هرمي وحصر أبناء مهنة معينة بمهنتهم ومنعهم من الانتقال من مهنة إلى أخرى.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2618 - الخميس 05 نوفمبر 2009م الموافق 18 ذي القعدة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً