العدد 2641 - السبت 28 نوفمبر 2009م الموافق 11 ذي الحجة 1430هـ

لبنان... طائفي إلى أجل غير مسمى

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أثار إعلان رئيس المجلس النيابي اللبناني نبيه بري عزمه طرح موضوع إلغاء الطائفية السياسية في النظام عبر تشكيل الهيئة الوطنية التي ينص عليها الدستور في المادة 95 ردود فعل متباينة أظهرت في تضاعيفها مخاوف طوائف على مواقعها ونفوذها في إطار المحاصصة وتوزيع المناصب والمقاعد وفق صيغة توافقية ائتلافية. فالمخاوف كشفت فعلا عن وجود أزمة بنيوية في علاقات الطوائف تمنع إمكانات تطوير النظام السياسي وتحويل الدولة من هيئة عليا ترعى التعايش والتساكن إلى إطار يوحد الناس في صيغة مدنية تعتمد مبدأ الأكثرية والأقلية.

الفكرة التي طرحها بري لا تخالف الدستور ولا تتجاوز اتفاق الطائف الذي وقع في العام 1989 ونص على تشكيل هيئة تشرف على وضع آليات إدارية تنظم عملية الانتقال من طور دولة الطوائف إلى طور دولة مدنية تمتلك أدوات توحيد تدمج الأطياف في تشكيل وطني يتخطى حدود الولاءات والانتماءات المذهبية.

الفكرة في جوهرها دستورية المنشأ إلا أن ردود الفعل أكدت مجددا وجود معضلة واقعية تمنع عملية التحديث ودفع عجلة التقدم باتجاه نظام سياسي لا يعتمد الهوية الطائفية أساسا للترشح أو الاختيار. والمخاوف التي صدرت تعليقا على عزم بري السير في اتجاه إلغاء الطائفية السياسية رجحت احتمال تأجيل تداول الفكرة بذريعة أن الظروف غير مناسبة لمثل هذا الطرح.

رئيس حزب الكتائب أمين الجميل دعا إلى معالجة الموضوع بشكل دقيق وعدم إدخاله «في مجال المقايضات السياسية». وزير العدل إبراهيم نجار (قوات لبنانية) أبدى خشيته من أن يكون «إلغاء الطائفية السياسية مدخلا لمزيد من الطائفية، لأن لبنان فسيفساء دقيقة جدا ولا نستطيع اللعب بالتركيبة اللبنانية». وزير الاقتصاد والتجارة محمد الصفدي (التكتل الطرابلسي) نصح بعدم التسرع وطالب بدراسة المواضيع الخلافية بهدوء «وننصرف إلى معالجة قضايا الناس الحياتية والاجتماعية». النائب إبراهيم كنعان (تيار الجنرال ميشال عون) أشار إلى أن لبنان «ليس مهيئا بعد لإلغاء الطائفية السياسية لأن التركيبة اللبنانية مبنية على الطائفية». السيد محمد حسين فضل الله تجاهل في خطبة العيد التطرق إلى الموضوع مباشرة وحث على اغتنام الفرصة لعودة «التوازن إلى الحركة السياسية» مؤكدا مقولة «لبنان النموذج في التنوع والعيش المشترك». المفتي الشيخ محمد رشيد قباني حذر من «قفزة غير مناسبة أو متسرعة في المجهول» مؤكدا أن الدستور ليس مقدسا» ومن الضروري أن يستجيب لحتمية التغيير والتطوير» مشيرا إلى أن ميثاق 1943 (الصيغة اللبنانية) لا يزال يشكل صمام الأمان و«الضمان للعيش المشترك الإسلامي - المسيحي». من جانبه شرح النائب هاني قبيسي (عضو في كتلة بري) القصد من وراء مبادرة رئيس مجلس النواب وأوضح أن ما طرحه «ليس إلغاء الطائفية السياسية بل تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية» مؤكدا أن البلد يعاني من الأزمات منذ ما قبل تأسيسه وتساءل «متى يكون الوقت مناسبا ولماذا نؤجل ما دمنا نعترف أن الطائفية هي المشكلة؟».

ردود الفعل المتفاوته التي صدرت عن مراجع وجهات مختلفة تبدو متفاهمة على المشكلة (الطائفية) ولكنها غير متوافقة على الحل (كيف تتجاوز الطائفية؟) وعلى التوقيت (متى يبدأ العلاج؟) وأيضا على التعريف (ما هي الطائفية؟) والتوصيف (الفارق بين الطائفية والطائفية السياسية).

حصول هذه الموجة من التعليقات المتنوعة في ملاحظاتها على فكرة لا تتعارض مع جوهر الدستور (واتفاق الطائف) يؤكد صعوبة الموضوع في بلد تتكاثر فيه العصبيات الطائفية والمذهبية وتتنوع فيه الانتماءات والولاءات. فالمشكلة موجودة والكل يعترف بأنها مصدر الأزمات ولكن هناك ما يشبه التوافق الوطني على عدم التطرق إلى الموضوع خوفا من الأسوأ. والأسوأ برأي الغالبية يتركز على الخوف من انهيار صيغة التعايش والتساكن وتقويض الكيان وضياع الجمهورية وغياب الدولة نهائيا عن الساحة اللبنانية وظهور فيدراليات (كانتونات طائفية) تدير المناطق بأشراف إدارات لا مركزية.

الواقع والبديل

الاعتراض على البديل يشكل نقطة جوهرية تمنع الأطياف اللبنانية من الدخول في الموضوع خوفا من أن تتحول البدائل إلى ساحة سياسية للتجاذب الطائفي - المذهبي ما يهدد العقد اللبناني بالانفراط وتصدع الكيان وتوزعه على دويلات صغيرة تدير شئون طوائفها ومذاهبها في مناطقها الخاصة ذات اللون المتجانس في تكوينه وتركيبه الثقافي.

المسألة إذا تبدو مؤجلة الآن وربما شبه مستحيلة في المستقبل القريب لأن طبيعة الكيان السياسي تكيفت منذ العام 1920 على فلسفة التعايش (تساكن الطوائف) ونظام المحاصصة (كل فريق يأخذ حصة) والتوافق (الائتلاف وليس الاندماج). وهذا الأمر دفع الكثير من المتابعين للشأن اللبناني تكرار نصيحة المحافظة على الموجود خوفا من المجهول، لأن ما هو ظاهر للعيان يبقى أفضل من سلبيات قد تظهر في حال تم تجاوز المألوف والمتعارف عليه.

التخوف من التغيير شكل تقليديا ذاك الهاجس المشترك لكل الطوائف ما أدى إلى التمسك بالنظام والاكتفاء بتكرار دعوات تحسينه وتحديثه حرصا على مناعة صيغة ميثاقية فريدة من نوعها في العالم العربي و«الشرق الأوسط». وبما أن الطائفية اللبنانية تجمع بين الاعتراف بالواقع والاعتراف بها دستوريا أصبحت تشكل خيط الأمان الذي يربط تنويعات الكيان في عقد اجتماعي وظيفته الوحيدة ضبط التوازن ومنع الغلبة وتعطيل الدولة من التطور.

هناك إجماع على أن الطائفية سيئة. والإجماع ينسحب بدوره على الخوف من الذهاب إلى الأسوأ. وحتى لا يأتي الأسوأ تتوافق الطوائف على تجديد وظيفة نظام المحاصصة لأنه يضمن المواقع للجميع ويعرقل سيطرة الأكثرية على الأقلية. وبسبب الحرص على صيانة حقوق «الأقليات» يبدأ التحفظ على التغيير حتى لا تسيطر أكثريات ديموغرافية على حقوق أقليات وجدت في لبنان ذاك الملجأ الجغرافي - التاريخي لممارسة طقوسها في إطار تعددي يصون الثقافات المتنوعة ويضمن الأنشطة الخاصة (قوانين الأحوال الشخصية) لكل فئة من دون تدخل الدولة في شئونها.

فلسفة الكيان اللبناني (صيغة التعايش والتساكن) تحولت كما يبدو إلى عادة يصعب كسرها أو تجاوزها على رغم اقتناع معظم القيادات السياسية بوجود معضلة طائفية تؤسس دوريا مجموعة أزمات لا تنتهي. والقناعة النظرية بالمشكلة تبقى دائما مجردة ولا تتحول إلى مشروع يأخذ المبادرة في طرح المعضلة ووضع آليات لحلها. والسبب في الامتناع يعود إلى الخوف من الأسوأ والدخول في مجهول وانهيار صيغة التعايش (الفريدة من نوعها). إلا أن هناك كما يبدو مجموعة أسباب أخرى لا تطرح. والأسباب المسكوت عن قولها تؤكد أن مختلف الأطياف باتت مستفيدة من ضعف الدولة واستمرار نظام المحاصصة وتوزيع السلطات على الطوائف من دون تبديل أو تعديل.

التحفظات التي صدرت تعقيبا على فكرة بري تؤكد صعوبة تجاوز مشكلة الطائفية في لبنان. فالمشكلة ليست دستورية فقط ولا يمكن حصرها في تعديل المواد وتحديث الأنظمة وإنما هي في الواقع اللبناني. فالطائفة موجودة والطائفية نتاجها الواقعي والطائفية السياسية هي فلسفة نظام المحاصصة أي هي التشكيل الذهني للتراتب الهرمي الذي تأسست عليه الدولة. وبهذا المعنى توافقت الردود على المشكلة وتفاهمت على تأجيل الحل خوفا من المجهول. لبنان طائفي وسيبقى كذلك إلى أجل غير مسمى. وهذا الأمر يدركه بري ويعرف مدى صعوبة تجاوزه

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2641 - السبت 28 نوفمبر 2009م الموافق 11 ذي الحجة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 1:06 ص

      14 آذار

      اليس اشد المعترضين هم من 14 آذار الذين توءيدهم يا سيد وليد؟؟؟

اقرأ ايضاً