العدد 2644 - الثلثاء 01 ديسمبر 2009م الموافق 14 ذي الحجة 1430هـ

صدمة دبي... أزمة مال أم مأزق نموذج؟

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

صدمة دبي شكلت مفاجأة غير متوقعة للمصارف والمؤسسات النقدية وصناديق التأمين وغيرها من هيئات مالية إقليمية ودولية. وأدت الصدمة إلى توليد حالات فزع في الأسواق والبورصات ما أدى إلى تراجع الأسهم ورفع قيمة الضمانات وتخويف المستثمرين وانسحاب مجمعات نقدية من سوق دبي تحسبا لانهيارات في القطاع العقاري الذي شهد في العقد الأخير طفرة نوعية غير مسبوقة في حقل البناء والإنشاءات.

الصدمة حتى الآن لاتزال في بدايتها وتحتاج إلى وقت لتستقر في مكان ما يسمح بإعادة قراءة الأزمة من كل جوانبها. وما حصل في دبي ليس جديدا في عالم الأسواق المالية وقطاع العقارات، وهناك الكثير من الأمثلة المشابهة يمكن القياس عليها ومقارنتها للاستدلال النظري عن احتمالات يرجح أن تظهر خلال الأسابيع والأشهر المقبلة. والمشهد الذي أخذ يتشكل على سطح الإمارة منذ العام الماضي وصل كما يبدو إلى مكان لم يعُدْ يسمح باستمرار النمو في المجال الذي تأسست عليه قواعد التطور العمراني في العقود الثلاثة الماضية.

لاشك في أن الصدمة المالية كبيرة ولكنها في النهاية كانت متوقعة منذ فترة لأسباب تتجاوز المسألة النقدية. فما حصل للإمارة لا يمكن حصره في دائرة المال وعجز شركات العقار عن تسديد ديونها وإنما يمكن ربطه أساسا بمأزق النموذج ووصوله إلى مرحلة الإشباع وعدم قدرة السوق على استيعاب الفائض الهائل في نمو قطاع البناء. فالمدينة التي تحولت إلى نموذج خاص في آليات تقدمها أنتجت مجموعة تعارضات داخلية بنيوية كان من الصعب تجاوزها من دون حصول هزة مالية توقف النمو السريع الذي فاق التوقعات وتخطى كل التصورات.

نموذج الدولة - المدينة الذي نجحت إمارة دبي في ترسيم معالمه خلال فترة وجيزة شكل مجموعة تحديات كان من الصعب تفسيرها في سياق نمو متسارع تفوق على نماذج «النمور الآسيوية» التي شهدت خلال الستينات والسبعينات والثمانينات وانتهاء بالتسعينات قفزات هائلة من التقدم على مختلف الأصعدة. فالنمور التي تمثلت في الدول والمدن السبع (تايوان، هونغ كونغ، كوريا الجنوبية، إندونيسيا، سنغافورة، ماليزيا، الفلبين) شكلت في فترة محددة قوة اقتصادية دولية أخذت تنافس إقليميا اليابان والهند والصين وبدأت تغزو أسواق أوروبا وأميركا في منتوجاتها التقنية والبضائع الاستهلاكية التي تميزت بالجودة ورخص الأسعار.

لم يقتصر نمو اقتصاد «النمور» على المنافسة في إنتاج السلع السوقية التي أشرفت مؤسسات المال والشركات الأوروبية والأميركية على بناء قطاعاتها في آسيا تهربا من الضرائب وارتفاع الأجور في مناطق المنشأ وإنما توسع ليشمل حقول البناء والعقار والمواصلات الجوية والبحرية والمصارف والسياحة. فالنمور التي نهضت بسرعة فائقة اعتمدت في تقدمها المذهل على السوق الأوروبية - الأميركية وتلك الشركات المتعددة الجنسية التي كانت تبحث عن مناطق للاستثمار المالي وتوظيف الفائض من الأرباح في بؤر قابلة للاستقبال والاستيعاب.

شكلت تلك الدول الآسيوية مناطق حرة لحركة النقد الأوروبية - الأميركية التي أخذت تندفع لتوسيع دائرة التوظيف خارج مناطقها التقليدية في العالم الأول (دول الشمال) بعد أن وصلت أسواق أوروبا وأميركا إلى طور الإشباع ما قلل من فرص الأرباح وبدأ بتهديد الشركات المتعددة الجنسية بالإفلاس. وجاءت الدول الآسيوية السبع لتشكل ذاك الملاذ الآمن الذي أعطى التسهيلات لتلك الشركات حتى تتسابق في عمليات التوظيف والاستثمار في مناطق آهلة بالسكان وتمتاز بتدني الأجور وتطمح في تأمين الحد الأدنى من الضمانات الاجتماعية والصحية والاستهلاكية.

لعبت دول النمور في العقود الثلاثة التي امتدت من الستينات إلى التسعينات دور المنقذ للشركات المتعددة الجنسية بسبب التسهيلات التي قدمتها للرساميل الهاربة من الشمال إلى الجنوب، ولكنها أيضا نجحت في اقتناص الفرص واكتساب تجربة اقتصادية ساهمت في تطوير طموحاتها التي اعتمدت على نمو طبقة وسطى (منتجة ومتعلمة) قادرة على الاستقلال السياسي عن الشبكة الدولية لمؤسسات النقد والمصارف وهيئات المال.


نمور آسيا

هذا النموذج الذي تم التعارف على وصفه بـ «النمور الآسيوية» جاء نتاج زواج مصلحة بين شركات متعددة الجنسية تمتلك ذاك الفائض من المال وأسواق فقيرة تطمح للنمو مهما كانت الكلفة السياسية التي تتطلبها حاجات المؤسسات القابضة على حركة النقد. وشكل عقد الزواج المصلحي فرصة لنمو تلك الدول الآسيوية السبع في وقت كانت أوروبا وأميركا تخوضان تلك الحرب الباردة في جنوب شرق آسيا ضد طموحات الاتحاد السوفياتي ونفوذ الصين في إطار مجالها الحيوي الجغرافي.

الولايات المتحدة آنذاك كانت بحاجة إلى تقديم بديل يدافع عن نموذجها الاقتصادي بعد أن فشلت تجربتها العسكرية في فيتنام ولاوس وكمبوديا. فالحاجة الأميركية للنموذج البديل شكلت ذاك الدافع الايديولوجي الرأسمالي لمنافسة التحدي الاشتراكي في منطقة استراتيجية لا تستطيع دول الشمال خسارتها اقتصاديا. وبسبب تلك الظروف الاستثنائية تحولت «النمور» إلى نموذج له وظيفته الايديولوجية في مواجهة نظريات حرب العصابات والكفاح المسلح ومعارك التحرير والاستقلال الوطني.

استمر النموذج (النمور) يتقدم في وظائفه المؤقتة إلى أن أخذت بريطانيا تنسحب رويدا من هونغ كونغ لمصلحة الصين في وقت بدأ الاتحاد السوفياتي يتفكك والمعسكر الاشتراكي ينهار في مطلع التسعينات. هذا التحول الجيوبوليتكي على صعيد الحرب الباردة والعلاقات الدولية ساهم في تعديل الصورة النمطية للنمور بعد اضمحلال العدو التاريخي من هيئة المشهد العالمي. وبسبب هذه المتغيرات تراجعت الوظيفة الايديولوجية للدول الآسيوية السبع في عهد الرئيس بيل كلينتون ما أدى لاحقا إلى انهيار أسواقها النقدية وإفلاس صناديقها وسقوطها في أزمة ديون تكفلت المصارف الدولية في تغطيتها مقابل تنازلات سياسية وخسائر تكبدتها الطبقات الوسطى.

أزمة «النمور» الآسيوية التي انفجرت في تسعينات القرن الماضي جاءت في لحظة كانت مناسبة لمصلحة نمو التفوق الصيني على حساب الدول الإقليمية الصغيرة ولكنها أيضا لم تسهم في اختفاء دور تلك القوى في مجالها الجغرافي. فهذه الدول لم يعُدْ يُطلق عليها وصف «النمور» ولكنها نجحت في المحافظة على موقعها المتواضع بسبب نجاحها في تسجيل خطوات جزئية ولكنها متقدمة في إطار التطور الاقتصادي البشري الداخلي. تايوان مثلا تراجعت ولكنها لاتزال تتمتع بذاك الموقع الخاص في إنتاج التقنيات المنافسة. هونغ كونغ تغيرت وظيفتها وانتقلت من لعب دور واجهة الصين (البوابة الأمامية) إلى الحديقة الخلفية للوطن الأم. وكوريا الجنوبية التي عانت من الانهيارات والإفلاسات نجحت في رسم خطة تصنيع تقنية جعلتها قادرة على مواصلة مسيرة نموها. حتى إندونيسيا والفلبين وسنغافورة وماليزيا استطاعت أن تضمن استقرارها النسبي بعد تلك الهزات المالية التي تعرضت إليها تباعا من دون أن تقوضها نهائيا وتشطبها من الخريطة الإقليمية.

ما حصل في دول «النمور» الآسيوية يمكن اتخاذه ذاك النموذج الخاص للمقارنة مع أزمة إمارة دبي التي لم تستقر بعد. المقارنة قد تكون صحيحة في جانبها الوظائفي وإطارها العام الذي تمثل في النمو السريع والقفزات الهائلة إلا أنها ربما تكون خاطئة في تطابق القياس في اعتبار أن النموذج في دبي يعاني من مأزق يتخطى دائرة المال وتسديد الديون وانغلاق الأسواق لتصريف السلع.

ما حصل في دبي ليس جديدا في مقارنة النموذج ومقاربته مع «نمور» آسيا ولكنه أيضا يمتاز بخصوصية لابد من قراءة جوانبها الأخرى التي تتعدى أزمة المال. فالصدمة بنيوية في جوهرها وهي تؤشر إلى وجود مأزق في النموذج الذي ربما يكون قد وصل إلى حده الأقصى من الإشباع ولم يعد بإمكانه مواصلة المسيرة على الوتيرة التي بدأ بها. وهذا هو بالضبط الجديد في مأزق دبي واختلاف أزمتها عن تلك التي شهدتها «أسواق النمور» في تسعينات القرن الماضي.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2644 - الثلثاء 01 ديسمبر 2009م الموافق 14 ذي الحجة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً