العدد 265 - الأربعاء 28 مايو 2003م الموافق 26 ربيع الاول 1424هـ

حروب بوش... ووهج الانتصار الامبراطوري!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

كثير من الحيرة تصيب المواطن العادي في بلادنا، وهو يتابع باندهاش هذا التصاعد الهائل في العدوانية الاميركية المصحوبة بوهج باذخ من روح الانتصار على الجميع، أو على الأقل القدرة الفائقة على قهر الاعداء القائمين والقادمين...

وبقدر ما يدرك هذا المواطن العادي في بلادنا، أن ما جرى في العراق أخيرا وفي افغانستان من قبل، لم يكن حربا بين الولايات المتحدة الاميركية وطرف قوي آخر، بل كانت حربا من طرف واحد، مارست خلالها القوة العسكرية الاميركية كل صنوف تفوقها وبطشها، لتعلن انتصارها على عدد من محور الشر...

بقدر ما ان المواطن الاميركي العادي ايضا، لايزال غارقا في وهم هذا الانتصار الكاسح الذي حققته آلته العسكرية الجبارة، وهو أمر يبدو شديد التناقض، ليس فقط مع ما يجيش في صدورنا أو في صدور شعوب أخرى كثيرة، ولكن مع بعض ما يطرحه عدد من كبار المفكرين والاكاديميين الاميركيين أنفسهم، عن زيف وهج الانتصار، وعن مخاطر الاندفاع الجنوني نحو رفع اميركا الفتية، بكل قيمها التي كانت تتباهى بها طويلا من تقديس الحرية والازدهار واقرار حق الشعوب في تقرير مصيرها وفي استغلال ثرواتها، إلى اميركا الاستعمارية التي تريد فرض هيمنتها بقوة السلاح على العالم أجمع، وليس العراق وافغانستان سوى مقدمة البدايات! ولقد استشهدنا في المقال السابق برأي المؤرخ والمفكر الشهير بول كنيدي، المحذر من مخاطر مثل هذا التحول، لكنه بالقطع ليس الوحيد، فعلى قائمة الذين بدأوا رفع أصواتهم ضد النزوع الامبراطوري في ظل القيادة الحالية، قيادة «المحافظين الجدد»، تأتي اسماء كبيرة لها وزن واحترام، مثل «نعوم تشومسكي» وادوارد سعيد وحليم بركات، والأخيران من أصول عربية، ولذلك فهما يجمعان ما بين الانتماء الاميركي والتفهم العربي، في حيرة تجعل لآرائهما أهمية خاصة، فيما يتعلق بالعلاقات العربية الاميركية...

وإذ يحذر هؤلاء خصوصا من اعتناق القيادة الاميركية الخاضعة لنفوذ اليمين المحافظ العدواني التوسعي، لفكرة هيمنة الامبراطورية الجديدة على أمور العالم وثرواته وسياساته منفردة، فإنهم يشيرون بوضوح إلى خطورة أن تفقد أميركا قيمها الديمقراطية والاخلاقية التي ميزتها عن غيرها من الدول والامبراطوريات، بسبب شدة التوسع الاستعماري الجديد.

أو كما يقول حليم بركات: «ان اميركا الحالية تسعى إلى الهيمنة على العالم سياسيا وثقافيا واقتصاديا باستغلال قوة ترسانتها العسكرية التكنولوجية المتفوقة - كما سبق ان فعلت كل الامبراطوريات الاستعمارية عبر التاريخ - وهي بذلك تتخلى عن قيمها ومبادئها السابقة - التي طالما جذبت اعجاب الشعوب الاخرى - خصوصا التعاون المتبادل واحترام المصالح المشتركة والحوار السياسي الدبلوماسي بعيدا عن الصراعات والعنف».

وإن كانت شهادة بركات - مثله مثل ادوارد سعيد - مجروحة لتشبعهما بخلفية ثقافية مغايرة، أتت من عالمنا العربي، فإن آراء نعوم تشومسكي ليست مجروحة، وهو الاشد عنفا في انتقاده لهذا التحول في القيم والمبادئ والاخلاق والسياسات الاميركية، تدهورا من «المثالية القديمة» نحو هاوية السلوك الاستعماري القديم، الامر الذي يعده كارثة تنذر بتراجع ثم اندحار الأمة - الدولة الاميركية الشابة!

وانطلاقا من موقف فكري وسياسي آخر، يأتي صوت المؤلف والكاتب الاميركي الشهير جور فيدال، الذي لا يعتبر ليبراليا كالأسماء السابقة، ولكنه من التيار اليميني الانعزالي التقليدي، الذي لايزال يرى ان امام اميركا طريقا واحدا هو: العودة إلى العزلة فيما بين المحيطين الاطلنطي والهادي، اللذين منحهما الله سياجا حاميا عازلا لهما عن مشكلات العالم وصراعاته، ومن ثم فهو يطالب بوقف الروح التوسعية التي تقودها الآن «عصابة تشيني - بوش» كما يسميها، حتى لا يستمر استنزاف الجهد والطاقة والثروة الاميركية في صراعات عسكرية ومشروعات سياسية وأطماع استعمارية، باسم حق اميركا القوية في قيادة العالم.

ولأن فيدال ينتمي إلى التيار اليميني الانعزالي المحافظ القديم والتقليدي، فقد فجع وهو يرى التيار اليميني التوسعي الجديد، يدفع اميركا دفعا نحو الخارج بدلا من التركيز على الداخل، ولذلك فهو يرفض الحرب ضد افغانستان والعراق - كما لايزال يرى في دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية قبل أكثر من نصف قرن خطأ استراتيجيا حادا - وهو يتهم العصابة المذكورة صراحة بالتورط المباشر في هجمات سبتمبر/ ايلول 2001 الشهيرة تبريرا لخوض حروب خارجية تفرض العدوان والتوسع الامبراطوري، وتتغذى على «أحلام الحروب» وهذا هو عنوان أحدث كتبه الذي صدر هذا العام 2003، منتهكة بذلك الدستور الاميركي ذاته، ومضحية بالمصالح العليا للبلاد!!

لكن عصابة بوش - تشيني، المرتكزة على صقور تحالف المحافظين الجدد، لا تولي اهتماما كبيرا حتى الآن على الاقل، بمثل هذه الآراء الحاقدة والمعارضة، بل تنظر اليها على طريقة «دع الكلاب تنبح والقافلة تسير»، على رغم ان المجتمع الاميركي تحكمه قيم وسلوكيات ديمقراطية، تستطيع تصحيح المسارات واسقاط القيادات، حتى وهي في قمة انتصارها، كما سبق ان فعلت مع الرئيس السابق جورج بوش الاب، بعد انتصاره في حرب عاصفة الصحراء لتحرير الكويت من غزو العراق العام 1991.

ولكي لا يلقى مصير ابيه، فإن الرئيس جورج بوش الابن، يعمل الآن بهمة شديدة على استغلال نتائج حربيه في افغانستان ثم العراق، افضل استغلال لبداية حملة إعادة انتخابه للولاية الثانية بعد سبعة عشر شهرا من الآن، وفي يده كثير من الاوراق الرابحة، كما ان ضده اوراقا خاسرة تعوق مسيرته.

فإذا بدأنا بالمعوقات فإن العامل السياسي - النفسي يلعب دورا مهما، ألا وهو انه اتى إلى البيت الابيض في انتخابات 2000 ضد المرشح الديمقراطي آل غور بانتصار مشكوك في شرعيته ومطعون في نجاحه بعدة مئات من الاصوات المزورة، مازالت عالقة في ذهنه وأذهان جماعته من المحافظين الجدد، كما في اذهان الشعب الاميركي نفسه، الذي لا يبلع عادة حكاية تزوير الانتخابات.

لكن أهم الاوراق المعوقة التي قد ترتد ضده، والتي يستغلها الحزب الديمقراطي المنافس بقوة، تتمثل في الوضع الاقتصادي المتردي، الذي شهد خلال رئاسته واحدة من اسوأ فتراته، إذ العجز في الموازنة وأرقام البطالة وفقدان الوظائف تتزايد بسرعة، مؤكدا فشل سياساته الاقتصادية على رغم كل محاولاته العلاج بخفض الضرائب مثلا، ناسفا كل الازدهار الواسع الذي تركه له سلفه الرئيس بيل كلينتون من خلال فترتي رئاسته.

ولكن بوش انسياقا وراء توسعية وعدوانية حاشيته من المحافظين الجدد، وخصوصا نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع فرامسفيلد ونائبه وولفويتز وغيرهم، يحاول ان يداري فشله الاقتصادي وعورته النفسية المتمثلة في شرعية انتخابه المطعون فيها، بتحقيق الاحلام الامبراطورية عبر الحروب والصراعات في الخارج، والاندفاع وراء اطماع الشركات العملاقة ودوائر المال والصناعة، في السيطرة على العالم الخارجي لضمان اسواقه وثرواته وخصوصا النفطية، حتى تعيد تدوير الانتعاش الاقتصادي الاميركي ذاته، على طريقة الامبراطوريات الاستعمارية القديمة.

ولا بأس ان يزركش كل هذه الاطماع الاستعمارية - الكلاسيكية - التوسعية، بأصباغ تلوينية براقة من نوع نشر القيم والاخلاقيات الاميركية، وتعليم الشعوب المتخلفة اصول الديمقراطية، وتلقين الدول دروس محو الامية واصلاح مناهج التعليم وضرورات مكافحة الارهاب، وقهر الشر ومحاوره، لصالح الخير ورسالته التي كلف الله بها الأمة الاميركية المتدينة المتطهرة!!

هنا فإن الامر يبدأ بالنفط وينتهي إليه، فعلى عكس تيار المحافظين القدامى، الذي كان يرى ان اميركا دولة مكتفية ذاتيا في كل مناحي الحياة بما فيها مصادر الثروة والنفط، فإن تيار المحافظين الجدد الحاكم اليوم، يبني فلسفته الاستراتيجية على مبدأين معاكسين:

- اولهما، ضرورة استغلال الخطة الراهنة - والتاريخية - لإحكام قبضة الولايات المتحدة على العالم كله من اليابان شرقا إلى البرازيل غربا، حتى بالقوة العسكرية الساحقة «الباطشة الطائشة»، ومن ثم تدعيم قيادتها وهيمنتها الجيوبوليتيكية، قبل ان تفلت الفرصة وتظهر قوة دولية مناوئة قادرة على المنافسة، سواء في الصين أو اوروبا الموحدة نفسها على رغم التحالف القائم معها!

- أما ثانيهما، فيقوم بالتالي على احكام القبضة الاميركية وحدها على مصادر النفط والغاز الكبرى في العالم، وفق ما املته اطماع الشركات الاميركية العملاقة - وخصوصا شركتي تكساس وكاليفورينا للنفط - التي يرتبط بها اركان القيادة السياسية الاميركية الحالية.

وبدمج المبدأين هذين، نستطيع ان نفهم مغزى الحرب ضد العراق، بل ضد افغانستان تحت حجج مكافحة الارهاب ونزع اسلحة الدمار الشامل، ونستطيع ان نفهم صعود وإعادة تأهيل الدور المحوري الممنوح لـ «إسرائيل» من الآن وفي المستقبل، ونستطيع ان نفهم اعتصار سورية والضغط على مصر والسعودية وابتزاز دول الخليج باسم الأمن وضمانات البقاء، ونستطيع ان نفهم لماذا حدة التدخل الاميركي في السودان، والدفع نحو فصل جنوبه الغني بالنفط، فضلا عن محاصرة ايران.

بل نستطيع ان نقرأ بوضوح خريطة الهيمنة والتوسع الامبراطوري الاميركي الجديد، على امتداد خريطة العالم، وعبر محاور وأقواس جيوسياسية متداخلة، إذ يتركز الآن الوجود العسكري الاميركي الثقيل حول وبقرب مخزونات النفط الكبرى، امتدادا من شرق آسيا إلى جنوب اميركا اللاتينية.

وحين نفرد خريطة العالم أمامنا، نجد ان هذا الوجود العسكري الثقيل، قائم الآن فعلا ومتزايد في دوائر عسكرية متداخلة، كما هي الحال في افغانستان وتركمنستان وباقي جمهوريات آسيا الوسطى الاسلامية وحول بحر قزوين - مخازن النفط والغاز - ثم في باكستان وتركيا والعراق ودول الخليج، ثم «اسرائيل» قاعدة الارتكاز، بينما تحاصر ايران وتخنق سورية...

وثمة دائرة أخرى أو قوس آخر يمتد غربا وجنوبا إلى اقصى المغرب وإلى عمق السودان، وفي المنتصف تحاصر مصر وتقهر إن لم تروض وتخضع تماما، ثم تتلاحم دائرة ثالثة شمالا مع حلف الاطلنطي الذي لايزال خاضعا للقيادة والادارة الاميركية، على رغم تمرد فرنسا وقلق المانيا.

عبر الاطلنطي تمتد دائرة جديدة لتحتضن دول اميركا اللاتينية، ومنها تقفز عبر المحيط الهادي ملتفة إلى الشرق، لتتماسك مع القواعد الاميركية في اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين بل واستراليا...

وعبر هذه الدوائر وداخل الاقواس المتداخلة المتشابكة، تسقط في القبضة الاميركية المحكمة والحديد، كل المناطق والمعابر الاستراتيجية المتحكمة في مفاصل العالم، كما تسقط كل حقول النفط الرئيسية في العالم، وإن بقيت الصين مبعدة وروسيا محاصرة منهكة، وكلتاهما لا تقوى على مناطحة الهيمنة الاميركية في المستقبل القريب.

الواضح اذن ان هذه هي استراتيجية اليمين الاميركي الحاكم - باسم المحافظين الجدد - وهي استراتيجية شديدة الطموح تعبر عن روح استعمارية امبراطورية هائلة، وهي التي يرى فيها الرئيس بوش وجماعته المنقذ الرئيسي للكساد والتدهور الاقتصادي الاجتماعي الاميركي، مثلما يرى فيها مشروع القرن الحادي والعشرين، الذي ينصب اميركا زعيما وحيدا للعالم الجديد.

وبقدر طموح الاستراتيجية وتوسعها وعدوانيتها واعتمادها على القوة العسكرية الباطشة والطائشة، بقدر ما تحمل بذور فشلها وتدهورها غدا أو بعد غد، بحكم التاريخ وقوانينه التي لا تخيب... فهذا ما جرى على الامبرطورية الرومانية قديما، وعلى الامبراطورية البريطانية حديثا، كلتاهما لم تكن تغيب عنهما الشمس، لكنها في النهاية غابت انصياعا لحكمة التاريخ.

وبقدر الضغوط الهائلة التي تفرضها هذه الاستراتيجية الاميركية الامبراطورية الجديدة، على دول وشعوب صغيرة متخلفة مثلنا، بقدر ما ان هذه الضغوط القاسية لا تدفعنا اليوم إلى الاستسلام لمشيئة الاستعمار الجديد، كما لم نستسلم بالامس لمشيئة الاستعمار القديم، إذ كانت المقاومة وتبقى المقاومة حقا مشروعا لكل الشعوب... وبقدر ما ان جماعة «المتأمركين العرب» تدعونا إلى الانصياع الفوري والالتحاق السريع بقطار الامبراطورية الجديدة من دون مقاومة أو تكاسل وتردد وتلكؤ، بقدر ما ان شروط المقاومة صعبة قاسية.

وأهم شروط المقاومة المطلوب توافرها من الآن، ان نخلع رداء الكسل والترهل والانصياع والتواكل، وان ننزع إلى العمل والإصلاح وبناء مجتمع التقدم والاستنارة - نقيضا للفقر والتخلف والاستبداد...

ليست في الامر موعظة ولا خطبة منبر في يوم عاصف، لكن الامر يمكن في ادراك لحظة الحقيقة في ظل تشكلها خلال يوم عاصف، ولذلك قلنا من قبل ونعيد اليوم ونزيد، ان الامر بأيدينا، والاصلاح الضروري مهمتنا وليس مهمة اميركا التي لا تريد لنا اصلاحا ولا يحزنون، فما تريده، هي، تحقيقا لمصالحها الكونية الامبراطورية، لا يلتقي بالتمام والكمال مع ما نريده نحن، حتى لو غطته بكل مزركشات المكياج، وأضفت عليه كل ملامح الشكوك حجبا لنور يتقد أمام العيون ويزدهر...

خير الكلام:

يقول الشاعر:

ألا أن اليقين عليه نور

وأن الشك ليس عليه نور

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 265 - الأربعاء 28 مايو 2003م الموافق 26 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً