العدد 2682 - الجمعة 08 يناير 2010م الموافق 22 محرم 1431هـ

حتى مصر!

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حتى مصر تعاني من مشكلة طائفية. فالاعتداء الذي نفذه مسلحون على مطرانية في وسط مدينة نجع حمادي كانت تحتفل بمناسبة ميلاد السيد المسيح وذهب ضحيته سبعة من المسيحيين الأقباط لايمكن وضعه في خانة مؤامرة أجنبية تحاول استدراج السلطة إلى مواجهة مع الكنيسة الارثوذكسية. المؤامرة المبرمجة قد تكون واردة (التدخل الدولي) ولكنها لا تكفي لتبرير الفعل وتجاهل الأسباب التي تكمن وراء مثل هذا التطور السلبي.

ما حصل في صعيد مصر (محافظة قنا) يستحق القراءة من وجوه مختلفة لأنه يؤشر إلى نمو ظاهرة سيئة يمكن ان تتحول إلى مشكلة حقيقية قد تستغلها القوى الكبرى وتعمد إلى تحريفها وتوظيفها لتمرير مشروعات تصب في إطار استراتيجية زعزعة الاستقرار في دائرة البحر الأحمر.

الحادث قد يكون عفويا أو مدروسا أو مخططا له، ولكنه ايضا قد يتحول من فعل موضعي أو عارض في السلوك الشخصي إلى مشكلة علاقات بين الجماعات الأهلية في حال لم تدرك السلطة خطورة الأزمة المتنامية منذ سنوات. فما حصل في المحافظة الجنوبية ليس الحادث الوحيد وانما تكرر في سلسلة حلقات ممتدة ومتنقلة أخذت عناوين مختلفة مرة بسبب ترميم أو بناء كنائس ومرة بسبب تغيير الديانة ومرة بسبب الزواج ومرة بسبب العلاقات الشخصية بين رجل وامرأة.

كل هذه الدوافع المتنافرة التي بررت في العقد الماضي حصول مجموعة صدامات أو نزاعات دموية تؤشر في النهاية إلى وجود خلل في مفهوم «المواطن» وعلاقة الفرد بالسلطة. فالدولة الوطنية المصرية التي تعتبر الأقدم في التاريخ العربي المعاصر قياسا بالدول العربية الأخرى التي تأسست في بلاد الشام أو بلاد الرافدين يفترض منطقيا انها تجاوزت طور العصبيات القبلية والطائفية والمذهبية والمناطقية ودخلت مرحلة الدمج (الصهر) للجماعات الأهلية التي تتشكل منها تقليديا.

دولة مصر المعاصرة تأسست زمنيا في مطلع القرن التاسع عشر وعبرت عمليا تلك الاشواط التاريخية التي كانت تميز بين المواطنين وتصنف أبناء الوطن بحسب الهويات الصغيرة أو الضيقة أو الموروثة. الدولة الوطنية في مصر بدأت باكرا ومرت في محطات واجتازت عتبات امتحانات قاسية من زمن محمد علي باشا إلى قائد الثورة الدستورية سعد زغلول في العام 1919. وبحكم طبيعة التاريخ المصري وتعايش مجموعاته الأهلية ووجود غالبية دينية/ مذهبية ساحقة نجحت الدولة في تكوين هوية وطنية جامعة لا تعتمد التفرقة ولا تخاف من أقليات.

مسألة الأقليات مشرقية وهي مشكلة عضوية عانت منها بلاد الشام وتفاقمت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ما أعطى فرصة للدول الكبرى بالتدخل وتأسيس مراكز نفوذ سهلت لاحقا إنشاء دول محلية ضعيفة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. وبسبب هذا الفارق الزمني بين نشوء الدولة في المشرق العربي وتأسيس الدولة في مصر عانت بلاد الشام من اضطرابات أهلية بينما كانت أرض الكنانة خارج هذا الاختبار الدموي.

دولة مصر مختلفة في السياق التاريخي عن تلك الدول العربية التي شهدت الولادة في فترة فاصلة بين الحربين العالميتين وفي إطار متحولات دولية ساهمت في تفكيك مجموعات أهلية أو تمزيقها أو بعثرتها أو دمجها عنوة في إطار وطني وعزل اخرى في بيئة مخالفة.

هذا التقسيم الأهلي لم تشهده مصر منذ قيام دولتها باعتبار أن قاعدة السلطة تأسست أصلا على أكثرية لا يمكن تشطيرها إلى هيئات متنافرة. وأدى التجانس بين السلطة وقاعدتها إلى نوع من الاستقرار الأهلي في علاقات المواطن بالدولة. فالنخبة في مصر هي نتاج التكوين الوطني للجماعات الأهلية وليست شريحة مختارة قررت الاستيلاء على السلطة من خارج غالبية الشعب وتلك الأكثرية التي تأسست على قاعدتها الدولة.

التجانس الأهلي وتوازن العلاقة بين الغالبية والسلطة واعتماد الدولة على قاعدة الأكثرية أعطى مصر فرصة للتقدم وتطوير نموذج خاص تحول في محطات تاريخية إلى مثال يحتذى ودفع النخبة الشامية إلى تقليده والسعي إلى استيراده حتى يضمن الاستقرار المفقود في المشرق العربي.

خصوصية النموذج المصري في بناء العلاقة الدستورية بين الدولة والمواطن تشكل عمليا حقبة تاريخية مهمة تفادت الانزلاق نحو تعارضات عصبية ضيقة تزعزع التوازن الأهلي وتخلخل ترتيب التعايش بين المجموعات والأطياف التي يتكون منها المجتمع.


متغيرات متسارعة

هذا الاستقرار الدائم حافظ على حده الأوسط المطلوب لضمان الوحدة الوطنية حتى في فترة الاستعمار البريطاني وبدء حركة الاستقلال وصولا إلى حرب فلسطين في العام 1948 وما اعقبها من قلاقل انتهت بانقلاب يوليو/ تموز 1952. حتى الانقلاب العسكري (الثورة) لم يفرق بين الشرائح النخبوية التي تتألف منها السلطة على رغم ما تعرضت له مصر من عدوان وحصار وتوترات بسبب انتقالها من عصر الملكية إلى الجمهورية ومن الاقتصاد الحر (السوق) إلى الاقتصاد الموجه (التأميمات الاشتراكية).

المتغيرات التي شهدتها مصر منذ خمسينات القرن الماضي كانت انقلابية وتركت تأثيراتها على العلاقات البنيوية بين المجموعات السكانية أو توزيع الثروة أو نمو شريحة عسكرية بيروقراطية أو ضمور تكتلات اقتصادية أو غياب أصحاب الأرض والرساميل عن واجهة السلطة، ولكنها لم تنجح في تعطيل مفهوم المواطن أو القنوات الدستورية للدولة الوطنية.

مصر حافظت حتى نهاية ستينات القرن الماضي على نموذجها الخاص حين نجحت السلطة على رغم المتغيرات الانقلابية السريعة في تأكيد موقعها العربي ودورها المتميز في تشكيل الوعي الجمعي الوطني لمختلف شعوب المنطقة من محيطها إلى خليجها. فالنموذج المصري استمر يمثل ذاك المثال المحتذى بحكم قوة الاقتصاد قياسا بالدول العربية وبسبب نمو نخبة متعلمة ومتخصصة تدير قطاعات متنوعة من مرافق الدولة وشبكاتها المنتجة ما سمح بضمان الوحدة الوطنية وتأكيدها على مختلف المستويات.

هذا الفائض من القوة الاقتصادية (الدولة الأولى عربيا وإفريقيا) أعطى مصر حتى نهاية الستينات دورا اقليميا رائدا في المجالين العربي والإفريقي وموقعا مميزا في إطار مجموعة دول عدم الانحياز. كذلك ساهم هذا الفائض في تأكيد الاستقرار الأهلي وضمان الوحدة الوطنية في إطار دستوري تأسس تقليديا على قاعدة الأكثرية التي تقوم على المساواة بين الدولة والمواطن.

المعطى التاريخي المذكور لا يزال حتى الآن. إلا أن مصر في نهاية سبعينات القرن الماضي دخلت في منعطف سياسي أثر على دورها في المعادلة الإقليمية والتوازن الداخلي ما أدى إلى تراجع نسبة ذاك الفائض من القوة الاقتصادية. وسبب هذا التراجع يعود إلى ارتداد الاقتصاد من التوجيه إلى لعبة السوق ما أدى إلى تعديل في نمو الثروة الوطنية وقنوات توزيعها.

خلال نصف قرن مرت الدولة في مصر في أطوار اقتصادية غير متجانسة سياسيا. فهي عبرت من محطة الاقتصاد الحر (السوق) في العهد الملكي إلى الاقتصاد الموجه (الاشتراكي) في العهد الجمهوري ثم ارتدت رويدا إلى محطة الاقتصاد الحر ولكن ضمن ظروف دولية متخالفة في شروطها عن تلك التي كانت سائدة عالميا في فترة ما قبل ثورة يوليو.

هذه التحولات المتسارعة كانت تحصل دائما بأوامر وتوجيهات وقرارات فوقية من السلطة ولم تكن نتاج متغيرات بنيوية تظهر بشكل طبيعي في المجتمعات النامية. وأدى هذا الأمر إلى حصول انكسارات في التوازن (توزيع الثروة) وتهميش الريف واضعاف قطاعات الإنتاج لمصلحة اقتصاد الريع وكذلك تراجع دور مصر الإقليمي وموقعها العربي.

المشكلة الآن أن تلك الانكسارات (التحولات المتسارعة) بدأت ترتد إلى الداخل وأخذت تفتح قنوات التوتر بين المجموعات الأهلية التي تتشكل منها الدولة. فهذا القلق المتنامي في صعيد مصر وبعض المحافظات والمدن المختلطة يؤشر إلى تطور الخلل في مفهوم «المواطن» وعلاقة الفرد بالسلطة وتراجع الوعي الدستوري الذي يرتب معادلة التوازن بين الدولة والوطن وبالتالي يضعف قدرة الحكومة على السيطرة في الكثير من المناطق والأقاليم.

ما حصل في مدينة نجع حمادي (محافظة قنا في الصعيد) يمكن أن يتكرر ويمتد وينتشر ويتنقل كما شهدت مصر خلال العقد الأخير حين بدأت السلطة تفقد السيطرة على الامتداد البشري (النمو السكاني) وما يتطلبه من واجبات تضمن ذلك التوازن الدستوري بين الدولة والمواطن. والمشكلة التي يرجح أن تتطور وتتفاعل لا يمكن قراءة تداعياتها في إطار فردي أو حادث مفتعل أو مؤامرة خارجية. فكل هذه المسائل واردة إلا أن المشكلة الحقيقية لا تحتمل التأجيل أو الاهمال وهي تتعلق أصلا بتراجع موقع مصر الاقتصادي وتدني درجة العدالة في توزيع الثروة وتحكم شرائح بيروقراطية في إدارة المحافظات بعيدا عن إشراف المركز المنشغل بالكثير من الهموم التي ليست بالضرورة أولويات.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2682 - الجمعة 08 يناير 2010م الموافق 22 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • مواطن مستضعف | 1:07 ص

      غريبة يا أستاذ وليد؟!!

      تقول: " حتى مصر" تعاني من مشكلة طائفية, ويكأن مصر هي البلد المثالي الذي يضم كافة أبناءه تحت راية العدل والمساواة؟؟!!! ومع خالص مودتنا لمصر ... هي ليست سوى بلد "عربي" نامي, يضيّق الخناق على الشعب ويستضعفه, أما موضوع الطأفنة فهو عائد إلى التعصّب الفئوي الأعمى لمؤجّجيه.
      مع وافر التحية

    • زائر 1 | 11:01 م

      الله يعودك يستعمار(عبد علي عباس البصري)

      اخواني لا احد يستعجل علي ويقول كفر او اشرك وانما اقول لكم بعض الحقائق ،لو نظرنا الى الهند في سعه ارضها فلربما تساوي مساحه الدول العربيه وفيها الكثير من الطوائف وكثير من اللغات والشعوب ولم نرى طائفيه تذكر هناك يعيش الهندوس والمسلم والبانيان متحدين كلهم وطنيون ضد باكستان ، ثانيا البحرين قبل الاحتلال البريطاني شعب فقير وفيه الحروب الاهليه والنهب والسلب والاطهاد . فلما جاء البريطانيون رفع عنا القهر والاستعباد وعلمونا وجائو بقانون حقوق الانسان . فليت الاستعمار يعود .

اقرأ ايضاً