العدد 2695 - الخميس 21 يناير 2010م الموافق 06 صفر 1431هـ

من الإجهاد العملي إلى الاجتهاد النظري

مسيرة ابن عربي وأعماله (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تصادفت زيارة ابن عربي إلى مكة مع رحلة ابن الفارض، إلا أنهما اختلفا في سلوكهما. فابن الفارض أكثر من العزلة في وادٍ بعيد عن مكة بينما اتخذ ابن عربي الركن اليماني كمكان يلقي فيه دروسه وشروحه التي جُمعت وصُنّفت لاحقا في كتاب «الفتوحات المكية».

بلغت فصول الفتوحات 560 فصلا (20 مجلدا) جمع فيها بين السنة وغيرها، فكان يقول فيها ويبالغ في تأويلها لتأكيد نظرياته العامة عن وحدة الزمن ووحدة الحقيقة. فالفتوحات المكية تختلف عن كل كتب الفتوح التي صنفت في تاريخ الإسلام. فالسابقة تناولت بالجملة والتفصيل الفتوحات الإسلامية السياسية (صلحا) والعسكرية (عنوة) والإجراءات التنظيمية والإدارية والاقتصادية التي تلتها وعلاقة الأرض المفتوحة بمركز الخلافة. بينما تناولت فتوحات ابن عربي الجوانب الروحية للدعوة الإسلامية ليس من لحظة نزولها بل منذ لحظة بدء الخليقة. فالإسلام عند ابن عربي هو الحقيقة الكاملة التي تجلت في أدوار مختلفة وصولا إلى ما يسميه «الحقيقة المحمدية» وهي بمصطلحه «الإنسان الكامل بأخص معانيه».

اربكت نظريات ابن عربي أهل السنة والجماعة في عصره وتعرضت إلى نقاشات بعد رحيله، وتفاوتت الردود عليه فاتهم بالإلحاد والزندقة والقول بوحدة الوجود والحلولية والاتحاد والتناسخ وهي أمور نفاها ابن عربي وأوضح أفكاره في كتب مستقلة تفسر ما يريد قوله وما لا يريده. فابن عربي مثلا يحذر مريديه من التسرع في طلب الكشف والمشاهدة فهذه الأمور لا تحصل إلا لفئة مختارة من البشر. وعلى رغم توضيحاته استمرت الالتباسات حول فلسفته العرفانية وأبعادها وأهدافها، وبقيت الشبهات تحوم حول معاني كلماته ورموزه وإشاراته الغامضة.

ابن خلدون (توفي 808هـ - 1405م) مثلا حذر من «علم المكاشفة» لان العبارة عن تلك «المدارك والمعاني المنكشفة من عالم الملكوت متعذرة، لا، بل مفقودة، لأن ألفاظ التخاطب في كل لغة من اللغات إنما وضعت لمعانٍ متعارفة من محسوس، أو متخيل، أو معقول تعرفه الكافة» (شفاء السائل، ص 103). ويشير المؤرخ الدمشقي ابن كثير (توفي 774هـ - 1372م) إلى كتاب «الفتوحات» وينتقده ويجد فيه «ما يعقل وما لا يعقل، وما ينكر وما لا ينكر، وما يعرف وما لايعرف» (مجلد 13، صفحة 179). وقال عنه ابن السبط الجوزي «كان يقول إنه يحفظ الاسم الأعظم، ويقول إنه يعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب، وكان فاضلا في علم التصوف وله تصانيف كثيرة».

تشير التعليقات المذكورة إلى نوع من الشك العقلي في أقوال ابن عربي العرفانية، وهي تدل إلى نوع من الارتباك في تحديد موقف واضح من نزعة غريبة ظهرت في لحظة زمنية يصعب تصنيفها في مدرسة فقهية أو فلسفية أو صوفية. وفي الواقع جمع ابن عربي المدارس الثلاث في أعماله وسيرته، فهو مالكي المذهب أفتى على المذاهب الأربعة، وهو فيلسوف في نظامه المعرفي لا يقبل نظريات الفلاسفة عن الوجود وأهل الكون والوحدة والانقسام، وهو صوفي الهوى (التربية الأسرية) لا ينسجم مع حركات الزهد والدراويش. فابن عربي شكل حالة خاصة في زمنه تحولت إلى نموذج مختلف حين قام بترويج أفكاره ونقلها وتدريسها لتلامذته في رحلاته الدائمة.

لم يستقر ابن عربي طويلا في مكة فغادرها إلى بغداد سنة 601هـ (1204م) والتقى هناك بالإمام عمر السهروردي (539 - 632هـ/ 1144 - 1234م) الذي ذاع صيته بعد صدور كتابه «عوارف المعارف». فالإمام السهروردي (وهو غير السهروردي المقتول في عهد السلطان صلاح الدين في قلعة حلب سنة 587 هجرية) عرف عنه جمعه بين الفقه (شافعي المذهب) والتصوف، وشكل ظاهرة خاصة حين قدومه من سهرورد في فارس إلى بغداد وبات مرجعا في الفقه والتصوف.

فشل اللقاء وافترقا بعد خلاف الإمام السهروردي مع منظومة أفكار ابن عربي، فعاد الأخير إلى القاهرة في سنة 603هـ (1206م) وحاول الشيخ القاضي البجائي التوسط له مع سلطان مصر عارضا عليه العمل في الدولة، فاعتذر وغادر مجددا إلى مكة في العام 611 هـ (1214م) وبدأ بتدريس «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي في خطوة منه تشير إلى عدم اختلافه مع تصوف الغزالي الذي يوصف بحجة المسلمين وإمام المجددين.

لم تسعف خطوة التقرب من فكر الإمام الغزالي في تحسين موقع ابن عربي الذي أكثر من شروحه وتفسيراته المتناقضة، فاضطر إلى مغادرة مكة متوجها إلى الموصل ثم حلب ومنها إلى قونية في بلاد الأناضول. وهناك نجح في التأثير على بعض المريدين فنشأت مدارس تستلهم منظومة أفكاره التي انتشرت بحدود معينة في بعض أوساط النخب من أدباء وشعراء، لكنها فشلت في التحول إلى تيار شعبي نظرا إلى صعوبة مفرداته وإبهام معاني كلماته.


فترة دمشق

في هذه الفترة وردت من الشرق والغرب أسوأ الأنباء. ففي الشرق بدأت حركة المغول باتجاه الغرب (بلاد الرافدين والمشرق) تسقط الحواضر المسلمة ولم تتوقف الا بعد سقوط عاصمة الخلافة بغداد في العام 656هـ (1258م). وفي الغرب الأندلسي تدهور وضع دولة الموحدين في عهد إمارة الناصر وجاءت الأخبار تؤكد مخاوف ابن عربي وتوقعاته. فالناصر الذي تولى الإمارة في سنة 595هـ بدأ حكمه بالصراع مع ابن غانية، وبعد جولات عنيفة استولى على ما بيدهم من جزر البليار سنة 599هـ (1203م). ثم عاد وتوجه إلى قمع ثورته في شمال إفريقيا بعد أن نجح ابن غانية في السيطرة على مدينة المهدية، وحتى يخمد ثورته اضطر إلى توقيع معاهدة صلح مع الفرنجة لمدة خمس سنوات.

أضعفت ثورة ابن غانية قوات الموحدين فنقض الفرنجة الصلح واستغلوا الأمر وأخذوا بتوجيه قواتهم لإسقاط حصون المسلمين. وأعد الناصر قواته لمواجهة جيوش قشتالة (ملكها الفونسو الثامن) واجتازت المضيق إلى طريف ومنه إلى اشبيلية في سنة 607هـ (1211م) فاسترد حصن شليطرة سنة 608هـ (1212م).

استنفر الفونسو ملوك إسبانيا (نبرة، واراغون) واتفقوا على دعم جيوشه في لحظة بدأ يتفكك معسكر المسلمين. والتقى الجيشان في موقعة «العقاب» سنة 609هـ (1212م)، فكانت هزيمة كبرى لدولة الأمير الناصر حين تفككت قواته فتراجع إلى جيان فتم حصاره وقتل أكثر جيشه.

شكلت موقعة «العقاب» نقطة تحول في موازين القوى فازداد انقسام دولة الموحدين وأخذت تتناثر إلى أشلاء بعد رحيل الناصر في سنة 610هـ (1213م) وتولي ابنه المستنصر إمارتها. ففي عهد المستنصر نشبت الثورات في المغرب (تمرد بني مرين) وأخذت الدولة تتلاشى فاتجه الأمراء إلى الاستقلال بمناطقهم الجغرافية (الارتداد إلى عصر أمراء الطوائف) فاستغل الفرنجة نهاية فترة الهدنة (تم توقيعها بعد هزيمة العقاب) في سنة 614هـ (1217م) وبدأ الفونسو التاسع هجومه الكبير فتساقطت مواقع المسلمين وحصونهم واحدا بعد آخر. وخاف أمراء المناطق في الأندلس على مصيرهم فتحالفوا لطرد الموحدين وأعقاب العرب (بقايا دولة الأمويين)، كما يذكر ابن خلدون في تاريخه، ونجحوا بعد اجتماعهم في إخراجهم من البلاد. وبطرد الموحدين من الأندلس تبعثرت دولتهم في المغرب واضمحلت نهائيا بعد رحيل المستنصر (آخر الأمراء) في سنة 620هـ (1223م) واندلاع النزاع على خلافته.

شهد الغرب الاسلامي أسوأ تحولاته التاريخية آنذاك. ففي الوقت الذي أخذ الفرنجة يتوحدون بقيادة فرناندو الثالث، بعد رحيل الفونسو التاسع، انقسمت الأندلس مجددا وعادت إلى فترة سقوط تشبه زمن «دويلات الطوائف»، فبدأ أمراء المناطق يستقلون بديارهم فاستولى ابن هود الجذامي على إمارته، وابن سعد (من أعقاب دولة بني مردنيش) على بلنسية، وخرج ابن هود بدولته، وخرج أهل نسب ابن هود (محمد بن يوسف بن نصر) المعروف بابن الأحمر عليه فكانت لكل منهما دولته، وظهر محمد بن أبي حفص سنة 620هـ (1223م) فاندلع القتال بينه وبين ابن هود فهرب ابن حفص إلى برشلونة وانضم إلى قوات الفرنجة سنة 626هـ (1229م).

استغل فرناندو الثالث الانقسامات الأهلية ولعب على تناقضات أمراء المناطق في ظل اضمحلال الدولة المركزية، فاستولى على عدد من المدن في سنتي 626 - 627هـ ومنها ماردة وبطليوس في المنطقة الغربية من الأندلس، ناقلا المواجهة من الغرب إلى وسط الجنوب، فتراجع المسلمون إلى الوادي الكبير في جو عاصف بالخلافات والانتفاضات وخصوصا ذلك الصراع بين ابن هود وابن الأحمر.

لم تنفع تدخلات الدولة العباسية في وقف الحروب الأهلية الصغيرة. وحين وصل خطاب الخليفة المستنصر العباسي إلى ابن هود (الجذامي) مع وفد جاء من بغداد حاملا معه الراية والخلع والعهد ولقب المتوكل، اضطر ابن الأحمر (بني نصر) مبايعته، إلا أن الخلاف عاد ودب مع ابن مدافع (ابن مردنيش) وابن خطاب في شرق الأندلس، فاستغل الفرنجة الانهيار وزحفوا على معظم ثغور المسلمين وحاصروا قرطبة (عاصمة دولة الامويين ومدينة ابن رشد) واسقطوها سنة 633 هـ (1236م) وبعدها سقطت بلنسية في 636 هجرية، بينما استقر ابن هود في أشبيلية واستولى ابن الاحمر على غرناطة سنة 635هـ (1238م).

حين جاءت أنباء قرطبة كان ابن عربي غادر قونية (الأناضول) في رحلة جديدة قاصدا بلاد الشام فاستقر في دمشق منذ سنة 627هـ وبدأ يكثر الجلوس في زاوية الغزالي في جامع دمشق تقرُّبا منه وأخذ بتدريس أعماله وشرح كتابه «الوسيط» في الفقه واعتمده إلى جانب كتاب «الأحياء» لتطوير أفكاره وتوضيح ملابساتها.

آنذاك بلغ ابن عربي الـ 73 من عمره واحتل مكانة عالية بين مريديه ولقب بشيخ العارفين وباتت له حلقة من التابعين في وقت عاد الصوفي الآخر ابن الفارض من مكة إلى القاهرة بعد غيبة 15 عاما من التأمل وقعد في قاعة الخطابة في الأزهر، وأخذ الناس يقصدونه للزيارة والاستماع إلى شروحه وقصائده إلى حين وفاته سنة 636هـ (1239م) وهي السنة التي اتفق فيها على وفاة ابن عربي في دمشق (هناك من يذكر 638هـ كالمؤرخ ابن كثير) ودفن في الصالحية عن 76 سنة في مقبرة القاضي محي الدين بن الزكي في جبل قاسيون.

برحيله انتهى طور مديد في مراحل الصوفية كان ابن عربي خير معبّر عنه في سيرته وأعماله بدءا من قرطبة وانتهاء بدمشق. فقبله كانت الصوفية ممارسة وحركات رياضة تهدف إلى تطويع الجسد في أنماط وتعابير لم تتجاوز حدود بعض الروايات والكتابات ومنثورات من الأدب والشعر. وبعده تحولت الصوفية إلى نظرية شاملة وحركة ذهنية فلسفية تهدف إلى تطويع العقل في نظام معرفي.

نجح ابن عربي في حياته وأعماله في نقل التصوف من كلام شعري ورياضات تطبيقية (الإجهاد) إلى اجتهاد فقهي - فلسفي انتهى إلى بناء ناطحات سحاب فكرية وأبنية نظرية وتحويل الممارسة إلى رؤية مختلفة للحياة والكون والوجود والإنسان.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2695 - الخميس 21 يناير 2010م الموافق 06 صفر 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً