العدد 2709 - الخميس 04 فبراير 2010م الموافق 20 صفر 1431هـ

الصوفية تنتقل من الممارسة إلى الفلسفة

سيرة ابن عربي وأعماله (4)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

عن هذه المسألة (اختلاف طبقات البشر) يقول ابن عربي «أعلم أن رجال الله في هذه الطريقة (أصحاب الكرامات) هم المسمون بعالم الأنفاس (...) وهم على طبقات كثيرة وأحوال مختلفة، ومنهم من تجمع له الحالات كلها والطبقات (...) وما من طبقة إلا لها لقب خاص من أهل الأحوال والمقامات، ومنهم من يحصره عدد في كل زمان، ومنهم من لا عدد له لازم فيقلون ويكثرون (...)» (جامع كرامات الأولياء، الجزء الأول، صفحة 68). فابن عربي انطلاقا من مشروعه الفلسفي بتوسيع دائرة التصوف قام بتوزيع الكرامات على طبقات متعددة تتفاوت بحسب قربها وبعدها عن نظرية «الإنسان الكامل». لذلك صنف أصحاب «مراتب الولاية» إلى ثلاثة:

الصنف الأول (من يحصره عدد) وجاء ذكرهم كمفردات في مطلع أو وسط أو ختام آية قرانية وهم: الأقطاب، الائمة، الأوتاد، الابدال، النقباء، النجباء، الحواريون، الرهبيون، الختم، رجال الغيب، الظاهرون، الأعلون، الأسفلون، رجال القوة، رجال العطف، رجال الفتح، رحمانيون، البدلاء، ورجال الاشتياق.

والصنف الثاني (من لم يحصره عدد) وهم: الملامتية (الملامية) وبرأيه هم سادات أهل طريق الله وأئمتهم، الفقراء، الصوفية، العبّاد، الزهاد، رجال الماء، الأفراد، القراء، الأحباب، المحدثون، الأخلاء، السمراء، والورثة.

وأخيرا هناك أصناف أهل الولاية من البشر (ممن حصرتهم الأعداد ومن لا يحصرهم عدد) وهم: الأنبياء، الرسل، الصديقون، الشهداء، الصالحون، المسلمون والمسلمات، المؤمنون والمؤمنات، القانتون والقانتات، الصادقون والصادقات، الصابرون والصابرات، الخاشعون والخاشعات، المتصدقون والمتصدقات، الصائمون والصائمات، الحافظون والحافظات، الذاكرون والذاكرات، التائبون والتائبات والتوابون، المتطهرون، الحامدون، السائحون (المجاهدون في سبيل الله)، الراكعون، الساجدون، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر، الحلماء، الأواهون، الأجناد، الأخيار، الأوابون، المخبتون، المنيبون، المبصرون، المهاجرون والمهاجرات، المشفقون، الموفون (الوفاء)، الواصلون، الخائفون، المعرضون، والكرماء. (من جامع كرامات الأولياء، الجزء الأول، ص 96).

يلاحظ أن الشيخ العارف أدخل مختلف المفردات القرآنية في قاموسه الإصطلاحي وقام بتفسير كل كلمة وتصنيفها في نظام فلسفته المتراتب إلى درجات متفاوتة تدل على نسبة «كرامات» كل فئة، فهو لم يعتبر الصوفية فئة خاصة بل وضعها في الصنف الثاني وهو «من لم يحصره عدد».


الوجود والعدم

كان هَمّ ابن عربي الإجابة عن سؤال: من أين جاءت الموجودات، من العدم أم من الوجود، فإذا كان الواحد (الأول) خارج الزمان لا ينقسم ولا يدخل عليه الزمان فمن أين جاءت الكثرة؟

استفاد ابن عربي من فكرتي «الفيض» و «الصدور» عند الفارابي وابن سينا وتجاوزهما إلى فكرة التجلي. فالفيض في فلسفة الفارابي - ابن سينا يتوقف تكاثره في حد معين بينما التجلي عند ابن عربي مستمر لا ينقطع. فهو يتواصل وينفصل في حركة دائمة توحيدية تتوسط الأشياء (الموجودات والمعقولات) والمفردات (اللغة) والأرقام (الرموز والإشارات) والعلوم (العملية والعلمية) والمعارف (العقول) منتقلة من الجزئي إلى الكلي ومن النسبي إلى المطلق.

احتلت فكرة الوسائط، كما ذهب نصر حامد أبو زيد في شرحه لفلسفة التأويل عند ابن عربي، الحلقة الأساس في منظومة الشيخ العارف الفلسفية. فهناك أربع مجموعات من الوسائط، كما شرح أبو زيد في كتابه «فلسفة التأويل»، الأولى هي البرزخ «بينهما برزخ لا يبغيان». فالبرزخ هو الوسيط الجامع الذي يربط ويفصل. فهو الخيال المطلق ومنه العماء وهو السحاب الذي يتولد من الأبخرة وبالتالي فهو خيال منفصل وهو التمثل الأول في صورة غير محدودة. والثانية تتألف من القلم (العقل الأول) واللوح المحفوظ (النفس الكلية). والثالثة تتألف من العرش والكرسي. أما المجموعة الرابعة من الوسائط فتتألف من الأفلاك السبعة (السموات السبع) وتدرجها من السابعة إلى الأولى.

الوسائط هي أدوات التحليل أو منهج الخيال في فلسفة ابن عربي الصوفية، وهي الصلة بين الموجود الأول (علة العلل) أو العلة الأولى ومختلف الموجودات الصادرة عنه التي تجلت في الكون والإنسان. فالزمان واحد عنده وهو يتجلى ولا يتحد أو يحل (الحلولية) بل يتصل في حركة تراكم تاريخية وصولا إلى الإنسان الكامل وتماثله مع مرآة الزمان.

توصل ابن عربي إلى منهجه الصوفي - الفلسفي من حركة اتصاله بمختلف مدارس عصره وانفصاله عنها وتنقله وسفره الدائم من وطنه الأول (الأندلس) إلى وطنه الأخير (بلاد الشام). فهو ولد في لحظة انهيار تاريخي. وفي هذا الجو المضطرب سياسيا تشكلت النواة الأولى لفلسفته فدمج منهج التصوف المسالم بنزعة عقلية نقلت الصوفية من حركة انعزالية إلى منظومة فلسفية استخدمت الألغاز لتفسير ظاهر القرآن ولجأت إلى الباطن لقراءة الآيات المنزلة. فوحد بها بين التفسير الظاهري والتأويل الباطني. ابن عربي الشيخ الشاب يختلف عن ابن رشد القاضي العجوز. فالثاني حل أزمته الداخلية (قلقه) بالهروب إلى الأمام (الوراء) وصولا إلى ارسطو. والأول حل قلقه الداخلي بالهروب إلى الأعلى وصولا إلى «سدرة المنتهى».

استفاد ابن عربي في فلسفته من محيطه الاجتماعي والتواصل الفكري في الأندلس. فهو خلاصة التيارات، وكلها اجتمعت في شخصه. فهو مالكي وشافعي وظاهري وباطني وفي الآن هو الفيلسوف المتصوف الذي قرأ الانهيار العام في الأندلس من منظار ربط الوجود في ما وراء الطبيعة. فالشيخ هو ابن زمنه وخارج عصره في آن، ربط التصوف (المجاهدة) بنظريات الفلاسفة والمتكلمة والمتصوفة (الاجتهاد) وأعاد إنتاجها في سياق روحي مختلف ربط الزمان باللازمان والمكان باللامكان. فالفلسفة في منظومته الفكرية الأولى بدأت أندلسية وانتهت مركبة مشرقية - مغربية. أخذ مقولة «المدينة الكاملة» من ابن باجه وقام بتدويرها وتحويلها إلى مفهوم جديد يقول بالإنسان الكامل. فالمدينة الكاملة عند ابن باجه غير موجودة، وهي كمدينة الفارابي الفاضلة من المستحيل وجودها في واقع معقد ومقبل على انهيار شامل. أما الإنسان فهو وجود مستقل وصلته بالأشياء فردية. والفرد يتطور على المستوى الوجودي (المادي) ويتدرج في معارج الروح وصولا إلى الأعلى.

واستفاد من مقولة ابن باجه عن الإنسان الكامل (الغريب) في مدينة ناقصة. فالإنسان الكامل عند ابن باجه هو غريب عن أهله وفي أزمة دائمة بينه وبين محيطه (مدينته)، ويقف مترددا بين خيارين: إما الانعزال (الانكفاء) والسفر إلى وطنه الخاص (أفكاره)، وإما القبول بالأمر والتصالح مع الواقع والعيش باستقلال روحي مع أفكاره. ففكرة ابن باجه عن غربة الإنسان الكامل (الاستلاب) جاءت من حديث للرسول (ص) عن غربة الإسلام وعزلته في آخر الزمان.

حل ابن عربي أزمة ابن باجه الوجودية (الغربة والسفر بالأفكار) بالسفر والترحال ومغادرة الأندلس إلى مختلف الأقطار والأوطان. فالسفر عند ابن باجه روحي (معنوي) وتحول عند ابن عربي من فكرة إلى ممارسة وحالات تنقل مستمر وحركة دائمة من مدينة إلى مدينة ومن مكان إلى آخر.

واستفاد من فكرة «المرآة» في فلسفة ابن طفيل وانعكاس المعرفة من المطلق إلى الجزئي ومن العام إلى الخاص. فالمرآة المنعكسة (المعارف المتعاكسة) تحولت في منظومة ابن عربي إلى نهاية المعرفة التي ترتقي بالانسان الناقص من الأدنى إلى الأعلى (الإنسان الكامل) وصولا إلى الاتصال بالخاتمة (سدرة المنتهى).

واستخدم منطق ابن رشد فرفعه إلى حده الأرقى وقام بقراءة تاريخية فلسفية شاملة لمسألة الوجود والعدم منذ لحظة البدء إلى لحظة النهاية، وتتمثل في منهجه الصوفي في «الحقيقة المحمدية» وهي تلك التي شرحها في فتوحاته، وهي فتوحات روحية تبدأ منذ لحظة تجلي الأول في المقصود الأول إلى الخاتمة.

واستفاد من أعمال وكتابات الحركة الصوفية في الأندلس من ابن مسرة إلى ابن برجان وابن العريف التي انبعثت بقوة في زمنه بسبب القلق الدائم من المحيط، وتهديد الفرنجة المستمر لوجود دولة المسلمين. فالمخاوف الدائمة تحولت إلى يقين دائم. واليقين عنده ليس في مكان بل في كل مكان فانتقل اليقين من مادة (مكان) إلى ما فوق المادة (اللامكان).

وأهم ما استفاد ابن عربي منه هو الإمام الغزالي وكتابه الإحيائي (إحياء علوم الدين) الذي شكل في قواعده العامة الرافعة الفلسفية لمنظومته الصوفية. فمع ابن عربي انتصرت فلسفة الغزالي الفقهية وانهزمت الرشدية وما قبلها في الأندلس.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2709 - الخميس 04 فبراير 2010م الموافق 20 صفر 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 9:15 ص

      سلسلة قيمة

      أتمنى أن لا تتوقف هذه السلسلة عن حياة ابن عربي وأعماله وحتى بالتحليل لما ألفه وقام به...
      شكراً لك أستاذ وليد ويا حبذا ذكر المصادر التي تستقصي منها كتاباتك عنه عليه الرحمة

اقرأ ايضاً