العدد 2718 - السبت 13 فبراير 2010م الموافق 29 صفر 1431هـ

اليمن... وديمقراطية القبائل

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

المعارك العبثية التي اندلعت في صعدة وأدت إلى مقتل المئات وجرح وتشريد الآلاف من الضحايا انتهت إلى وقف للنار بعد قتال امتد منذ أغسطس/ آب 2009. والهدنة التي أعلنت صنعاء عنها بعد موافقة الحوثي على الشروط الستة مرشحة للاهتزاز في حال تأخرت الدولة في إعادة هيكلة الشراكة بين المركز والأطراف.

الجانب السياسي في المشكلة يحتل أهمية استثنائية في تنظيم العلاقة بين الدولة والقبيلة في مجتمع لايزال يتحرك تحت طور تاريخي تلعب فيه السلطات المحلية دورها الخاص في التأثير على المجموعات العشائرية التي تسكن في دائرة جغرافية وعرة في طبيعتها ومخارجها ومسالكها ومداخلها.

إهمال الجانب السياسي من الأزمة يعطل إمكانات التوصل إلى مشروع اتفاق يضمن في المستقبل عدم انهيار الهدنة باعتبار أن وقف إطلاق النار جرى في ظل توازن قوة منع المجموعات المتمردة من تحقيق أهدافها الغامضة وغير الواضحة أصلا، كذلك أضعف السلطة المركزية في دائرة جغرافية تهيمن القبيلة على تحريك آلياتها السياسية.

هذا التوازن بين المركز والأطراف يؤشر إلى احتمال وجود فرصة توفر إمكانات إعادة وصل شبكة الأمان التنموي/ الاجتماعي بإطار سياسي يعطي ذاك الموقع للسلطات المحلية والتي تشرف جغرافيا على إدارة مجموعات القبائل. وتجربة الحوثي مع المركز قد تساعد صنعاء على إعادة قراءة المشكلة في إطارها اليمني الشامل ولا تكتفي بمعالجة جزئية تقتصر على صعدة ومحيطها القبلي.

مشكلة الحوثية قد يكون لها خصوصيتها الأيديولوجية والإقليمية ولكنها تشكل ذلك النموذج القبلي الذي يمكن الاستفادة من تجربته والبناء عليه لتأسيس رؤية سياسية تتجاوز حدود محافظة تقع في الشمال الغربي من الدولة.

أزمة اليمن لا تختزل في صعدة وحرف سفيان والملاحيظ باعتبار أن تداعيات المشكلة تمظهرت خلال الشهور الستة الماضية في حالات تمرد واحتجاجات امتدت في مناطق ومحافظات تلعب فيها القبيلة دور القابض على آليات السلطة المحلية. والمشاهد التي تحركت أو انفجرت في أماكن مختلفة وأحيانا في زمن متقارب تؤشر إلى معضلة بنيوية تتجاوز أزمة قبيلة واحدة في علاقتها مع المركز.

اليمن منطقة قبائل والدولة التي ترعى مركزيا المحافظات لا يعني أنها أصبحت اللاعب الأول في إدارة السلطات المحلية باعتبار أن الشريك الأساس في تسهيل ضبط العلاقة مع المركز تتحكم به قوى تقليدية تقع خارج التراتب الهرمي لمنظومة النظام.

الهيكل العام للدولة لابد أن يأخذ في الاعتبار الظاهرة الحوثية عينة موضوعية للتعامل مع الواقع اليمني وتشتت سلطاته المحلية إلى أقاليم جغرافية تتحكم القبيلة في إدارة شئونها في الدائرة الطبيعية التي تتحرك في إطارها. وبما أن القبائل اليمنية لاتزال حاضرة في الساحة السياسية تصبح الدولة في موقع صعب لأنها لا تستطيع أن تفرض سلطة المركز عن طريق القوة أو الحل العسكري نظرا لتلك العوائق التقليدية التي تمنع كسر ذلك التوازن الزئبقي بين المرجع العام والمرجعيات الخاصة. وما حصل في صعدة ومحيطها الجغرافي القبلي يؤكد صعوبة التوصل إلى حل عسكري حاسم مقابل عجز السلطة المحلية على تجاوز حدود نفوذها التقليدي في المكان الذي تنطلق منه.

التوازن السلبي يتطلب الدخول في قراءة موضوعية تسمح بمعالجة سياسية طويلة الأمد لمأزق العلاقة بين الدولة والأقاليم أو بين السلطة المركزية والسلطات القبلية المحلية. والمعالجة تبدأ حين تتقدم الدولة باتجاه إعادة هيكلة منظومة العلاقات الهرمية للسلطة المركزية وتأخذ بفكرة المشاركة السياسية واسطة موضعية للمصالحة بين المرجع العام والمرجعيات المحلية الخاصة.

المصالحة (التسوية) بين الدولة والمجتمع تضبط التوازن المطلوب لتحقيق التعايش السلمي بين سلطة القانون (المركز) وسلطات الأعراف التي تتحكم القبائل في إدارة آلياتها المحلية. اليمن ليس دولة أوروبية تأسست قانونيا منذ 500 سنة على قاعدة متقدمة في علاقاتها الاجتماعية ما أعطى فرصة للمركز في النمو في الدائرة الجغرافية القومية متخطيا حواجز السلطات المحلية والعصبيات الضيقة.

فكرة «المواطن» في الدولة الأوروبية غير موجودة في سجل دوائر القبائل والعشائر والطوائف والمذاهب التي تتحرك في نطاق سلطات نفوذ تقليدية في الكثير من الدول العربية. فهذه الفكرة تولدت تاريخيا قبل أن تتحول إلى مسألة قانونية تربط المواطن بالدولة، وهي بهذا المعنى الزمني لم تنتقل أو تتطور في البلدان غير الأوروبية ومنها العربية والإسلامية والإفريقية والآسيوية.

القفز فوق التاريخ لا يصنع التاريخ وإنما يولد أزمات تتفاقم في دائرة صغيرة ثم تمتد وتنتشر إلى مساحة جغرافية أوسع تعطي فرصة للقوى الكبرى بالتدخل تحت يافطات من الذرائع الأمنية، وهذا ما أخذ يتمظهر في المشهد اليمني حين تحرك تنظيم «القاعدة» في بعض الجيوب العشائرية في محافظات الجنوب.

توصل صنعاء إلى صيغة لوقف إطلاق النار مع الحوثي بعد اقتتال عنيف ومعارك عبثية يشكل خطوة في الاتجاه الصحيح؛ لأنه قد يفسح المجال لتصويب الأخطاء الناجمة عن الخلل في العلاقة الهيكلية بين سلطة المركز (قانون الدولة) والسلطات المحلية (أعراف القبائل).

وهذا الخلل الذي بدأ يمتد ويتسع يمكن ضبطه بمد شبكة الشراكة السياسية وإعادة ترتيبها لتتوافق تنظيميا بين قمة الهرم (المركز) وقاعدته (التنوع القبائلي). فالدولة كما قال ابن خلدون في مقدمته صورة المادة (المجتمع). وكما يكون المجتمع تكون الدولة. والمصالحة الدائمة مطلوبة حتى تستقر العلاقة بين سلطة القانون وسلطات الأعراف في إطار منسجم يبدأ أولا بالسياسة وينتقل ثانيا للاقتصاد (التنمية، التربية، الصحة) وغيرها من متطلبات اجتماعية وتوظيفية واستثمارية. والربط بين العامل الأول والثاني يمهد الطريق نحو ضبط الأمن واحتضان الدولة للقبائل في إطار سلطة القانون.

اتفاق الهدنة أوقف المعارك العبثية، وهو جاء في لحظة مناسبة؛ لأنه يعقد بعد مؤتمر لندن وقبل مؤتمر الرياض ما يؤشر إلى وجود نية للتفاهم على ضبط أزمة كان بالإمكان تجنب وقوعها سياسيا من خلال إعادة هيكلة تصورات الدولة عن مجتمع يحتاج إلى تنمية دائمة حتى يستطيع الانتقال من التبعية للسلطات المحلية ثم التقدم نحو المركز (سلطة القانون) واحترام الدولة كمرجعية عليا لمنظومات القبائل. فالديمقراطية اليمنية قبائلية في جوهرها الاجتماعي ونجاحها مشروط بالسياسة قبل الأمن

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2718 - السبت 13 فبراير 2010م الموافق 29 صفر 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً