العدد 2725 - السبت 20 فبراير 2010م الموافق 06 ربيع الاول 1431هـ

الصين وأميركا وتفاعل القوتين الناعمة والخشنة (2 - 2)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

الصين بدورها اختطت نموذجا مختلفا، فهي سمحت بعملية نمو اقتصادي سريع ذهب جزء مهم من عائده لجموع الشعب، مما أدى إلى رفع معيشته، وتحولت القوة الاقتصادية الصينية إلى عملاق في طور النمو يقف على قدمين ثابتتين، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية رفض الدخول في سباق سياسي من أجل إثبات قوته على الساحة الدولية وأصر على ثلاثة توجهات، الأول: النمو السلمي والصعود السلمي والتأكيد المستمر على انتمائه للدول النامية استنادا إلى متوسط الدخل الفردي وليس إجمالي الدخل الناتج المحلي. والثاني: الابتعاد عن الصراعات الاقليمية أو الدولية والحرص على تسوية خلافاته بالطرق السلمية أو الاحتماء بمبدأ الصبر الصيني طويل النفس للخلافات ذات البعد الوطني، كما هو الحال مع هونغ كونغ، ومكاو، من خلال سياسة دولة واحدة ونظامين، أو تايوان من خلال عدم تكرار أخطاء الخمسينيات بالتهديد بغزو عسكري أو حتى إرهابها بإطلاق عدة مدافع تجاهلها بل الدخول معها في علاقات اقتصادية وتجارية واستثمارات وسياحية ومن ثم سعي للحصول على تكنولوجيا متطورة غير متاحة له، وأصر على العمل السلمي والسياسي لإعادة تايوان وتوحيدها مجددا مع الدول الأم، بل وطرح فكرة دولة واحدة، وثلاثة أنظمة، بمعنى منح تايوان حرية أكبر وحقوق أكثر بالنسبة لقوتها العسكرية والحفاظ عليها في إطار الدولة الواحدة وهو يدرك البعد الاستراتيجي الحساس لوضع تايوان وطموحاتها في الحفاظ على استقلالية أكبر من نظامها السياسي وفي ظل ارتباطاتها الدولية مع الولايات المتحدة والإقليمية مع اليابان. بعبارة أخرى، أدركت الصين وقرأت بدقة الموقف السياسي والعسكري والاقتصادي الدولي.

أما التوجه الثالث: فهو السعي لبناء علاقات وشراكات استراتيجية مع الدول النامية، كما هو الحال في إنشاء المنتدى الصيني الإفريقي، والمنتدى الصيني العربي، والمنتدى الصيني اللاتيني، بل والدخول في شراكة استراتيجية مع الدول الأوروبية والاتحاد الروسي للحصول على التكنولوجيا المتقدمة، والاستثمارات والأسواق، في حين أن الشراكة مع تجمعات الدول النامية في إفريقيا والعالم العربي وأميركا اللاتينية استهدفت الحصول على الموارد الخام والطاقة والأسواق والاستثمارات على أساس مبدأ تبادل المنافع وإقامة مصالح مشتركة. هذا فضلا عن الشراكات الاستراتيجية مع دول فرادى، كما هو الحال مع إيران، ومع الهند منافستها القوية على الساحة الآسيوية، بل ومع اليابان رغم اختلاف التوجهات السياسية والاستراتيجية.

ولكن السؤال: هل هذا يعني أن الصين ليست معرضة للخطر وأنها محصنة ضده؟

هنا نقول إنه لا توجد دولة مؤمنة تماما بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها إلى نتيجة قرارات تبدو وللوهلة الأولى خائطة، ولكن ربما تتبين أهدافها بعيدة المدى فترة، وهي قرارات غزو أفغانستان وغزو العراق، وإثارة التوتر في منطقة الشرق الأوسط، والحفاظ على علاقات استراتيجية قوية مع «إسرائيل»، تحت تأثير عوامل عدة في مدمتها قوة اللوبي اليهودي العالمي، وبخاصة اللوبي اليهودي الأميركي، وتجميد عوامل القوة العربية سواء سلاح النفط والغاز، أو الموقع الاستراتيجي العربي على المتوسط والخليج والمحيط الهندي، وإقامة تواجد أميركي استراتيجي قوي في تلك المناطق أو إضعاف الإدارة السياسية العربية في توجهها نحو الوحدة أو حتى التوحد، واستخدام التطرف العربي والإسلامي كأداة لشق الصفوف العربية وتقسيمها إلى متشددة ومعتدلة. باختصار التدخل في التطور السياسي الداخلي لكل دولة عربية حتى تظل القوة العربية مجمدة ومجزأة وبلا فاعلية حقيقية، والقيام بنفس الدور تجاه القوة الإيرانية الصاعدة بالسعي لحشد ضغط دولي وإقليمي ضدها، واللعب في ساحتها الداخلية من خلال الإذاعات الموجهة وغيرها من أدوات العمل الدبلوماسي والإعلامي والثقافي، بما في ذلك قوى إيرانية نحو اتخاذ مواقف متشددة ومتطرفة للحيلولة دون التطور السلمي الداخلي أو بناء علاقات ثقة حقيقة مع القوى الاقليمية وعملية حفز التطرف الإيراني القومي والديني ودفعها إلى توسيع دائرة تورطها بنشر فطرها الديني ومذهبها الديني وتبنيها موافق سياسية متطرفة، تبدو قطعة من الشوكلاته ولكنها مسمومة بهدف القضاء عليها بتوسيع دائرة العمل أمامها من خلال الإغراء بالقوة والريادة، والقيادة وهي قوة في جزء كبير منها تؤدي إلى استنزاف الموارد، ولذلك فإن إيران وهي تطور قوتها العسكرية وتخصص لها موارد ضخمة تعاني من ضعف داخلي في بنيانها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومن الصراعات التي تغلي السطح، وهكذا على غرار النمط الذي استخدم مع الاتحاد السوفيتي والذي يتم تجربته بدون نجاح حقيقي مع الصين.

الصين يتم استخدام ثلاثة أساليب رئيسة لإضعافها، الأول هو إثارة الفتن الداخلية سواء في التبت أو سينكيانج. وهي فتن لها جذورها التاريخية والعرقية والدينية، وليس من السهل التعامل معها لوجود اختلافات عميقة بين التبت وسينكيانج وبين الأغلبية الصينية من قومية الهان. هذه الخلافات لا يمكن حلها بالقوة العسكرية، أو بأجهزة الأمن، أو بخلخلة السكان، بل إن هذا في تقديري هو الأسلوب الخاطئ الذي يعمقها على المدى البعيد، ولكن الأسلوب الأمثل هو في عملية دمجها اقتصاديا واجتماعيا مع الدولة الأم وتقديم تنازلات حقيقية تشعر التبت وسينكانج بأن مصلحتها البقاء مع الصين، وتحول دون زيادة قوة العناصر المتشددة في هاتين الولايتين.

الثاني: إثارة الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية نتيجة المؤثرات المتفاوتة لعملية التنمية الاقتصادية غير المتوازنة، والتي أدت لبروز طبقة مليونيرات جدد، وتفاوت كبير في الدخول بين المدن الصناعية الكبرى وبين المناطق الداخلية. والصين تسعى للحد من هذا التفاوت، والصين ما زال الطريق طويلا أمامها، وتحتاج لعمل أكثر تركيز مما هو قائم الآن. أما التفاوت الاجتماعي فيظهر من خلال السياسيات الجديدة في مجالات التعليم، والإسكان بوجه خاص، وتركها لسيطرة القطاع الخاص والنشاط الخاص. بعبارة أخرى، رفع مظلة التأمين الاجتماعي للسكن والتعليم، وسوف يترتب على ذلك مشاكل كثيرة للطبقة المتوسطة الناشئة، وللطبقة الفقيرة، وقد أصبحت الصين اليوم مجتمعا عادت فيه الطبقات للظهور مجددا، بعد أن تم القضاء عليها في ظل النظام الشيوعي منذ العام 1949م، وحتى أواخر السبعينيات من القرن العشرين.

الثالث: بروز نخبة جديدة من الحزب الشيوعي الصيني ترتبط مصالحها وفكرها وتوجهاتها مع الولايات المتحدة بوجه خاص والدول العربية بوجه خاص. سواء كانت هذه المصالح اقتصادية وتجارية أو مصالح ثقافية أو حتى مصالح شخصية، هذه النخبة هي التي تعول عليها الولايات المتحدة في إحداث التغير السياسي في الصين من الاشتراكية بخصائص صينية (الرأسمالية على النمط الصيني) إلى رأسمالية حقيقية على النمط الغربي، وليبرالية سياسية على نفس النمط، وبذلك تكتمل عملية تحول الصيني اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، ويبقى تحولها عسكريا في مرحلة لاحقة على غرار ما حدث مع دول أوروبا الشرقية.

ونحن ندرك تماما وجود عدة فوارق واختلافات بين حالة الصين وحالة دول أوروبا الشرقية لأن الصين عملاق من حيث المساحة والسكان، وله تراث تاريخي أكثر عراقة من الاتحاد السوفياتي أو من دول أوروبا الشرقية، ولديه نزعة وطنية قوية في أعماق الشعب الصيني، ولم تهزم مثل اليابان، ومن ثم يفرض عليها تغيير نظامها على غرار ما حدث في اليابان العام 1945م، بالإصلاحات التي قادها الجنرال ماك آرثر وإدخال دستور جديد ونظام سياسي جديد. الصين لم تواجه مثل تلك الحالات، أي حالة اليابان وكانت أكثر ذكاء من القيادة السوفياتية في تركيزها على الاقتصاد في عملية الانفتاح السياسي، وفي حرصها على الارتباط مع الدول النامية على النحو السابق إيضاحه.

ولكن مع تلك التخفظات فإن تفاعل أدوات العمل الدولي في التعامل بين الصين والولايات المتحدة لن يتوقف لأن ذلك من طبائع الأمور، ومن هنا يمكن فهم الظواهر السائدة على ساحة العلاقات الأميركية الصينية مثل: بيع الولايات المتحدة أسلحة لتايوان بـ 6.4 مليار دولار وهي في جوهرها أولها إثارة الصين ودفعها لمزيد من التسلح مما يؤثر في تخصيصها لموارد التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وثانيها إثارة العداء والخلاف الكامن بين تايوان والصين بسبب اختلاف أنظمتها السياسية والاقتصادية وثالثها إرضاء الرأسمالية الأميركية واللوبي المرتبط بصناعة السلاح الأميركي، والسعي للحصول على سوق مبيعات لهذه الأسلحة تساعد التطور الصناعي الداخلي سواء في مجال السوق الاقتصادي والتنمية الاقتصادية واجتذاب رؤوس أموال واستثمارات أو في مجال تطوير صناعة السلاح الأميركية.

5- إثارة مشكلة غوغل والضوابط التي تضعها الصين على أنشطة في داخل الصين، لأن هذا أحد أدوات التأثير الناعمة، في إحداث التطور، وعدم السماح له بالانفلات، على غرار ما حدث في دول أوروبا الشرقية، أو ما هو حادث في إيران حاليا، أو ما هو حادث بصورة مختلفة في دول الشرق الأوسط، وبخاصة المنطقة العربية مع اختلاف في الأساليب والأهداف.

6- إثارة مشكلة سعر العملة الصينية وإنها مقيمة بأقل من قيمتها الحقيقية، ولابد من رفع سعرها للحد من التنافس في الأسواق، لأنه لا يستند - وفقا لوجهة النظر الغربية - مع قواعد المنافسة الصحيحة، ولا مع قواعد التجارة الدولية، كما وضعتها المنظمة العالمية للتجارة WTO. وبالطبع رفع سعر العملة سوف يترتب عليه ارتفاع أسعار السلع الصينية، ومن ثم تراجع الفائض الصيني النقدي من العملات الأجنبية، وسيؤثر ذلك على معدل نمو الصين لزيادة الواردات عن الصادرات، وزيادة التضخم الداخلي في الصين ومن ثم معاناة للشعب الصيني وهكذا.

7- إعادة تنشيط المشكلات الداخلية وخصوصا بإجراء لقاءات للرئيس الأميركي باراك أوباما مع الزعيم البوذي الصيني للتبت الدالاي لاما أثناء زيارته في فبراير/ شباط 2010م، للولايات المتحدة، وهو ما يثير حساسية الصين.

وفي مواجهة تلك التحركات الأميركية اتخذت الصين موقفا أكثر تشددا من مواقفها السابقة بالتهديد بمقاطعة الشركات الأميركية التي تصدر أسلحة لتايوان، والتهديد بوقف شراء أذونات الخزانة الأميركية، فضلا عن رفض التعاون مع الولايات المتحدة في مسعاها لفرض عقوبات جديدة ضد إيران، بل تسعى الصين لتطوير مزيد من العلاقات مع إيران في مجالات النفط والغاز والاستثمار في البنية التحتية، وتتلاقى مصالح الصين وإيران في هذه المرحلة، ولكن المنهج الصيني في التعامل مع إيران، هو صورة مكررة لمنهج تعاملها مع النظام العراقي في عهد صدام حسين, إذ يقوم على السعي للحصول على المصالح متحديا البعد الاستراتيجي في العلاقات الأميركية الصينية. وطبعا فإن نتيجة ذلك تتوقف على عديد من الاعتبارات، ومنها مدى حرص الصين والولايات المتحدة على تحقيق تفاهم بينهما بالنسبة للمصالح الأساسية لكل منهما، ومدى حرص الولايات المتحدة على انتهاج سياسة متعددة الأطراف، كما عبر عن ذلك الرئيس أوباما أم ستعود الولايات المتحدة لقيام بالأعمال الانفرادية، على غرار ما قام به الرئيس السابق جورج دبليو بوش في غزو العراق، ومدى تأثير العوامل الداخلية في إيران، والعوامل الاقليمية في الشرق الأوسط على العلاقات الصينية الإيرانية.

ولا مراء في أن القوى الكبرى تلعب أوراقها بذكاء وحنكة، فلا تندفع بقوة بقرار انفرادي، ولكنها تعتمد على مراكز الأبحاث، وقيامها برسم ووضع تصورات وسيناريوهات متعددة، ثم تقوم القيادة عند صنعها القرار أو اتخاذها القرار، بالاختيار بين تلك البدائل في ضوء أولوياتها الداخلية والدولية والإقليمية، وليس هناك في السياسة الدولية منهج أبيض وأسود، وإنما ألوان الطيف متعددة حتى وإن استخدمت بعض القوى الدولية في الإطار الدعائي لسياستها الخارجية منهج الثنائية كما أطلقه الرئيس بوش، بأن كل دولة أما مع أميركا ضد الإرهاب أو مع الإرهاب ضد أميركا، أو ما أطلقه وزير الخارجية الأميركي الأسبق «جون فوستر دالاس» في الخمسينيات من القرن العشرين (من ليس معنا فهو مع العدو أي الاتحاد آنذاك). هذه الثنائيات في حقيقتها هي أداة في الدعاية السياسية للتأثير على الدول الضعيفة والمترددة، وليست أساس لقرار سياسي دولي حقيقي، ومن يتابع العلاقات الأميركية الصينية وتفاعلاتها، ما بين مد وجزر، وما بين أدوات القوة الناعمة والقوة شبه الخشنة أو ما اسماها أحد الباحثين الأتراك في ندوة مراكز الفكر للدول الإسلامية التي عقدت في إسطنبول في 28 يناير/ كانون الثاني 2010م، بأنها أدوات القوة الذكية التي ليست بالناعمة ولا بالخشنة، وإنما تستخدم الاثنين بقدر وتوازن، ولعل العلاقات التركية الاستراتيجية نموذجا لهذا الاستخدام للقوة الذكية، وهذا مجاله تحليل آخر

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 2725 - السبت 20 فبراير 2010م الموافق 06 ربيع الاول 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً