العدد 2766 - الجمعة 02 أبريل 2010م الموافق 17 ربيع الثاني 1431هـ

التنمية الضائعة: أين نحن من الحداثة؟ (5 - 5)

منبر الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع منبر الحرية

منبر الحرية

أحمد أبو وصال- كاتب من المغرب، والمقال ينشر بالتعاون مع مشروع منبر الحرية «www.minbaralhurriyya.org» 

بعد المقالات الأربعة السابقة حول التنمية الضائعة في مجالات الفكر، السياسة والمجتمع ثم أخيرا الاقتصاد، نخصص المقالة الخامسة والأخيرة للدين.

لقد بدأت أوروبا في تحقيق حداثتها الدينية منذ عصر النهضة الذي شكل فيه الإصلاح الديني أحد أهم مظاهره إلى جانب الحركة الإنسية والتطور الفني، وبالتالي فتح المجال أمام العقل دون قيود وذلك بوضع حد لسيطرة الكنيسة، بينما ظل الدين أداة استخدمته القوى الحاكمة في العالم الإسلامي للحفاظ على الوضع السائد وتبريره (خاصة بعد عهد الخلفاء الراشدين)، ومحاربة أي تحديث في البنيات التقليدية للمجتمع العربي بدعوى الخصوصية الدينية والهوية الإسلامية.

لقد كان تسلط الكنيسة كبيرا واتخذ أشكالا ومستويات متعددة، فقد كان تسلطا دينيا (فرض عقيدة الثأليت، ترويج صكوك الغفران، الرهبانية ...)، وكان تسلطا سياسيا (فرض الوصاية على الملوك والأمراء) وكان كذلك تسلطا ماديا (فرض ضرائب، أعمال السخرة، امتلاك عقارات ...). إلا أن التحولات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها أوروبا مع بداية عصر النهضة كان لابد أن تؤدي إلى تحول في المجال الديني.

فقد بدأت معالم الرغبة في الثورة على الكنيسة ووصايتها تنمو تدريجيا، وتغذيها مظاهر الفساد الأخلاقي والمادي لعدد كبير من رجال الدين، وحاولت الكنيسة بكل أساليبها وأدواتها قمع وإقبار هذه الرغبة في مهدها، واتهام دعاتها بالهرطقة ومحاكمتهم وإعدامهم لإثارتهم الفتنة.

يقول مارتن لوثر: «كيف تحملنا نحن الألمان هذه السرقة والنهب لأموالنا.. وما هذا النظام البابوي؟، إنه نظام شيطاني.. إنه يقود المسيحيين نحو الخراب الجسدي والنفسي... فمن واجبنا مواجهته....».

إن التحولات الفكرية التي شهدتها أوروبا في إطار الحركة الإنسية، والتي أفرزت عدة نظريات، خاصة في مجال علم الفلك أدت إلى اقتناع العقل الأوروبي بعدم امتلاك الكنيسة للحقيقة، وبالتالي ليس لها الحق في احتكار تفسير الكتاب المقدس والوصاية على الجانب الديني للإنسان.

لقد أدى هذا التطور إلى بروز عدة مصلحين نددوا بابتعاد الكنيسة عن دورها الروحي الحقيقي والاهتمام بالمسائل الدنيوية، وأيد هذا الموقف عدد كبير من المفكرين الأنسيين، وكذلك الأمراء الذين كانوا يرغبون في الحصول على ممتلكاتها (الكنيسة)، فالدولة القومية الناشئة تتعارض ومفهوم الكنيسة العامة التي تدعي الوصاية على السلطة السياسية، وتصطدم كذلك مع الشعور القومي المتنامي خاصة لدى الطبقة الوسطى. وفي هذا الإطار جاء المذهب البروتستانتي (لوثر، كالفان ...)، لينتشر في نصف أوروبا تقريبا خلال أربعين سنة، ويؤيد الشعب الإنكليزي الملك هنري الثامن في انفصاله عن الكنيسة الكاثوليكية، هذه الكنيسة التي أعطت لنفسها طابعا تنظيميا أكثر مما هو ديني. ورغم الحروب الدينية الطويلة وبشاعتها إلا أنها كانت ثمنا لفرض التحديث الديني الذي واكب التجديد الحاصل في مختلف المجالات.

لقد شكلت حركة الإصلاح الديني ثورة ضد الاستبداد الكنيسي كما شكل الفكر الإنسي ثورة ضد القيود المفروضة على العقل، وهذه الثورات كانت تستند إلى طبقة اجتماعية ناشئة تملك مشروعا حداثيا متكاملا.

إذا كانت الكنيسة قد فرضت سلطة مطلقة على كل جوانب الحياة وتحكمت في قوانينها باعتبارها مالكة للحقيقة المطلقة (والاعتقاد بامتلاك الحقيقة يولد الاستبداد)، وبالتالي كان من الواجب الثورة عليها والتخلص من سيطرتها، فإن العالم العربي لم يعرف جهازا دينيا متحكما ويعتبر نفسه واسطة بين العبد والرب. كما أن الدين في عالمنا العربي لم يعارض أبدا سعادة الإنسان وبحثه عن الحقيقة واستعمال العقل (كما كانت الكنيسة تروج لفكرة الشقاء والخطيئة ومحدودية العقل البشري)، ورغم ذلك ظلت التنمية غائبة وعوض أن يشكل الدين باعثا على النهضة وتحقيق الحداثة العربية ثم استغلاله لتبرير واقع متخلف والحفاظ عليه.

ونعود كما فعلنا في المقالات السابقة لنطرح السؤال، لكن بشكل مختلف قليلا: هل نحتاج في عالمنا العربي لإصلاح ديني؟

لقد ظلت أي دعوة إلى التحديث أو الإصلاح الديني تقابل بالتشكيك أحيانا وبالرفض أحيانا أخرى، وظل دعاة الإصلاح يتهمون خصومهم بالتزمت وقمع الأفكار والإبداع ومحاربة التحديث...، وهؤلاء يتهمون الفريق الأول بمحاربة الدين وجر المجتمع إلى الهاوية وهدم قيمه الموروثة، بينما ابتعد الفريقان عن جوهر المشكل: كيف نجعل الدين عاملا من عوامل تحقيق الحداثة، واعتباره مكونا من مكوناتها كالفكر والاقتصاد والمجتمع ....؟

خلال القرن 19 طرح رواد الحركة السلفية إشكالية تخلف المجتمع العربي بعد الاصطدام بالحداثة الأوروبية (مع الحملة الفرنسية على مصر)، ورغم اتفاق هؤلاء الرواد على ضرورة فهم الدين فهما صحيحا والعودة به إلى ينابيعه الأولى، إلا أن الهاجس لديهم ظل هو التوفيق بين الدين والعلم (الحداثة باعتبارها عملية تعتمد على العقل) عوض الفصل بينهما دون المساس بالثوابت الدينية الكبرى. (فإذا كانت أحكام الشريعة تقوم على مستويين: مستوى الأحكام الثابتة وهي قليلة ومحدودة ومستوى الأحكام القابلة للتغيير والاجتهاد بتغير الزمان والمكان والإنسان، فذلك يساعد على جعل الدين دافعا للتحديث وليس عائقا أمامه)، وقد حاول هؤلاء السلفيون توظيف الدين في خدمة العلم (محمد عبده، الأفغاني، الكواكبي ..) وحاول آخرون توظيف العلم لإقصاء الدين (شبلي شميل، فرح أنطوان ...) وهكذا لم ينجح أي فريق في تحقيق حداثتنا الدينية.

إن عدم تحقيق هذه الحداثة الدينية جعل التحديث الاقتصادي والاجتماعي والفكري يصطدم دائما بمعارضة رجال الدين المحافظين، وظلت الطبقة السياسية رهينة هذه الفئة مادامت تستمد مشروعيتها منها، لذلك ليس غريبا أن يكون العالم العربي أكثر المناطق أمية (رغم دعوة الدين للتعلم)، وأشدها ركودا (رغم أن الإسلام دعا إلى السعي والاجتهاد).

ونتساءل أين الخلل؟ كيف نحقق ثورتنا وحداثتنا الدينية؟

هي أسئلة يجب أن نطرحها، وعلينا أن نتحلى بكثير من الصبر والشجاعة والتخلص من الأحكام والاتهامات المسبقة، وعدم استغلال الدين لفرض الوصاية، وعدم اعتباره جامدا بل عنصرا متطورا لا ينفصل عن التطورات التي تحصل في باقي المجالات.

نحن في عالمنا العربي لا نحتاج إلى ثورة على الدين كما وقع في أوروبا، لأن ديننا لم يكن يوما كابحا للتجديد، لكن استغلاله السياسي والاجتماعي هو العائق.

ثورتنا الدينية تحتاج إلى فهم جديد يساير الزمان والمكان، يساير التطورات الحاصلة حولنا. الدين ليس ملكا لأحد (ليس فيه وصاية كما كانت تفعل الكنيسة)، وليس لأحد الحق في احتكار تفسيره (كما فعلت الكنيسة)، بل عنصر اندماج وتكامل وتضامن لتسهيل تنظيم المجتمع وتجديد بنياته.

إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"

العدد 2766 - الجمعة 02 أبريل 2010م الموافق 17 ربيع الثاني 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً