العدد 278 - الثلثاء 10 يونيو 2003م الموافق 09 ربيع الثاني 1424هـ

البحث عن الفقاعة في كومة القشّ

عصام فاهم العامري comments [at] alwasatnews.com

.

استندت الولايات المتحدة الأميركية في حربها على العراق على فرضية امتلاكه أسلحة للدمار الشامل وخرقه خرقا ماديا 17 قرارا لمجلس الأمن تمّ اتخاذها بموجب الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة، وعليه فانها تستطيع من وجهة نظر قانونية ان تشن حربا على العراق من دون الحاجة الى ان يأذن لها المجلس بذلك.

ورافق جهد الولايات المتحدة في الامم المتحدة ومجلس الأمن حملة علاقات عامة لم يسبق لها مثيل في التاريخ؛ شاركت فيها الادارة الاميركية بأسرها ابتداء من الرئيس الاميركي جورج بوش وانتهاء بالمتحدث باسم وزارة الخارجية ريتشارد باوتشر مرورا بنائب الرئيس تشيني ووزير الدفاع رامسفيلد والمستشارة رايس ووزير الخارجية باول الذي تجشم عناء السفر الى نيويورك ليلقي محاضرة تاريخية في التضليل الاستخباري . وشارك في حملة العلاقات العامة التي يسميها الاميركيون أول حرب معلومات حقيقية في تأريخ البشرية عشرات من مراكز الأبحاث والباحثين من الاسماء اللامعة ومفتشي الامم المتحدة السابقين.

أما من الناحية العملية، فإن وزارة الدفاع الاميركية أنشأت مجموعة متخصصة سميت القوة الاستكشافية 75 وضمت حوالي 1000 عنصر متخصص في الاسلحة النووية والبايولوجية والكيماوية والصواريخ والحاسبات الاليكترونية والوثائق كانت مجهزة بلمعدات الاختصاصية كافة للكشف عن هذه الاسلحة كما ضمت هذه القوة عناصر من قوات الدلتا وهي القوات الخاصة بمشاة البحرية الاميركية، وضمت افرادا سبق ان زاروا العراق تحت غطاء مفتشي الأمم المتحدة. لقد تواجدت هذه القوة في الكويت في الفترة التي سبقت الحرب، ونظرا إلى حاجتها الى قيادة فنية متمكنة وذات خبرة متراكمة وغنية... قررت وزارة الدفاع الاستفادة من خبرة الموظف السابق في وزارة الخارجية ومعاون رئيس اللجنة الخاصة التابعة للامم المتحدة (اليونيسكوم) من يناير/كانون الثاني 1993 وحتى حل اللجنة العام 1999 شارلز دولفير ليكون المدير التنفيذي للقوة 75، وهو شخص ذو مؤهلات وقدرات فنية وادارية تؤهله لتنفيذ هذه المهمة الصعبة. وكان دولفير قد انضم في السنوات الاخيرة الى أحد مراكز الأبحاث المهمّة في واشنطن؛ وهو مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية وحظي بمركز مرموق. الا انه ترك واشنطن العاصمة صباح يوم الاثنين 17 مارس/ آذار 2003، وفجأة امتنع عن الاجابة على هاتفه المحمول ، كما انه لم يفتح بريده الاليكتروني، وفشلت الجهود كافة للاتصال به.

لقد انشطرت القوة الاستكشافية 75 الى مجاميع ألحقت بالقوات الأميركية المتقدمة نحو الناصرية والنجف فيما تم تكليف مجموعة من الخبراء التشيك الذين كانوا موجودين في الكويت بمرافقة القوات البريطانية المتقدمة باتجاه البصرة.

وكان اول المؤشرات لهذه القطعات هو تحسس الاجهزة الاميركية لوجود عوامل كيماوية قرب بلدة السماوة في الاسبوع الاول من الحرب، وهو ما كشف عنه مراسل صحيفة الجيروسالم بوست الاسرائيلية المرافق للقوات الاميركية. وكان ذلك مفاجئا لوزارة الدفاع الاميركية لان القيادة الوسطى لم تخبر وزارة الدفاع الاميركية؛ وذلك كونها لم تتأكد بعد من الموضوع، وأجريت اتصالات على عجل من أعلى المستويات في وزارة الدفاع مع القيادة الوسطى وطلب من القوة الاستكشافية 17 ان تتحقق من الموضوع على نحو عاجل. وفعلا جرى مثل ذلك التحقق إذ تبين ان الاجهزة الاميركية تحسست الأبخرة المتصاعدة من المواد الكيماوية الموجودة في مصفى قريب.

وبعد ان تمكنت القوات الاميركية من دخول بغداد كان منتسبو القوة ضمن اولى القطعات التي دخلت المواقع الرئاسية وتلك التي تتضمنها المعلومات الاميركية، ونظرا إلى ظروف المعركة وجهل القطعات الاميركية من مشاة البحرية بمدينة واسعة مثل بغداد، تم تعزيز القوة الاستكشافية 75 بعناصر من المجندين ذوي الاصول العراقية والذين تم تدريبهم في شهري يناير وفبراير/شباط من هذا العام في قاعدة جوية جنوب المجر، ووعدهم الرئيس بوش بمنحهم الجنسية الاميركية بعد انتهاء الحرب ، ثم ما لبث ان نكث وعده. وقام هؤلاء المجندون الذين يرتدون ملابس الجيش الاميركي بأعمال الدلالة على الدوائر والمنشآت العراقية ذات الصلة بأسلحة الدمار الشامل.

وفي الوقت نفسه كانت طائرات اميركية، مزودة بمعدات اختصاصية مثل متحسس اشعة «غاما» الذي يتحسس بأي نشاط اشعاعي مرافق للأبحاث النووية، تحوم في سماء العراق لتسجيل اية دلالة على وجود برامج نووية عراقية سرية في حين كانت طائرات اخرى مزودة لأخذ نماذج من الهواء تحلّق في الأجواء لأخذ عينات من الهواء في نقاط محددة، وهذا النشاط كان سيسجل وجود أي أثر لبرامج نووية او كيماوية او بايولوجية حتى لو جرت قبل سنين في ذلك المكان، ويحدّد نوع النشاط ونوع العامل الكيماوي او البايولوجي الذي جرى انتاجه والطريقة التي تمت بها عملية الانتاج.

وفي نهاية شهر ابريل / نيسان الماضي جرى تسريب خبر العثور على كميات من غاز الاعصاب في برميل في مصفاة بيجي من قبل عناصر القوة الاميركية الا ان هذا الخبر كان مثار استغراب الاختصاصيين العالميين في الحرب الكيماوية، إذ ان غاز الاعصاب مادة في غاية الخطورة على البشرية وهو عادة لا يخزن في براميل بل في أوعية محكمة الاغلاق لان أي تسرب منه قد يؤدي الى إفناء مدينة بأسرها. وما لبث الخبر ان ذهب أدراج الرياح .

وفي بداية شهر مايو / أيار عقد مساعد وزير الدفاع الاميركي لشئون الاستخبارات (وهو منصب استحدثه رامسفيلد العام 2001 للتخلص من تقييمات وكالة المخابرات المركزية التي لم ترق له) مؤتمرا صحافيا اعلن فيه اكتشاف القوات الاميركية عربة ربما تكون جزءا من مختبر لصناعة الاسلحة الكيماوية. ولم يبلع العالم الطعم الاميركي.

وفي منتصف مايو الماضي ابلغ شارلز دولفير رؤساءه في وزارة الدفاع الاميركية ما اعتبر خبرا سعيدا لوزير الدفاع شخصيا، ومفاده ان فريقا من القوة 75 عثر على شاحنتين في العراق يعتقد انهما ربما استخدمتا لانتاج العناصر الجرثومية، وسرعان ما تلقف الخبر رامسفيلد ليبلغه البيت الابيض، وسرعان ما اكد الرئيس الاميركي جورج بوش اكثر من مرة ان الشاحنتين اللتين اكتشفتهما القوات الاميركية دليل على امتلاك العراق اسلحة كيماوية وبيولوجية، الا انه سرعان ما اكد خبراء من القوة 75 لدولفير «ان الاعتقاد شيء والواقع شيء، وان النتائج المستخلصة عن استخدام الشاحنتين لصنع اسلحة جرثومية فيها قدر كبير من التسرع، ولاسيما ان التحليلات اثبتت عدم وجود آثار لعناصر بيولوجية تستخدم في الاسلحة في الشاحنات التي كانت مجهزة بمعدات خاصة».

ووحدة التحليل المعلوماتي في وزارة الدفاع نفسها ارسلت فريقا متخصصا لمعاينة الشاحنتين، وكتب هذا الفريق الاخير ان ثلاثة حقائق ترجح ان الشاحنتين لم تكونا تستخدمان لانتاج عناصر جراثيم قاتلة، وهي: (اولا) الشاحنتان تفتقران الى المعدات اللازمة للتعقيم بالبخار الذي يعد شرطا مسبقا لاية عملية انتاج بيولوجي ومن دونها تصبح الجراثيم ملوثة. و(ثانيا) وعلى فرض ان كل وحدة يمكن ان تنتج كمية صغيرة من السائل المليء بالجراثيم فإن ذلك يتطلب المزيد من عمليات المعالجة في موقع آخر. (ثالثا) هي ان الفنيين ليس لديهم طريقة سهلة لنقل الجراثيم من خزان المعالجة.

ومع ذلك فإن الحكومة الاميركية ظلت متشبثة بأن الشاحنتين استخدمتا لانتاج اسلحة بيولوجية. مع ان العلماء العراقيين اوضحوا لسلطة التحالف ان الشاحنتين لانتاج الهيدروجين لبالونات الطقس، وهو امر اعتبره بعض الخبراء في القوة 75 يمكن ان يكون صحيحا.

في كل الاحوال الحكومة الاميركية كانت بحاجة إلى أية فقاعة تطلقها عندما عجزت عن ان تجد شيئا في اطار تفتيشها أكوام القش المسماة بأسلحة الدمار الشامل في العراق... وعلى رغم ان الحكومة الاميركية قد خلصت الى الاستنتاج بخلو العراق من هذه الاسلحة بدلالة عدم سماحها للمفتشين التابعين للامم المتحدة بالعودة إلى العراق، وبدلالة انها طلبت من القوة 75 العودة الى الولايات المتحدة باعتبار ان مهمتها انتهت في العراق. ومع ذلك فإنها لا تريد إعلان ذلك ولاسيما في ظل الجدل الدائر حاليا في الكونغرس وفي وسائل الاعلام الاميركية بشأن تقارير وكالة المخابرات المركزية والعمل على التلاعب بها بهدف تضخيمها في اطار تبرير شن الحرب على العراق

العدد 278 - الثلثاء 10 يونيو 2003م الموافق 09 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً