العدد 2786 - الخميس 22 أبريل 2010م الموافق 07 جمادى الأولى 1431هـ

نهضة أوروبا بين دنيا الدين ودين الدولة (1)

محمد خاتمي comments [at] alwasatnews.com

من أشهر منظري السياسة أواخر العصور الوسطى، وأوائل العصر الحديث، لا بل أشهرهم قاطبة، نيكولو ماكيافللي (1469 - 1527م) الذي عاش في خضم تيار عظيم يسمى، اصطلاحاً، النهضة الحديثة، وعاصر واقعة الإصلاح الديني التي قام بها لوثر، وتابعه فيها آخرون - تلك الواقعة التي كانت وراء نزاعات وتحولات مثيرة طبعت أوروبا بطابعها.

ولم يكن ماكيافللي فيلسوفاً، ولا راق له البحث الفلسفي، وإنما كان سياسياً تبوأ مناصب مرموقة، كما كان كاتباً حاذقاً، استطاع، بفضل ثقافته الواسعة وتجربته الفنية، أن يبين بأبلغ بيان آراءه السياسية. والأهم من ذلك كله، أن آراء ماكيافللي هذه كانت في الحقيقة مرآة لأحوال عصره، وجسراً للعبور من حضارة إلى حضارة أخرى تختلف تماماً عن سابقتها. كذلك يصح القول إن ماكيافللي هو بحق لسان حال إنسان عصره والمترجم عن ضميره، سواء اعتقدنا بسلامة هذا الضمير أو حكمنا بانحرافه وخطئه. وفي أي حال فإن جاء حكمنا على الضمير الغربي هذا كما يتظهر من خلال آراء ماكيافللي لصالحه أو رفضناه وسعينا لإثبات بطلانه، فذلك في أية حال لا يغير من واقع الأمر الذي صوره ماكيافللي ونقله بصدق شيئاً؛ فلنحاذر إذاً من إطلاق الأحكام في مقام الدرس والتحليل.

والحق أن ماكيافللي الذي اعتاد أن يبدي أفكاره بأسلوب بياني صريح، وغير متحفظ، لم يكن مرآة عن وجدان زمانه فحسب، بل كان، إلى ذلك، صاحب الفضل في فتح كوة على المستقبل. فآراؤه التي كثيراً ما عدها بعض معاصريه، وحتى بعض أهل الرأي المتأخرين إلى اليوم، أقوالاً واهية - وجدت سبيلها إلى التحقق على يد مفكرين وفنانين، وسياسيين وعلماء اقتصاد وأعيان، شاء القدر لهم أن يكونوا معماريي عمارة العصر الحديث، ومبلغي أصولها وقيمها وحراسها.

فالإنسان الذي خط عهداً جديداً في تاريخ الغرب يحمل فعلاً الخصوصيات التي أدرك ماكيافللي كثيراً منها بذكاء مفرط. وإن لحق بالصورة التي رسمها له تغييرات تراعي الزمن والمكان ومقتضيات الحال على مر التجربة، فإن هذه التغييرات لم تخرجها عن الإطار الذي تلمس ماكيافللي حدوده. باختصار، إنسان ماكيافللي لا يختلف، من حيث الرؤية التصورية والطبيعة الذاتية والخصائص الأصلية، عن الإنسان الآخذ فعلاً بزمام الأمور في ساحة الفكر وميدان الحياة والمجتمع والسياسة - ذلك الذي استقرت الحضارة الحديثة على شعوره وفكره وتدبيره وعمله.

لا نقول إن الفكر الماكيافللي كان الفكر الأوحد طوال هذه الفترة، فذلك، في أي حال، ليس من طبيعة الأمور لا في ذلك العصر ولا في عصر كان. ولكن واقع الأمر أن الأفكار الأخرى التي زامنت الفكر الماكيافللي وتلته لم يسعها أن تزاحمه، أو أن يكون لها من التأثير ما كان له. فمن حيث نريد أو لا نرد يعود بنا هذا التأكيد على دور الفكر الماكيافللي في صياغة بعض أبرز سمات العصر الحديث - يعود بنا إلى التساؤل عن طبيعة العلاقة بين الفكر والحضارة، وهو تساؤل ينطوي على قدر كبير من الإبهام إن لم يكن لشيء آخر فلتعلقه بمفهومين هما أصلاً محل خلاف في ما يستغرقه كل منهما.

فهل يحدث الفكر أولاً ثم تنشأ الحضارة التي تترجم عن هذا الفكر وطموحاته، أم العكس؟ أم إنه لابد من التأمل في هذا الموضوع على نحو مختلف ونقل التساؤل إلى الفكر، كيف يحصل؟ وهل يكون حصوله من جهة أعلى من العقل؟ أم إن الأفكار حاصل إبداعات الذهن البشري وتصوراته؟ أم إن الحضارات تتعاقب لأسباب وعوامل مختلفة فتروح حضارة وتستتب أخرى، وتكون كل حضارة جديدة سبباً لظهور فكر جديد؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تظهر الحضارة الجديدة؟ وكيف يكون ظهورها؟ وهل نشوء الحضارات وحركتها محكومان بأمر خارج عن دائرة التصور والإرادة الإنسانيين؟ أم أنه راجع إليهما؟

لا ريب أن استيفاء البحث في هذا الباب يتطلب مجالاً واسعاً، لا هذا المجال الضيق المحدود الذي ساقنا الكلام إليه. لكن بيت القصيد في عرفنا أن كل حضارة لا تنسجم مع كل فكر، وأن بين كل حضارة وفكر، (رؤية كونية وتصورية خاصة حول العالم والإنسان)، مناسبة. وأما تقدم أحدهما على الآخر، على معنى التقدم الزمني أو العلي أو سوى ذلك من المعاني، فمحل خلاف وسجال، والأرجح صعوبة التوصل إلى نتيجة قطعية في مثل هذا الأمر بل امتناعه. وفضلاً عن هذا جميعاً ينبغي ألا يفوتنا أن تكامل الأفكار التي تتناسب مع كل حضارة في مشروع متكامل إنما يكون عادة في أواخر تلك الحضارات، ذلك أن استكمال حضارة ما للأفكار التي تتأسس عليها هو من نذر انقضائها.

لقد قيل عن خصوصيات العصر الحديث ما لا يتسع المقام لاستعراضه جميعاً، وعليه سنقتصر على الإشارة إلى بعض الأمور المحورية المرتبطة بالرؤية التصورية الفكرية للعصر الحديث التي تلقى نوعاً من الإجماع لدى المختصين في هذا الشأن، متابعين آراء اثنين من المفكرين الغربيين المشهود لهم.

يذكر هارولد جي لاسكي (في كتابه المترجم إلى الفارسية تحت عنوان حركة الحرية في أوروبا) ما مفاده أنه بين الفترة التي شهدت بروز الفكرة الانتخابية والثورة الفرنسية ظهرت طبقة جديدة لها الحق الكامل في المشاركة في حكومة المجتمع. وقد كان ظهور هذه الطبقة وراء تغييرات جمة في شتى مرافق الحياة. فعلى مستوى القانون، حلت الاتفاقات محل السنين الطبقية. وعلى مستوى العقيدة، تحول الشكل المذهبي الواحد إلى جملة عقائد مختلفة، ما أتاح لأهل مذاهب الشك أن يجاهروا هم أيضاً بآرائهم.

إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "

العدد 2786 - الخميس 22 أبريل 2010م الموافق 07 جمادى الأولى 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 5:20 ص

      ما شاء الله على تطور سوريا

      نفس تطور ايران ... حجي و هرار و صور في التلفزيون و يجون البحارنة منزهقين و يقولون اي ايران متطورة ايران عندها تكنولوجيا .. مالت على ايران على بالها مفتكرة فيكم في النهاية ويش يقولون ليكم لين رحتون زيارة الرضا؟ أنا أقول ليكم (عربو نجــــ ...) .. صدق المثل اللي قال القرعة تفوشر باختها.

    • زائر 2 | 3:02 ص

      و نعم المفكر

      مب اللي شال عمامته هني عندنا .. فكر و حضارة مب قشوره

    • زائر 1 | 2:18 ص

      خاتمي انت كنت حلو عسل

      بس الحين يكرهونك لأن الآلهة غضبت عليك. كان الله في عونك. قدم على لجوء سياسي للبحرين يمكن يرحمونك أكثر من الآلهة.

اقرأ ايضاً