العدد 2793 - الخميس 29 أبريل 2010م الموافق 14 جمادى الأولى 1431هـ

ظهور الاشتراكية المثالية والفكر الطوباوي

نشوء النخبة الأوروبية (11)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في ضوء التحولات التي شهدتها أوروبا بدأ سان سيمون منذ العام 1802 يكتشف ذلك «الجديد» الذي حطم «القديم» وأخذ يعيد تشكيل عالم آخر بأسلوب فوضوي يحتاج إلى عقلانية لإعادة ضبطه هندسياً في نمط متوازن من العلاقات المستقرة والبعيدة عن الاضطراب السياسي والاصطراع الاجتماعي. ونجح سيمون في العام 1816 بالانتباه إلى نمو قوة الاقتصاد وتقدمه على السياسة.

جاءت تصورات سيمون استجابة موضعية لتحولات طرأت على باريس في العام 1815 أثناء «حرب المئة اليوم» وهزيمة بونابرت. فالاستجابة كانت رداً على التحديات الطارئة في ساحة مفتوحة على احتمالات متخالفة.

في السياق نفسه سار شارل فورييه الذي وجه انتقادات لإذاعة للنمط الجديد وأخذ يقترح تصورات بديلة لتعديله وتهذيبه، بناء على رؤية تاريخية لتقدمه الزمني حقبة بعد حقبة.

وضع فورييه أربع درجات لتطور المراحل الاجتماعية للتاريخ تبدأ بالهمجية، والأبوية، والبربرية، والمدنية. والأخيرة تشكل عنده الرديف الراهن للحياة المعاصرة في مطلع القرن التاسع عشر. فالحضارة برأي فورييه تسير من حال إلى آخر من دون أن تستقر على ضوابط نهائية لتذليل الصعوبات والعقبات. وهذا ما يؤدي إلى اندفاعها الدائم في حلقات مفرغة من التعارضات بين المقدمات والنتائج والنتائج والمقدمات، الأمر الذي لن يساعد الإنسان على بلوغ كماله التام. فهناك درجة من التقدم إلى الأمام والأعلى إلى جوار درجة أخرى من التراجع والهبوط إلى الأدنى، وهذا ما سيؤدي برأيه إلى فناء البشرية في المستقبل.

نظرية الفناء ليست جديدة.كانط مثلاً تحدث عن فناء الأرض في المستقبل، وهيغل عن اضمحلال التعارض بين العلة الأولى وتطور الإنسان، وسيمون عن عالم هندسي مبرمج ومستقل عن الطبيعة والمجتمع، وفورييه عن اضمحلال البشرية ومالتس عن الانفجار السكاني.

كل هذا الرعيل من الفلاسفة والمفكرين الذي انتجته القارة في نهاية القرن 18 ومطلع القرن 19 في حقبة متقاربة توزعت بداية بين بريطانيا (الثورة الصناعية البخارية) وفرنسا (الثورة الدستورية) وألمانيا (الثورة الايديولوجية) جاء ليعكس حالات انتقالية متجاورة ومتوازية لتدخل في مرحلة لاحقة في طور التوحد والانقسام في منظومات من القراءات التاريخية التي تنظر إلى الدين والدنيا من زوايا مختلفة. فالتضاد التاريخي صنع الوحدة، والوحدة التاريخية انتجت التضاد السياسي ومدارسه المعرفية.

وحدة الأضداد كانت التعبير المنطقي عن تحولات تاريخية غير مكتملة الشروط وتحتاج إلى وقت لترتسم هيكليتها الاجتماعية وهويتها الثقافية والعمرانية. والانكسار الذي حطم العلاقات السابقة احتاج إلى فترة زمنية ليعيد اكتشاف الأسلوب الجديد في تشكيل هيئة المجتمع. وبما أن النمط الجديد كان لا يزال في طوره البدائي وبداية خط معاصر في صعوده الطردي شهدت أوروبا تلك الأشكال الحديثة في التصورات الطوباوية للدولة البديلة. فالنمو الصناعي الطردي الحديث ساهم في توليد ايديولوجيات طاردة للعلاقات المتخثرة القديمة.

المبالغة في التفاؤل والإفراط في السعادة والتسريع في خطوات التقدم كلها نقاط إيجابية ينتج عنها في حالات انعدام الرؤية وانزلاقات خطيرة تفتح الباب لنمو نقاط سلبية تتخوف من المستقبل وتستشعر احتمالات سيئة تسرف في الحديث عن القنوط والنهاية والسقوط الأبدي. وكلام كانط وهيغل وسيمون وفورييه ومالتس عن نهايات متخالفة بين السعادة والإحباط هي نتاج رؤى متفاوتة في قراءات تاريخية لم يكن بإمكانها التوافق في فترة لا تتعدى 50 عاماً على تصورات متشابهة أو متطابقة في نهاياتها.

آنذاك كانت النخبة الأوروبية قد دخلت توها في مسارات تاريخية وقنوات متعددة في التعامل مع مرجعيات المعرفة ونظرتها إلى المستقبل. فهناك رجل الكنيسة وإلى جواره رجل الدولة (البيروقراطية) والمخترع والمكتشف ورجل الأعمال (الاقتصاد الحديث) والرحالة (بعثات الاستكشاف والحفريات والآثار) والطبيب والفيزيائي والكيمائي وعالم الفلك ورجل المختبر (المختبرات) والأكاديمي والمستشرق والفيلسوف والصحافي (المحقق الاجتماعي) وعالم الطبيعة (الأحياء) ورجل النقابة أو المناضل (الثوري) أو عالم الاجتماع، وكل هذه القوى المتجاورة من الفعاليات النخبوية دخلت حقول المعرفة وأخذت تتنافس وتتزاحم في توضيح رؤيتها عن عالم انهار وبدأ يتلاشى وآخر بدأ ينمو وينهض على انقاض الماضي.

الاختلاف على البديل التاريخي عن ذلك التفسير الديني للكون والنشوء والإنسان والبداية والنهاية والعلة الأولى والماضي والمستقبل شجع النخب على تجاذب القيادة وإنتاج مجموعة من المناهج (الاستقراء والتفكيك والتركيب) بقصد صناعة أبنية تأخذ مكانها الخاص في العالم الجديد الذي أخذ يبتعد عن الكنيسة.

شكلت الاشتراكية في مختلف مدارسها (المثالية، الطوباوية، الفوضوية، النقابية، الوضعية، الواقعية، والعلمية) سلسلة من الحلقات المتحالفة والمضادة في آن ولكنها في المجموع العام نجحت في تكوين فلسفة مضادة للرأسمالية الصاعدة من رحم عالم الارستقراطية المنهار. وستلعب هذه المدارس في قضها وقضيضها دورها التاريخي في زعزعة الاستقرار من جهة وإطلاق منظومة أفكار من جهة أخرى ما سيترك أثره لاحقاً في رسم معالم أخرى لمستقبل أوروبا.

سان سيمون (1760-1825) وشارل فورييه (1772-1837) وروبرت أوين (1771-1858) كانوا طليعة الاشتراكية المعاصرة. والبداية عادة تكون طفولية وعفوية وبسيطة ومثالية وحالمة تفكر في المستقبل انطلاقاً من فطرية تفتقر إلى التجربة وتحتاج إلى معرفة للاختبار والتعلم واكتشاف صعوبات الحياة وشقاوة الدنيا. فهؤلاء الثلاثة خاضوا تجارب ميدانية إنسانية بديلة لم يتوافر لها النجاح وفشلت في تحقيق أغراضها وطموحاتها في تحقيق العدالة والمساواة بين البشر. والفشل الميداني (التجريبي) لا يعني سقوط الأمل وتبخر الحلم. فالأفكار استمرت واخذت تنتشر وتمتد لتعيد إنتاج نفسها في منظومات فلسفية أكثر واقعية وعلمية وعنفية.

أوين مثلاً بدأ مسيرته الإصلاحية حين كان مديراً لمعمل في مانشستر إذ حاول تنظيم حياة 500 عامل بهدف تلبية الحد المعقول من حاجاتهم الضرورية. وفي 1800 - 1829 أدار معملاً للأقمشة في أسكتلندا (نيولانارك) ما جعله ينجح في تطوير نموذج خاص اتصف بالمثالية وكسب شهرة في أوروبا بسبب نجاحه في السيطرة على ظواهر السكر والدعارة نتيجة أعماله الخيرية ورعايته للفقراء واهتمامه بالتربية وتأسيس مدرسة للأطفال وتوفير ظروف معيشية صالحة حين خفض ساعات عمل العمال من 14 ساعة إلى عشر ساعات.

أدت مثالية أوين إلى تحسن أداء العمال وتطور إنتاجهم قياساً بالمصانع المنافسة ما عزز ثقته بنظرياته الطوباوية عن إمكان الحصول على فرص في المستقبل تضمن السيطرة على الفوضى في إدارة المعامل واحتواء التوتر بين أرباب العمل والطبقة العمالية. وبناء على هذا النجاح المحدود في بلدة لا يتجاوز سكانها ثلاثة الآف نسمة أخذ أوين يفكر في توسيع دائرة تجربته ما جعله يندفع نحو التخطيط لبناء مشروع (مستوطنة شيوعية) في ايرلندا وأميركا يصفي فيها الفقر ويضع حداً للسرقة والنهب والربح.

فكرة الهروب من المجتمع والابتعاد عن سلبياته في 1830 و1840 لم تلق النجاح بسبب عزلتها ومثاليتها. فالمدينة الفاضلة كانت رومانسية (طوباوية) حين اصطدمت بالحقائق الميدانية وأرض الواقع وأدت إلى إفلاس أوين وانهيار مؤسساته. الفشل العملي في جانب لم يسقط فكرة المساواة والعدالة من جانب آخر، ما أدى إلى تقبل الدول الأوروبية لاحقاً إصدار قوانين تخفف من استخدام الأطفال في المعامل وخفض ساعات العمل وتقديم ضمانات اجتماعية وصحية وإعطاء العمال حق تنظيم نقابات تدافع عن حقوقهم وتشرح مطالبهم.

فشل الاشتراكية المثالية (الطوباوية) والإنسانية الحالمة والأفكار الفوضوية أعطى فرصة لنمو نظريات أكثر واقعية في تعاملها العلمي الدقيق مع تطور العلاقات الاجتماعية.فالزمن الذي عاشه سيمون وفورييه وأوين اتسم بغموض الهوية الجديدة للمجتمع وضبابية التطور ما جعل هذه الحفنة من الطوباويين تفكر مثالياً مستخدمة مخيلتها في تصور حقائق المستقبل بناء على ماضٍ أخذت معالمه تتلاشى وتضمحل صورته عن مسرح التاريخ في مواجهة الحاضر .

الطوباوية بدأت تتراجع وأحياناً تتكيف أو تندمج في القوانين الاجتماعية التي أخذت تصدر تباعاً عن المؤسسات التشريعية لضمان حقوق العمال وتأمين الحد المعقول لتلبية متطلباتهم التعليمية والصحية والمعيشية. وهذا التحول في العلاقات بين رب العمل والعامل جاء رداً على التطور السريع الذي شهدته بريطانيا والقارة في السنوات الخمسين اللاحقة حين اخذت الصناعات الكبيرة تتقدم وتعيد هيكلة المجتمع وفق قواعد واضحة في صورتها وهيئتها.

هذه الفترة المتقدمة ستكون من نصيب حفنة جديدة من النخب والفلاسفة وهي لن تكون منفصلة عن تلك الاجتهادات المعرفية والاختراعات والاكتشافات السابقة التي أطلقت موجات متتالية من التقدم منذ القرن الخامس عشر وصولاً إلى نشوء الطوباوية (المثالية) في عالم متغير بين النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر.

خلال فترة المئة السنة هذه ستعيد أوروبا اكتشاف هويتها وإعادة تعريف وظيفتها التاريخية والعالمية. وطوباوية الثلاثة لم تظهر خارج السياق الزمني وتطوره، فهي جاءت نتيجة التأثر بالموجة الأولى للثورة الصناعية (1750 – 1820) وصولاً إلى الثانية (1820 – 1870) وهي كانت مرحلة سياسية سيئة إذ ساد خلالها فكر المحافظين الجدد في نسخته القديمة بين العامين 1815 و1848.

تلك الفترة الانتقالية بين موجتين صناعيتين أسست وعياً انقلابياً تمثل بداية في تطور المخيلة وصولاً إلى تطور وعي العقل واكتشاف قوانين علم الاجتماع التي بادر دعاة الفلسفة الوضعية إلى وضع مصطلحه وقواعده وأصوله المعرفية بناء على قراءة التحولات المعاصرة.

الطوباويون الثلاثة كان لهم دورهم الخاص في المساعدة على التقدم باتجاه هذه النقلة النوعية في علوم الاجتماع.سيمون ابن أسرة ارستقراطية (كونت) عاصر تداعيات الموجة الأولى للثورة الصناعية وتخيل مدينة حديثة بناء على رؤيته الفلسفية التي قسمت تطور التاريخ إلى ثلاث مراحل: الدين، الميتافيزيقيا، النظام الاجتماعي الوضعي. فورييه ابن طبقة وسطى تعمل أسرته بالتجارة عاصر لحظة الانتقال من الموجة الصناعية الأولى إلى الثانية وقرأ التحولات السلبية بأنها نتيجة خطأ المجتمع وليس الفرد، لذلك تخيل مدينة في عالم صناعي جديد يتأسس على نظام اجتماعي يشترك الناس اختيارياً في إدارته. وأوين ابن أب مهني تعلم منه العمل الحرفي لكسب الرزق، وهو عاصر بدايات الموجة الثانية للثورة الصناعية وتصور في منظومته التجريبية ونماذجه التطبيقية تأسيس مجتمع غير طبقي يعتمد على نظام اتحادي حر يتألف من جماعات تتمتع بالحكم الذاتي.

هذه المتخيلات جاءت في لحظتها التاريخية وهي كانت تشكل ذلك التعبير العفوي المثالي (الطفولي) عن حاجة للبديل المبرمج للرد على الفوضى الرأسمالية التي خلقتها الثورة الصناعية في الموجتين الأولى والثانية.وهذا ما سيكون له انعكاسه المعرفي في إنتاج مدارس في علوم الاقتصاد والسياسة والاجتماع (أوغست كونت) والأحياء (تشارلز داروين).

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2793 - الخميس 29 أبريل 2010م الموافق 14 جمادى الأولى 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً