العدد 2833 - الثلثاء 08 يونيو 2010م الموافق 25 جمادى الآخرة 1431هـ

وثيقة الفاتيكان... وأقليات الشرق الأوسط

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تشكل الوثيقة التي سلمها الفاتيكان إلى كنائس الشرق الكاثوليكية بشأن «زوال المسيحيين» وخسارة تلك التعددية «التي تتسم بها منذ الأزل دول الشرق الأوسط» مناسبة لإعادة قراءة ملف الأقليات في المشرق عموماً والمخاطر المتأتية من التدخلات العسكرية على الاستقرار السياسي والتوازن الأهلي. فالوثيقة التي صدرت في نيقوسيا (قبرص) في إطار عمل المجمع حول كنائس الشرق الأوسط تمثل آلية عمل لمناقشة بنودها في مؤتمر سيعقد في روما في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل لبحث مستقبل المسيحيين في المشرق والمحن التي يتعرضون لها في منطقة شهدت تاريخياً ذاك الاحترام لحرية المعتقد والدين والتنوع.

صدور الوثيقة المطروحة للنقاش جاء بمناسبة انهيار المجموعات المسيحية وتآكلها الديموغرافي في فلسطين ولبنان والعراق بسبب ما أسماه البابا بينديكتوس السادس عشر «التغاضي عن القانون الدولي في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الممتد منذ عقود (...) وأنانية القوى العظمى وعدم احترام حقوق الإنسان، ما عرقل استقرار المنطقة وأخضع السكان بالكامل لمستوى من العنف يثير الإحباط».

بابا الفاتيكان دعا في مذكرته إلى «جهد دولي منسق» لتخفيف التوترات في الشرق الأوسط والحد من إراقة مزيد من الدماء. والوثيقة أشارت إلى دور الاحتلال الإسرائيلي وتسببه في «مصاعب الحياة اليومية» مضيفة أن «وضع المسيحيين في الشرق الأوسط زاد سوءاً مع الوضع الاجتماعي الذي ينذر بالخطر في العراق، حيث أطلقت الحرب قوى الشر، ومع انعدام الاستقرار السياسي في لبنان».

الوثيقة جديرة بالدراسة لا من حيث تخوفها من النتائج المدمرة للنسيج الاجتماعي في منطقة المشرق وإنما أيضاً من خلال تعيينها للأسباب التي ساعدت على إطلاق شرارات عنف جرفت معها التنوع والتعدد ورفعت من نسبة الكراهية والخوف المتبادل وأدت إلى نزوح «الأقليات» وهربها من المخاطر التي نجمت عن الفوضى وعدم الاستقرار. فالوثيقة ضمناً لا تتهم الإسلام بالمسئولية بل إنها تعترف بدوره في حماية الأقليات وضمان حقوقها تحت مظلة تاريخية اتسمت بالتسامح وقبول الآخر والاعتراف بالاختلاف. وساهمت هذه الثقافة في ترتيب علاقات هرمية أعطت المجموعات الأهلية حرية المعتقد وحق العبادة وممارسة الشعائر ضمن قنوات دستورية وهوية جامعة ومشتركة.

أهمية الوثيقة الفاتيكانية أنها تتهم صراحة الاحتلال الإسرائيلي والتدخلات الأجنبية والحروب الخارجية بتأسيس مناخات سياسية ساهمت في زعزعة الاستقرار حين أعطت فرصة لقوى الشر بالنمو والانقضاض على نموذج تاريخي - ثقافي تميز تقليدياً بالتعدد والتنوع والتعايش والتساكن في إطار مظلة هرمية أعطت مساحة لكل المجموعات الأهلية أن تتحرك في هامش من الحرية وعدم الخوف والاطمئنان لحماية السلطة ورعايتها للأقليات.

هذا الاعتراف الضمني يفتح الباب لمناقشة مسألة تتجاوز حدود ما أسمته الوثيقة «زوال المسيحيين» في المشرق وتحديداً فلسطين ولبنان والعراق. فالمسألة خطيرة إذا استمرت درجات حرارة القلق بالارتفاع لأنها ستؤدي في طور لاحق إلى زعزعة التعايش ليس بين المسيحيين والمسلمين فقط وإنما بين المسلمين والمسلمين أيضاً. يضاف إلى ذلك احتمال نمو علاقات متوترة بين المجموعات الأهلية المختلفة أقوامياً ولونياً وعرقياً ومناطقياً في السودان والصومال وموريتانيا وغيرها من دول الجوار.

مسألة الأقليات في المشرق لا تختصر بالمجموعات المسيحية في دائرة استراتيجية كانت محط صراع دولي على خطوط التجارة القديمة وما أنتجته من تداعيات دينية وحضارية انتهت في مطلع القرن الماضي إلى انهيار المنطقة الجغرافية سياسياً وتبعثرها إلى دويلات تبحث عن هويات بديلة تأخذ مكان المظلة «العثمانية».

المسألة كبيرة وخطيرة وهي باتت متواصلة وممتدة وأخذت تتصل بكل المجموعات الأهلية التي تتوزع على أقليات دينية وقومية (أقوامية) ولونية تشمل كل المناطق والأعراق المنتشرة جغرافياً على مناطق تتجاوز حدود المشرق العربي. وأهمية الوثيقة التي فتحت الملف من خلال التركيز على مصير الأقليات المسيحية ومستقبلها في المنطقة، إنها طرحت المسألة من زاوية سياسية - أمنية ما يشجع على تطوير قراءة الأزمة وإعادة تناولها من زاويا أخرى تقارب المتغيرات التاريخية التي طرأت على «الشرق الأوسط» وأدت إلى تعديل توازناته وتمزيق وحدته وتفريق هويته الجامعة وتركيب خرائط سياسية مصطنعة ساهمت في بعثرة الأقليات وتوزيعها على كيانات غير متجانسة في تكوينها الثقافي والديموغرافي.

موضوع الأقليات يشكل نقطة مهمة في وثيقة الفاتيكان التي ستتعرض للمراجعة وإعادة القراءة في روما في أكتوبر المقبل. والموضوع الذي اقتصر على المجموعات المسيحية يمكن فتحه على آفاق أوسع تشمل كل الأقليات الأهلية وطبيعة علاقاتها التاريخية بالسلطة السياسية من جانب والأكثرية من جانب آخر.

المادة غنية بالمعلومات وخصبة في تنوعها وتلاوينها، وهي في مجموعها قد تشكل خطوة لإعادة تأسيس رؤية واعية في تعاملها مع ملف خطير ساهم الغرب في التلاعب به واستغلاله في لحظة صعود الدولة - القومية وبدء خروجها من القارة الأوروبية إلى العالم الإسلامي (العربي). المسألة في تكوينها تاريخية وهي تعكس في نموذجها الثقافي سلسلة اختلافات بين دولة قومية نهضت في الغرب وتقوم على مبدأ التجانس العصبي (الديني والمذهبي والأقوامي) وبين دولة سلطانية في المشرق كانت تقوم على مبدأ التنوع العصبي وما يقتضيه التعايش من تساكن الأقليات من دون حاجة للاندماج والصهر والتوحد القسري.

هذا الاختلاف الثقافي بين نموذجين انكسر تاريخياً في مطلع القرن العشرين وأدى إلى ظهور نزعة توحيدية تقلد نموذج الدولة القومية في الغرب من دون إدراك لطبيعة التكوين الديني لشعوب المنطقة في «الشرق الأوسط». وساهم هذا الاستنساخ لتجارب أوروبا القومية في فتح ملف الأقليات والتنوع الديموغرافي الأقوامي والديني والمذهبي ما أعطى فرصة لقوى الشر في النمو تحت يافطة الفرز العرقي والتجانس القومي واللوني والديني والمذهبي انطلاقاً من فلسطين (ترحيل الناس) إلى لبنان (التوزيع الديني) وأخيراً العراق (التفكيك الأقوامي - المذهبي). المسألة أكبر من زوال المسيحيين وهي بدأت تمتد لتهدد الجميع. وهذا موضوع آخر

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2833 - الثلثاء 08 يونيو 2010م الموافق 25 جمادى الآخرة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 5:28 ص

      14نور:: بابا الفاتيكان متطرفُ ُ آخر على خطى جورج بوش الإبن

      بابا الفاتيكان متطرفُ ُ آخر على خطى جورج بوش الإبن فهو وبالخطاب الذي ألقاه قبل فترة تكلم عن حماية المسيحيين و المسلمين من الفئة المسلمة المتطرفة وكأنه يتغاضى عن الفئة الأكبر من المتطرفين المسيحيين الذين قتلوا أكبر الأعداد من البشرية في حروبهم التي شنوها على اعالم بأسره فأينما حلوا هم كان هناك الملايين من القتلى متناثرةُ ُ أشلائهم في كل البلاد إما في حروب مباشرة أو إغتيالات أو فتن ينشرونها هنا وهناك وطبقون الآية الكريمة بحذافيرها ومعناها بأن لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تكون منضوياً بملتهم

اقرأ ايضاً