العدد 2861 - الثلثاء 06 يوليو 2010م الموافق 23 رجب 1431هـ

ماذا بعد غياب السيد عن المشهد؟

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

التشييع المهيب الذي شهده لبنان في وداع المرجع العلامة السيد محمد حسين فضل الله يؤكد مدى عمق الخسارة وذاك الفراغ الروحي في بلد يتشكل من مجموعات أهلية تتعايش في جغرافيا صغيرة الحجم. فهذا الكيان كان بحاجة إلى موقع مرجعي استطاع أن يضعه على خريطة العالم الإسلامي لما تميز به من خصوصية شاملة تمثلت في فتاواه التجديدية التي لاقت القبول من مختلف المدارس الفقهية والمذهبية.

إلى التجديد شكلت خطب السيد الأسبوعية ومقالاته السياسية مادة خصبة للنقاش الفكري لكونها لعبت دورها في تصويب الاتجاهات والحدّ من التطرف والغلواء ومقارعة مقولات الإلغاء والتكفير التي كانت تعطل التفكير وتشوش الذهن وتمنعه من التكيف مع حاجات العصر ومتطلبات الزمن.

غياب السيد فضل الله سيترك تأثيره المباشر على لبنان الذي يتعرض يومياً لتهديدات إسرائيلية تتطلب دائماً قوة توحيدية تواجه كل المحاولات الداعية للفرقة والفتنة التي تساهم في انكشاف البلد وتعريضه لتجارب لا يستطيع تحمل تداعياتها في ظل التشرذم والانقسام.

رحيل السيد عن المشهد لا يعني أن أفكاره ستغيب عن ساحة مفتوحة على تجاذبات جوارية وإقليمية وعواصف دولية تنذر المنطقة العربية باحتمال حصول تحولات يمكن أن تزعزع توازنها وتعيد تشكيل خريطتها السياسية. فالرحيل عن المشهد لا يعني الغياب عن المسرح، لأن فقه السيد الفيلسوف تجاوز الكثير من العقبات والحواجز وكسر تلك الحلقات الضيقة التي كانت تؤخر الانفتاح والتسامح والحوار.

فقه السيد الشمولي في خصوصيته تأسس على مجموعة معطيات ثابتة مزجت بين الأصول والفروع ما ساهم في تشييد مدرسة مرجعية اتسمت دائماً بالحيوية أو ما كان يسميه الراحل بالحراك على أرض الواقع وميدان المعرفة. وأهمية مرجعية السيد تعود إلى نجاحه في الدمج بين الأصول والدعوة إلى التجديد وعدم الانزواء أو الانكفاء عن العصر. وأدى هذا الربط إلى توليد طاقة دينامية أسست تلك الخطوط العريضة التي أسقطت تحت عناوينها الكبرى الكثير من العاملين في مجالات شتى وحقول مختلفة.

السيد الراحل كان صاحب رؤية كونية سمحت له بترسيم استراتيجية سياسية اعتمدت سلسلة مواقف ثابتة على المستويات الدولية والإقليمية والعربية والفلسطينية واللبنانية. وبناءً على تلك الثوابت يمكن رصد القراءات السياسية التي كانت ترد تباعاً ومن دون انقطاع في خطبه الأسبوعية ومقالاته.

استراتيجية السيد الراحل السياسية تولدت من رؤيته الفقهية الفلسفية وتدرجت من الأعلى (العام) إلى الأدنى (الخاص) لتشكل وحدة نموذجية شاملة تناولت في تضاعيفها وتموجاتها كل القضايا الحراكية على مختلف المستويات. فالتوجه السياسي عند السيد الراحل تأسس على وقائع ميدانية وليس على أساس مواقف مسبقة. فهو حين يواجه السياسة الأميركية دولياً وعربياً كان يعتمد في سجالاته على المعلومات والحقائق التي تدل على وجود مؤشرات تنتهجها الإدارات الأميركية في تعاملها مع الملفات الإقليمية.

على قاعدة الفقه دعا السيد الراحل دائماً إلى مقارعة الاستكبار العالمي والانفراد الأميركي بالقرار الدولي مضافاً إلى مقاومة الاستبداد والقهر والسلب والغزو والاحتلال والظلم في أي مكان في العالم. وانطلاقاً من هذا المنهج الأصولي التجديدي الحركي تميزت خطب السيد برفض الهيمنة الأميركية والاحتلال الصهيوني لفلسطين والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان وسورية ومختلف الدول العربية القريبة والبعيدة. ومن هذا المنهج بالذات اشتهرت خطب السيد وتحذيراته من مخاطر الحرب على العراق لأنه كان يدرك سلفاً أن احتلال بلاد الرافدين سيفتح الباب على عواصف إقليمية مذهبية ستؤدي إلى تقويض الدولة وجرجرة المنطقة إلى تجاذبات أهلية ستساهم في تعزيز التوجهات الانفصالية والدعوات الانعزالية.

جهاد السيد الراحل ضد الظلم والاستبداد والقهر لم يمنعه من رؤية مخاطر أخرى لا تقل سوءاً تتمثل في الانغلاق المذهبي والتناحر الطائفي والانكفاء نحو الظلمة. فالمقاومة في خطبه كانت تربط بين مواجهة الاستبداد ومحاربة العقلية الارتدادية الانفصالية التي تتجاهل تطور العالم وتتقصد استغلال الضعف لتوظيفه في مصالح صغيرة وقصيرة الأجل.

الرؤية الكونية لفقه السيد وفلسفته رسمت الحدود بين الحق والباطل من دون انحياز مسبق. فالرؤية الشاملة أعطته القدرة على الدخول في سياقات مختلفة وتوقع إيجابياتها أو مخاطرها حتى قبل حصولها. وموقفه الرافض للحرب على العراق واحتلال بلاد الرافدين وتحذيره الدائم من تداعيات الغزو المدمرة شكل على مدار السنوات الماضية تلك الإشارات التي يمكن من خلالها فهم تصوراته ورؤياه وقراءاته المستقلة حتى عن تأثيرات تلك الدوائر الضيقة وما تتضمنه من أحقاد وضغائن.

موقفه من لبنان أيضاً شكل إلى جانب العراق تلك الرؤية النافذة التي ترى الحق انطلاقاً من ميزان العدل. فالسيد ضد الطائفية والمذهبية في العراق ولبنان ولذلك كان دائماً يحذر من عقلية الارتداد واستبدال طائفة بطائفة والانجرار نحو الانفراد بالسلطة وعزل القوى والأطياف الأخرى عن دائرة القرار. العدل هو الأساس وإلا ما معنى مقاومة القهر والاستبداد والظلم إذا كان الهدف إعادة إنتاج القهر والاستبداد والظلم بمسميات أخرى وألقاب جديدة.

بناءً على هذه الرؤية الفقهية الفلسفية كان السيد الراحل يحذر من التطرف والغلواء والتشدد والمزايدة في بلد متعدد ومتنوع ومفتوح على احتمالات لأن هذا النوع من التفكير سيؤدي إلى ارتدادات أهلية ستساهم في تمزيق الوحدة وتشتيت الحق وتغييب ميزان العدل وإنتاج القهر والاستبداد في صيغ مختلفة وعناوين بديلة.

كتابات السيد الراحل السياسية وخطبه الأسبوعية لا تقل أهمية عن اجتهاده الفقهي وشجاعته في كسر الكثير من الحلقات من دون خوف من ردود الفعل التي قد تصدر عن الجهل والتعصب وأصحاب المصلحة في استثمار الانقسامات المتوارثة. فالسياسة في جانب منها هي صورة عن فقه الفقيه، والفقه في جانب من جوانبه هو صورة عن السياسة في ميدانها الحركي. لذلك لم يكن في فكر السيد ذلك التعارض بين سياسة الفقه وفقه السياسة لأنه أسس رؤيته الشاملة (الكونية) على خصوصية اعتمدت العقل قياساً لرسم حدود الاختلاف بين الحق والباطل. فالحق هو الحق بغض النظر عن الطرف الذي جاهد من أجله، والباطل هو الباطل حتى لو ارتكبه أقرب الناس إليه.

شيّع لبنان والعالم الإسلامي أمس السيد الفقيه الفيلسوف المجاهد والمجتهد إلى مثواه في تظاهرة جمعت الأضداد في مشاهد الحزن والألم وخسارة عَلَم من مدرسة التأصيل والتجديد. والتشييع في رمزيته لا يعني الغياب عن المسرح وإنما يشكل خطوة ترسل إشارات تنبيه تنعش الذاكرة وربما تعيد العقول الطائشة والرؤوس الحامية إلى رشدها.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2861 - الثلثاء 06 يوليو 2010م الموافق 23 رجب 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 3:57 ص

      الوسطية الواقعية

      شيّع لبنان والعالم الإسلامي أمس السيد الفقيه الفيلسوف المجاهد والمجتهد إلى مثواه في تظاهرة جمعت الأضداد في مشاهد الحزن والألم وخسارة عَلَم من مدرسة التأصيل والتجديد. والتشييع في رمزيته لا يعني الغياب عن المسرح وإنما يشكل خطوة ترسل إشارات تنبيه تنعش الذاكرة وربما تعيد العقول الطائشة والرؤوس الحامية إلى رشدها.

    • زائر 1 | 2:56 ص

      بعد غياب السيد-سوف يكون الف سيد وسيد

      تلاوة البيان من قبل السيد الغريفي -يعطي موشر ودليل واضح على ان السيد فضل اللة قد رسم وجعل كل الخوارض جاهزة لتنفيد-هل يعقل ان يترك السيد الساحة ويرحل الى قافلة اهل البيت ولا يوضع الخارطة-الدي ارعب الغرب وامريكا واسرائيل وجعل من الجيش الاسرائيلي اضحوكة للعالم-هل سيترك بدون اب ومرشد روحي ياتي بعدة-هنا تكمن العلاقة مابين جبل عامل والحوزات العلمية في البحرين والتزواج الخاص والفريد من نوعة مابين الجبال والبحر والخضرة-ل

اقرأ ايضاً