العدد 2864 - الجمعة 09 يوليو 2010م الموافق 26 رجب 1431هـ

جنوب اليمن، جنوب السودان، وجنوب العراق

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الاشتباك الذي وقع في عدن وبعض محافظات جنوب اليمن بمناسبة ذكرى المواجهة العسكرية التي انتهت في 7 يوليو/ تموز 1994 بانتصار قوات الوحدة على الانفصال أرسل إشارات خطرة بشأن الشعارات التقسيمية التي يرفعها أنصار «الحراك الجنوبي» ودعوته نحو إعادة الوضع إلى ما كان عليه سابقاً في العام 1990. فالدعوة إلى الانفصال، لا تصحيح العلاقات وإعادة هيكلة السلطة، تبدو الآن هي الإطار العام الذي تتحرك ضمنه مجموعات سياسية غير متوافقة في توجهاتها الإيديولوجية والقبلية والحزبية ما يشي بوجود تطورات سلبية قد تدفع باليمن نحو التقوض والانهيار المتدحرج لكل المحافظات.

الانفصال ليس حلاً ولا يشكل ذاك المفتاح السحري الذي يستطيع احتواء التداعيات المحتملة في بلد يعاني من انقسامات متوارثة تعود إلى عقود سابقة على عهد الوحدة. فالوحدة ليست سبباً في المشكلات كذلك فإن الانفصال لن يشكل الملاذ الآمن للخروج من مأزق السلطة السياسية.

الأزمة التي يمر بها اليمن الآن لا تتحمل الوحدة مسئوليتها وبالتالي لا يمكن المراهنة على الانفصال بوصفه يشكل ذلك المجال الحيوي لاحتواء مخلفات مشكلات تتجاوز في إطارها العام مقولات الوحدة والانفصال. الأزمة في مكان آخر وهي تتصل مباشرة بالهيكل العام للسلطة وعلاقة الدولة بالمجتمع وما يمثله من تراتب عنقودي قبلي يهدد الانفصال والوحدة معاً بالتقوض والانهيار الشامل.

انفصال الجنوب عن الشمال يشكل بحد ذاته خطوة كارثية ستعرض محافظات الجنوب قبل الشمال إلى حروب صغيرة لا يستبعد أن تتدحرج قبلياً ومناطقياً ما يؤدي إلى تشكيل وحدات جغرافية منعزلة عن بعضها تتجاذبها من الداخل مجموعة مصالح متقاطعة تمنع الدويلة الانفصالية من ضبطها تحت مظلة مشتركة.

حال اليمن في ظل الانفصال لن يكون أفضل من الصورة التي يمكن توقع ارتسام خطوطها في السودان في حال قرر الجنوب الانفصال عن الشمال في الاستفتاء المقرر العام المقبل. فالانفصال في السودان ليس حلاً للأزمة لأن المشكلات البنيوية والجهوية والقبلية واللونية والثقافية لا يمكن ربطها بالوحدة وتحميلها مسئولية الاشتباك بين السلطة والمكونات الأهلية للدولة.

هذا النوع الساذج من القراءة للأزمة يشكل مشكلة لإيديولوجية تتعاطى مع تعقيدات الواقع برؤية سطحية تلامس من بعيد العوامل الحقيقية للتداعيات ولكنها لا تقارب المشهد في حيثياته وآلياته. فالأزمة في السودان ليست في الوحدة والحل ليس في الانفصال. وإذا كانت الوحدة نصف مصيبة في رؤية الإيديولوجيين فإن الانفصال مصيبة كاملة في الجانب المقابل، لأن التداعيات المتوقعة من التقسيم ستكون أسوأ بكثير من المشكلات التي يعاني منها الجنوب في اليمن أو الجنوب في السودان.

المقاربة السلبية نفسها يمكن سحبها على جنوب العراق الذي تستعد محافظاته إلى تنسيق المواقف لإعلان شبه انفصال عن بلاد الرافدين بعد الانسحاب الجزئي لقوات الاحتلال في أغسطس/ آب المقبل. فالجنوب العراقي (الكونفيدرالي) لن يكون في حال أفضل من الشمال والغرب والوسط، لأن المشكلة لا تكمن في الوحدة وإنما في السلطة السياسية وعلاقاتها المأزومة مع مجتمع أهلي محكوم بتراتب عنقودي طائفي ومذهبي وقبلي ومناطقي يمنع الدولة من العودة إلى ممارسة دورها الناظم والضابط لمجموعات مشتتة على مراكز قوى تتقاطع مصالحها على تقاسم الغنيمة.

جنوب العراق ليس أفضل حالاً من جنوب السودان وجنوب اليمن لأن تكوينه العشائري وموقعه الجغرافي وحدوده السياسية وإطاره الجواري يضعه بين فكيّ كماشة تمنع عنه إمكانات التقدم والاستقرار في حال قررت المحافظات الخروج على المظلة العامة للدولة المفترض أن تولد بعد مخاض عسير.

الانفصال ليس حلاً لا في جنوب اليمن أو جنوب السودان أو جنوب العراق. والدعوات الإيديولوجية للتقسيم والانفكاك والتقوقع تشبه كثيراً تلك الدعوات الإيديولوجية التي سادت المنطقة في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي وبالغت في المراهنة على «الوحدة» بوصفها تشكل ذاك المفتاح السحري لكل المشكلات المتوارثة عن حقبات الاستعمار (الانتداب الأوروبي) والأنظمة التي تشكلت في ظلاله.

آنذاك ساد أيضاً ذلك النوع الساذج من القراءة للأزمات ما دفع النخبة العربية إلى ترويج إيديولوجية تعاطت مع تعقيدات الواقع برؤية سطحية تهربت من الحفر في المشكلات للتعرف على حيثياتها وآلياتها. فكرة الوحدة آنذاك تحولت إلى مشروعات سياسية وهمية قادت الدول العربية إلى اتخاذ خطوات متسرعة باتجاه مقولة الاندماج من دون انتباه لمجموعة عوامل صغيرة تتطلب الاحتواء أو المعالجة قبل الإقدام على الخطوة الكبيرة. وبسبب التبسيط والاستعجال كان نصيب كل التجارب الوحدوية الفشل والارتداد إلى حال أسوأ مما كانت عليه الأوضاع قبل اتخاذ تلك القرارات الحماسية والجماهيرية. الوحدة الثنائية السورية – المصرية مثلاً سقطت بعد ثلاث سنوات وجاء الانفصال ليعمق الشرخ بين القاهرة ودمشق. مفاوضات الوحدة الثلاثية التي جرت بين قادة العراق ومصر وسورية انتهت أيضاً إلى الفشل وأنتجت في ضوء تداعياتها خلافات سياسية عززت الانقسامات في داخل الحزب الواحد والإيديولوجية الواحدة.

المشهد نفسه يمكن سحب آلياته على كل محاولات التقارب الوحدوي الثنائي بين مصر والسودان وما أعقبها من إعلان الاتحاد الثلاثي بين ليبيا ومصر والسودان في مطلع السبعينات. كذلك تكرر المشهد الفوضوي في حالات وحدوية متشابهة جرى تجربتها في أشكال متعددة ومتفاوتة بين ليبيا وتونس (دامت الوحدة الاندماجية يوماً) أو تونس والجزائر أو ليبيا والجزائر وصولاً إلى صيغة الاتحاد المغاربي والاتحاد الرباعي أو الخماسي وغيرها من مقاربات أنتجت في النهاية سلسلة لا متناهية من خلافات كانت وظيفتها تعميق الهوة وتقطيع الجسور وتعطيل حركة النقل وحرية التنقل بين الدول العربية المجاورة أو المتباعدة.

فشل مشروعات «الوحدة الأخوية» لا يبرر الانفصال ولا يعطي تلك الذريعة الإيديولوجية للأفكار التقسيمية المحكومة سلفاً بآليات القبيلة وروح التعصب المذهبي والتنافر الطائفي والمناطقي. فهذه الدعوات الانفصالية التي أخذت ترفع رأسها علانية في اليمن والسودان والعراق لا مستقبل لها ومخاطرها البنيوية أسوأ من مشروعات الوحدة الفاشلة لأنها ستكون خطوة باتجاه ملجأ مجهول تتكدس في جوفه بضاعة فاسدة لا يجوز تداولها في السوق.

الاشتباك الذي وقع في عدن بمناسبة ذكرى ضرب محاولة الانفصال يؤشر إلى نمو تقاطعات محلية تستخدم ضعف آليات الوحدة بين الشمال والجنوب لتمرير مشروعات خطيرة لا تتوقف عند حدود الانقسام وإنما تمتد وتتمدد نحو الشرذمة والتشطير وتقسيم التقسيم وصولاً إلى الحد الأدنى من حلقات الانعزال وبالتالي الانكفاء عن عالم افتراضي يتقدم باتجاه الانفتاح والتواصل والعبور من زمن القبيلة إلى حقبة الدولة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2864 - الجمعة 09 يوليو 2010م الموافق 26 رجب 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً