العدد 2870 - الخميس 15 يوليو 2010م الموافق 02 شعبان 1431هـ

انهيار أوروبا القديمة ونهوض الجديدة (3)

محمد خاتمي comments [at] alwasatnews.com

في العناوين العريضة يعتقد هوبس أن الحكومة تتمتع بهوية طبيعية وأرضية ودنيوية، وينفي عنها أي لون من ألوان الميتافيزيقية والأولوهة.

وما جاء في القسم الثالث عن الحكومة في الدين المسيحي لا يهدف إلى إثبات السياسة المسيحية، خلافاً لما ينبئ عنه العنوان. فالدين، برأي هوبس، تابع للنظام المدني الدنيوي الحاكم، (على النحو الذي صوره هو طبعاً)، وأي فهم للدين غير هذا لا يخدم الحكومة ولا الدين أيضاً.

يبحث القسم الأول من كتاب ليفياثان عن الإنسان - الإنسان الحديث الذي أشّرت ولادته إلى عهد جديد من التاريخ البشري، الإنسان الذي يمثل، على حد تعبير هوبس، مادة الإنسان الصناعي، أي الدولة. ويعرض هوبس في هذا القسم الأول سياسة تدخل في إطار فلسفته المادية.

مدخل هوبس إلى السياسة هو البحث عن وضع الإنسان الطبيعي، حيث ذهب إلى أن «حالة الحرب وضع طبيعي»، وإن خلّى الإنسان بينه وبين طبيعته فلن يتحصل له إلا الخصومة والمضايقة والظلم وسفك الدماء، حيث إن الناس، كمجموعات، متساوون في القدرات البدنية والذهنية، (لأن النقصان الحاصل في جهة متدارك بالزيادة في جهة أخرى). ومؤدى هذا التكافؤ الطبيعي أن طموحات الناس متكافئة أيضاً. وحيث إن الغاية الأساسية للإنسان هي البقاء (Conservation) واللذة والبحث عن النجاح (Delectation) فلا ريب أن هذا التكافؤ والتماثل والتساوي في القابليات والأهداف يجر الناس إلى النزاع والخصومة فيما بينهم.

ويستنتج هوبس من تحليله فيقول:

«في طبيعة البشر ثلاثة عوامل هي منشأ الصراع والنزاع ((Quarrel أحدها المنافسة (Competition)، والثاني عدم الاعتماد (Diffidence)، والثالث حب الجاه (Glory). ويدفع العامل الأول الإنسان إلى طلب المزيد من المنافع والخيرات، والثاني للحصول على الأمان (Safety)، والثالث للحصول على الشهرة والاعتبار (Reputation)، وعندما لا توجد في الناس قوة عامة يحسبون حسابها فإنهم يتحولون إلى ما يسمى حالة الحرب... حيث كل واحد في صراع مع الآخر».

مقتضى الوضع الطبيعي للبشر برأي هوبس هو الحرب، وفيه تتسم حياة البشر بالانعزال وتقترن بالفقر، وتكون قبيحة وكريهة وحيوانية وقصيرة.

و»حالة الحرب»، وإن كانت طبيعية، فإن مصلحة الإنسان تقتضي أن يخرج منها. ومن هنا فغاية الأمر أنه لابد من البحث عن منشأ طبيعي للتفكير المصلحي هذا في نظرة هوبس الفكرية الكونية المادية والمكانيكية.

يحاول هوبس إكمال منظومته الفلسفية بالبحث عن الجذور الطبيعية لهذا التفكير المصلحي المبرر، الداعي إلى قيام الدولة، فحالة الحرب الطبيعية، إن صح أن لها جذراً في الانفعالات والخصائص الملازمة للإنسان، فهي ليست الغالبة عليه لأن في الإنسان انفعالات أخرى تدفعه إلى طلب الصلح، وهذه الانفعالات نفسها تقود الناس إلى الإذعان لـ «قوة عامة». فالرغبة في الراحة (Ease)، واللذة الحسية (Sensual delight)، والخوف من الموت والضرر البدني (Wound)، والشوق إلى المعرفة، وفنون الصلح (Arts of peace)، والميل إلى الرفاه (Leisure)، أيضاً كلها دوافع قوية تدفع الإنسان إلى الفرار من حالة الحرب... وهنا يأتي دور «العقل» في هداية الإنسان إلى تحقيق رغبات النفس هذه.

وهكذا فإن العقل يقترح على نحو ما بنود (Articles) الصلح، المحتم على الناس الاتفاق عليها. وهذه البنود هي نفسها «قوانين الطبيعة»، التي بحث عنها هوبس مفصلاً في الفصلين 14 و15 من القسم الأول لكتابه. ففرق في الفصل 14 من ليفياثان بين «الحق الطبيعي» و»القانون الطبيعي» بما يلي:

«الحق الطبيعي (Right of nature) الذي يسميه الكتاب عموما (Jus naturale)، خيار يملكه كل إنسان، يتيح له أن يقوم بكل ما فيه حفظ طبيعته، أي حياته، فهو إذاً كل عمل يقوم به الإنسان، استناداً إلى قناعته واعتقاده بأنه الوسيلة الأفضل للوصول إلى المطلوب...

وأما القانون الطبيعي (Lex naturalis /Law of nature) فهو الأصل والقاعدة العامة التي يكتشفها العقل، ويمنع بموجبها الإنسان من أي عمل يؤدي إلى تلفه، أو يسلبه أسباب البقاء، ويحول دون التقصير في رفع ما يكون مضراً بوجوده أيضاً. والمتعرضون لهذا الباب، غالباً ما يخلطون بين الحق والقانون كبابين، أو بين الـ Jus والـ Lex، لكن لابد من النظر إلى هذين كبابين منفصلين، فالحق هو الحرية في الإقدام على عمل، أو اجتنابه، في حين أن القانون يلزم الإنسان القيام بعمل معين. فبين القانون والحق من الفرق بمقدار ما بين الإلزام والتخيير اللذين لا ينسجمان في أمر واحد».

ويستفاد من كلام هوبس هذا أن السيطرة على «الحق الطبيعي» تكون بـ «القانون الطبيعي». وهو ما يفتح الباب أمام سؤال آخر مفاده: ما هي آلة استقرار القانون الطبيعي برأي هوبس، مع فرض عدم الاستعانة بقوة خارجة عن الوجود الإنساني والعالم المادي؟

لما كان الوضع الطبيعي للإنسان، برأي هوبس، هو «حالة الحرب» فلا ريب أن الحياة تعج بالنزاع والخصومة، وأن لا أمن ممكناً إلا مع تقييد «الحق الطبيعي». ومن هنا جند هوبس سعيه لاستكشاف السبيل إلى تحقيق الأمن، ما يستلزم تضييق الحقوق الطبيعية للأفراد، ويمنحها طابعاً طبيعياً وعقلياً؛ فهو كما أرجع حق الإنسان إلى خصائص طبيعية كذلك سعى إلى اشتقاق الإلزام من الطبيعة نفسها، وكف يد «ما بعد الطبيعة» نهائياً عن حياة الإنسان.

وفي تحليله لخصائص الحياة البشرية، يخلص هوبس إلى خلاصة مفادها أنه:

«يجب على كل شخص أن يبذل وسعه وجهده في سبيل الصلح ما كان له أمل به، فإن عجز عن الظفر بالصلح حق له أن يبحث عن كل ما يعينه وينفعه في الحرب».

وينتج من هذا «القانون» قانون آخر ثان قوامه أنه «يجب على كل أحد، إذا وجد استعداداً من قبل الآخرين أيضاً، أن يرضى بالإغضاء عن بعض حقوقه بمقدار ما يراه ضرورياً للمحافظة على السلم والدفاع عن نفسه، والاكتفاء بذلك المقدار من الحرية الذي يرغب أن يتمتع الآخرون به تجاهه».

ثم يبحث هوبس مفصلاً عن الكيفية التي يتم بموجبها نقل الحق، والنتائج المترتبة على ذلك، ويخرج بما يلي: «إن عملية النقل المتقابل من الأفراد لحقوقهم هو ما يسمى بالاتفاق (Contract)». ويستفاد من كلامه هذا أن أساس المجتمع المدني، ومنشأ النظام السياسي المحكوم بسلطان إنساني صرف، هو الاتفاق والرضا (الواقعي أو الفرضي)، لأفراد المجتمع.

ما بينه هوبس في ما عرضنا له لحد الآن يمثل محاولة جادة لبيان طبيعية القوانين التي يفترض، برأيه، أن تحكم المجتمع ومعقوليتها. ورغم ما يلاحظ من أن هذا التحليل لا ينطوي على إلزام والتزام، فهو من الناحية العملية محقق للمجتمع، وحافظ لنظمه؛ لأن العقل يحكم بأن أمراً كهذا مفيد للوصول إلى «حياة آمنة»، والتمتع بمثل هذه الحياة. ويصل هوبس في البحث عن «الإلزام العملي» لإقامة النظام الاجتماعي إلى ضرورة وجود «حاكم مطلق» (Absolute sovereign) يمثل القوة المشتركة للمتعاقدين.

وعندما يعرف هوبس «حالة الحرب» كوضع طبيعي، يعلن بأنه لا سبيل للخلاص من النكبات إلا بالخضوع لأمر سلطة عليا. ويضيف، بعد ذكر الميول التي تجعل الإنسان يفر من «حال الحرب»، فيقول إن هذه الميول، (إلى الراحة واللذة الحسية والخوف من الموت وغيرها)، دوافع تدفع الإنسان إلى الاستجابة لقوة مشتركة قادرة على تحقيق رغباته.

إنه يعتقد أن الصلح والأمن منوطان بوجود حكومة قوية، نابعة من عقل جماعة من الناس وإرادتها، دافعها إلى السلم غالب على ما يأسر الناس في حالتهم الطبيعية الأولى، أي إيثار النفس والطمع، إلخ... أي حالة الحرب. على هذا فإن الدوافع إلى السلم والدعة، وإن كانت موجودة في نفس الإنسان أيضاً، فإنها مفتقدة إلى الجانب المعنوي والأخلاقي أولاً، وتحتل درجة متأخرة، قياساً بسائر الدوافع والغرائز والميول، وذات قدرة وتأثير أقل منها ثانياً.

ويدعي هوبس أن الإنسان كتلة من الغرائز والمحدوديات، وأن هذه الأمور هي التي تجره إلى منازعة الآخرين. ومن أجل التخلص من هذا الوضع ينزل، بدافع المصلحة، عن شيء من إرادته واختياره وحريته وحقه إلى الغير. فالحكومة تتأسس على رضا الأفراد، وتقوم على اتفاقهم، على أنه يصر على ضرورة اقتران شرعية السلطة المركزية بـ «إطلاق» ـها حيث يقول: «يصبح الحاكم، بفضل السلطان والاختيار المفوضين إليه من قبل رعاياه، على درجة من القدرة والقوة، تمكنانه بفعل الخوف الذي يلقيه في قلوب الناس من توحيد إراداتهم المختلفة، بحيث يصيرها إرادة واحدة، توخياً لإقرار السلم والأمن في المجتمع، وإعداد الناس، بالتعاون فيما بينهم، لصد أي عدوان خارجي. وإذ يستمد الحاكم وجوده من جوهر المجتمع السياسي ومادته الأصلية التي هي الجمهور، يعرف بأنه الشخص الذي يعتبره جماعة من الناس، على ضوء الاتفاقات الجارية بينهم، مدير أعمالهم والمتمكن، بقدراتهم وإمكاناتهم المفوضة إليه، من إقامة الصلح بينهم، وتشكيل قوة منهم».

إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "

العدد 2870 - الخميس 15 يوليو 2010م الموافق 02 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً