العدد 2877 - الخميس 22 يوليو 2010م الموافق 09 شعبان 1431هـ

صعود أميركا إلى القمة

نشوء النخبة الأوروبية (23)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الكلام عن أميركا وتطورات القرن العشرين بدءاً من سباق التسلح (انشطار الذرة واستخدام القنبلة النووية) إلى سباق الفضاء واختراق الغلاف الأرضي (النزول على القمر) وصولاً إلى المريخ وانتهاء بالحروب والإنجازات في مختلف الحقول العلمية والتقنية (الكمبيوتر وأجهزة التحكم عن بعد) والطبية (D.N.A) والمواصلات (الطائرات، والأقمار الاصطناعية) والاتصالات (الراديو، والتلفزيون، والفضائيات، والإنترنت) والثورات (حركات الاستقلال، والاتحاد السوفياتي، والصين، والإسلام) وغيرها يحتاج إلى كتاب مستقل وهو أصلاً خارج مخطط «نشوء النخبة الأوروبية».

أميركا في القرن العشرين بدأت دولياً مع معاهدة فرساي ولكنها قبل ذلك دخلت في مسارات كونية أخذت ترسم معالمها حين خرجت الولايات المتحدة من حربها الأهلية موحدة سياسياً وقوية عسكرياً ومتحررة اجتماعياً وقانونياً من تجارة الرقيق. تحرير أميركا لمنظومة «العبيد» حرر تاريخها من ثقل بشري - إنساني كان يكبلها اقتصادياً ويمنعها من النمو والانطلاق في السوق المحلية وخارج أسوارها.

هذا الانتقال النوعي من الدائرة القومية إلى محيط العالم جاء إثر تحولات متسارعة شهدها «النموذج» الجديد منذ اكتشف كولمبوس مصادفة هذه الرقعة الجغرافية الواقعة في المقلب الآخر من المحيط الأطلسي. والاكتشاف الذي أعاد تعريفه البحار أمريكو بعد فترة زمنية قصيرة فتح الآفاق الجغرافية أمام القارة الأوروبية وأعطاها تلك الحيوية التي كانت تحتاجها للخروج من عزلتها التاريخية.

نجحت أوروبا في تكوين شخصيتها الاجتماعية - الاقتصادية مستفيدة من تلك الثروات والمساحات التي انفتحت أمامها بعيداً عن العالم الإسلامي ومنافسته. وأعطت هذه الإضافة (منحة) للقارة قوة أخذت تعيد تشكيل عناصر النمو المعرفي والتقدم العمراني بدءاً من القرن السادس عشر إلى الربع الأخير من القرن الثامن عشر. بعد هذه الحقبة ستبدأ أميركا بالاستقلال السياسي عن أوروبا وستنجح بين 1773 و1783 في إعلان الثورة وكتابة الدستور وهزيمة بريطانيا عسكرياً وإجبارها على توقيع اتفاق اعتراف بالدولة الجديدة.

الدولة الجديدة تطورت بسرعة هائلة وغير متوقعة. فهي تشكلت بداية من 13 ولاية وأخذت تتوسع في مجالها الجغرافي وضمن آليات إطار ديمقراطي مفتوح على كل الاحتمالات. حتى مطلع القرن التاسع عشر لم تكن الولايات المتحدة تشكل تلك القوة السياسية الكبرى على رغم أنها دخلت في سباق مع بريطانيا وأوروبا في التقدم الصناعي. وهيغل حين وضع مخططه التاريخي لعالم تطور الأفكار من الشرق (الصين) إلى الغرب (بروسيا) في عشرينات القرن التاسع عشر أخرج أميركا من مشروعه بذريعة أن شخصيتها التاريخية لم تتبلور بعد وهي لاتزال في طور التشكل.

أخرج هيغل أميركا من مخططه التاريخي ولكنه لم يخرجها من التاريخ إذ توقع في محاضراته الفلسفية للطلبة أن يلعب الدين دوره الخاص في تكوين شخصية أميركا في اعتبار أنها تأسست على قواعد جديدة (مهاجرون) لا تتوافق في نمطيتها التقليدية مع القارة الأم (أوروبا). وحين قام توكفيل بزيارته إلى أميركا في العام 1831 عاد إلى فرنسا بعد أربع سنوات ليكتب ملاحظات مبكرة بشأن اختلاف خصوصية الديمقراطية في الولايات المتحدة عن تلك الموجودة في أوروبا. وبناء على الملاحظات انتهى توكفيل إلى مقاربات محددة بشأن فكرة الحرية الشخصية في أميركا واحتمالاتها المفتوحة على مستقبل لا حدود له في تطوره الذاتي، متوقعاً في الآن حصول تضاربات بين فكرة الحرية ومسألة المساواة قد تؤدي إلى تصادمات أهلية.

الحرب الأهلية وقعت في ستينات القرن التاسع عشر (1861 – 1865) وهي أدت بعد معارك دموية مرعبة إلى انتصار فريق «الوحدة» على الانفصال وتأسيس جيش ضخم وإطلاق الرقيق من الأسر القانوني والبدء في التوسع الداخلي في إطار المجال السياسي الجغرافي للدولة الجديدة. وخلال فترة تقل عن أربعة عقود من توقف الحرب الأهلية تحولت الولايات المتحدة منذ العام 1870 إلى دولة كبرى أخذت تمتد حيويتها الاقتصادية بعد العام 1890 في محيطها الجغرافي الإقليمي ما جعلها تحتل الموقع الأول في التجارة الدولية والإنتاج الصناعي في مطلع القرن العشرين.

أميركا حققت مفاجأة سياسية في القرن الثامن عشر حين نجحت في انتزاع استقلالها وإعلان ثورتها ودستورها البراغماتي البسيط في فقراته ومواده مستبقة بذلك الثورة الفرنسية ودستورها الجمهوري بعقد من الزمن. وهي عادت وحققت مفاجأة ثانية حين طرح رئيسها وودرو ويلسون في العام 1912 مسودة أفكار تنادي بحق الشعوب في تقرير مصيرها الأمر الذي وضع أوروبا (الاستعمار القديم) في موقع الدفاع عن المصالح في مواجهة نموذج دولي صاعد. وجاءت المفاجأة الثالثة بعد افتتاح الولايات المتحدة قناة باناما في العام 1914 مدشنة بذلك خط عبور مائي ينافس قناة السويس (افتتحت رسمياً في العام 1869) يربط الأطلسي بالمحيط الباسيفيكي (الشرق).

دخلت أميركا الحرب العالمية الأولى في العام 1917 وتحولت بعدها إلى شريك دولي يتقاسم النفوذ مع أوروبا في إطار هيئة عصبة الأمم وينافسها في انتاجه البضاعي وشبكة التجارة في المحيطات. وشكل هذا التحول نقطة افتراق تاريخية في موازين القوى الدولية حين أصبحت الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم في وقت كانت روسيا تحاول ترتيب خريطتها الداخلية (الاتحاد السوفياتي) وألمانيا بدأت تستفيق من صدمة الهزيمة ما أعطى فرصة لصعود النازية إلى السلطة.

انتقال مركز القوة من مكان إلى آخر مسألة تاريخية وهي حصلت في مختلف العصور. حتى على المستوى الفكري أشار هيغل مراراً إلى أن حركة الأفكار تتطور ذاتياً وتتقدم وترتقي من الأدنى إلى الأعلى، وهي أيضا تتنقل من محطة إلى أخرى ومن مكان إلى آخر مترافقة مع تحولات أو انكسارات أو متغيرات تعطي قوة دفع للنخبة حتى تقوم بوظيفتها التاريخية.

أميركا في فترة قياسية زمنية حققت قفزات غير متوقعة. فهي منذ اكتشافها في العام 1492 إلى استقلالها التام والنهائي في العام 1783 نجحت خلال 291 سنة في تكوين نواة صلبة لتأسيس دولة واعدة. وهي منذ اعتراف بريطانيا رسمياً باستقلالها وصولاً إلى نهاية الحرب الأهلية نجحت في اجتياز اخطر امتحان لها بعد 72 سنة من تحولها إلى دولة مستقلة. وهي استطاعت في أقل من 54 سنة من دخول المعترك السياسي والانتقال إلى شريك دولي منافس في عصبة الأمم.

هذه القفزات السياسية والاقتصادية والعسكرية لم تتأسس على أوهام وإنما على وقائع ومعادلات وأرقام وخرائط جغرافية ومواقع نفوذ. وكل هذا أعطى دفعة معنوية باتجاه بدء الدولة الجديدة (الصاعدة) في إنتاج نخبها الخاصة والذهاب فكرياً نحو الاستقلال الفلسفي عن القارة الأم والدخول في سياق التنافس وتصدير «أيديولوجيتها» و«نموذجها» المغاير إلى أوروبا والعالم. آنذاك كان تشارلز ساندرز بيرس (1839 - 1914) أنجز صوغ فلسفته التي عرفت بـ «البراغماتية» وأيضاً كان زميله الأميركي ويليام جيمس (1842 - 1910) قد أصدر كتابه عن «البراغماتية» في العام 1907. وتأسيس بيرس/ جيمس لتلك الفلسفة الجديدة جاء ليتوافق مع شخصية الدولة الصاعدة وهويتها إذ تطابقت مع نمو تلك النزعة السياسية البراغماتية التي أخذت تتشكل في إطارات الديمقراطية الجديدة وتميزت في خصوصيتها وحيويتها ومرونتها وفي قابليتها للتكيف مع مبادئ المعنى والحقيقة عن تلك الفلسفة الأوروبية.

مبادئ «البراغماتية» أخذت تتوالد مع الدولة الجديدة التي أسست آليات خاصة للتقدم السريع تجاوزت أوروبا في فترة زمنية قياسية لا تتعدى 136 سنة، وهي في هذا المضمار تعتبر الفلسفة الجديدة روح السياسة الأميركية وتشكلها التاريخي المختلف عن نمط أوروبا ومنظومتها المعرفية. وحين انتقلت الولايات المتحدة من مجالها الجغرافي إلى مداها الدولي كانت «البراغماتية» في إطارها الفلسفي سبقت الدولة في الانتقال وعبور الأطلسي بالاتجاه المعاكس الذي سار عليه وسلكه كولومبس برحلة البحث عن طريق جديد للهند قبل 422 سنة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2877 - الخميس 22 يوليو 2010م الموافق 09 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 3:02 ص

      اميركا موعد مع الجنة

      شكرا استاذ وليد على هذه السلسة ... لا تحرمنا من جديدك. و كما قلت لك سابقا، من الأفضل جمع هذه السلسلة في كتاب بعد تنقيحها فهي حقا تستحق النشر.

    • زائر 1 | 11:26 م

      مقال جميل..

      ننتظر بقية المقال بشوق...

اقرأ ايضاً