العدد 2884 - الخميس 29 يوليو 2010م الموافق 16 شعبان 1431هـ

أوروبا الجديدة في القرن العشرين

نشوء النخبة الأوروبية (24)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

دخلت أوروبا في القرن العشرين مضمار مسارات من السباقات على مختلف الحقول الفنية والفكرية والفلسفية والعلمية والتكنولوجية والطبية والسياسية. فهذه القارة الصغيرة والغنية في الطاقات والإبداعات شهدت خلال العقود التي أعقبت تراجعها عن قيادة العالم لمصلحة الولايات المتحدة حوادث كبرى وتيارات إيديولوجية مهمة.

التراجع الدولي عدل موقع القارة وأعاد تشكيل شخصيتها التاريخية في ضوء تطور المتغيرات البنيوية وأسهم في تكوين توجهات أكثر عقلانية في تعاملها الداخلي وخصوصاً بعد أن دفعت الموجة الصناعية الثالثة (1870-1914) الدول الأوروبية إلى حرب عالمية كبرى دمرت المدن وجرفت ملايين الضحايا بسبب المجاعات والتشريد واستخدام أسلحة الدمار الشامل. والعقلانية التي تمثلت في تحسين أنظمة الرعاية الصحية والتربوية والاجتماعية اتسع نطاقها لتشمل المرأة التي أخذت تدخل المعترك السياسي بعد أن حققت طموحها وتحولت إلى شريك الرجل في الإنتاج والإدارة.

المسألة لم تكن سهلة وسريعة فهي دخلت في منعطفات ومطبات ولكنها كانت تتقدم إلى الأمام بعد كل كبوة. فالتطور العام أخذ يفرض شروطه على «النخبة» التي دخلت في قنوات حددت أدوات عصرية قانونية في تعاملها مع المرأة والمساواة في العمل والتصويت والترشيح وما تقتضيه من تعديلات في الحياة المشتركة. وهذه التعديلات حصلت بعد أن تدخلت «النخبة» على مختلف تنوعها الإيديولوجي وتعارض منابتها الاجتماعية في صوغ توجهات تتناسب مع درجة التطور. والتدخل السلمي في مهمة تعديل الأنظمة تأسس على قاعدة تحولات طرأت على خطط تقسيم العمل الاجتماعي وتفرع مساراته إلى اختصاصات ما أدى إلى تدوير التعارض بين الذهني واليدوي وتصويب الارتباط العضوي بين الدولة والمجتمع من خلال ضبط تداول السلطة في الانتخابات وفصل صلاحيات السلطات التشريعية والتنفيذية واستقلال القضاء واحترام خصوصية الفرد وحقوق الإنسان وقبول الآخر بغض النظر عن لونه ودينه وثقافته.

التعديلات العامة التي طرأت على أوروبا في القرن العشرين لم تكن سهلة لأنها جاءت في سياق التطور العمراني وتجارب قاسية واختيارات غير منسجمة. والنخبة المحكومة بشروط التطور لعبت دورها في كل حقبة في وضع قنوات قانونية للمصالحة والتسوية في ضوء ما تقتضيه نسبة التقدم وحاجة السوق ومتطلبات المجتمع.

هذا الاستقلال الذي تحقق من خلال الصراع ضد الكنيسة أدى إلى إضعاف دور الاكليروس (رجال الدين) وتهميش سلطة الدين وإعادة إنتاج مرجعيات تقرأ التاريخ ونشوء الكون وقوانين الحياة والأخلاق من مناهج متعارضة في آلياتها العقلانية والواقعية والعلمية.

ساهم التطور المتوازي لاحقاً في تشكيل مصادر متنوعة للمعرفة أعطى دفعة حيوية لنمو «النخبة» وتحولها إلى قوة مهيمنة من خلال تركيز نشاطها في إطار الدولة. فالدولة في تكوينها التاريخي الجديد صادرت صلاحيات الكنيسة وتحولت إلى مصدر وحيد للقوة البديلة اعتماداً على الضريبة (الدخل) والمؤسسات (فصل السلطات) والقضاء والدفاع (الجيش) والدستور وما يتفرع عنه من تشكيلات تضبط إيقاع المجتمع وتمنع خروجه على القانون الوضعي من جانب وتعطيه فرصة دورية للانتخاب والاختيار والتعديل من جانب آخر.

النخبة أصبحت تحتكر السلطة وهي في مجموعها تشكلت من روافد وفروع كسرت صلاحيات الكنيسة وصادرت موقع الأسر الأرستقراطية (ملاك الأرض) التي كانت سابقاً تشكل المصدر الأساس في تخليق الشرائح المنتجة أو المتعلمة التي تعتمد عليها السلطات المركزية أو الفرعية في إدارة المؤسسات بالتعاون مع شبكة العلاقات التابعة للاكليروس.

تنوع اختصاصات النخبة الأوروبية المعاصرة جاء تلبيةً لتطور الدولة وتعدد مصادرها ووظائفها. فالدولة التي أخذت موقع الكنيسة اعتمدت على نمو تلك النخبة الجديدة التي تخرجت من المدارس والجامعات والمعاهد والأكاديميات المهنية والعسكرية ما أعطى فرصة لنمو دورها السياسي من خلال قنوات دستورية شرعية ملكية أو جمهورية حزبية. فالحزب الحديث المعطوف على الاتحادات الحرفية والنقابات المهنية والجمعيات العمالية واللوبيات وهيئات الاحتكار الصناعية والمالية والتجارية والزراعية أصبح يلعب الدور المحرك لمختلف قطاعات المجتمع وقواه المنتجة بوصفه يشكل الوعاء الإيديولوجي للنخبة وتصوراتها الآنية والمستقبلية. والنخبة الطامحة لقيادة الإدارة المركزية للدولة أصبحت من خلال مرجعيتها البيروقراطية والتكنوقراطية تمثل ذلك الثقل الجاذب للأحزاب لكونها قادرة على ترسيم خريطة طريق للوصول إلى السلطة التشريعية (البرلمان) وكيفية استخدامها لتلعب دورها في التأثير على السلطة التنفيذية (الحكومة) وفرض برامجها وتصوراتها على الوزارات حتى تأخذ بها وتنقلها من الإطار النظري إلى الحياة العملية وبالتراضي بين الدولة والمجتمع.

نظام التداول (نعم ولا في آن) الذي نجحت النخبة الأوروبية في التوافق العقلاني عليه أنتج سلطات مرنة قادرة على التكيف وتحمل التجاذب لكونه شكل تلك البؤر المستقلة والمندمجة في معطى تاريخي تصالحي بين الدولة والمجتمع ما ساعد لاحقاً على احتواء العنف واحتكار المؤسسة للسلاح وضبط التوازن بين شرائح القطاعات المنتجة وتطوير فكرة «المواطن» بوصفه الهوية الجديدة والبديلة عن الموروثات والتقسيمات القديمة (القبيلة أو الطائفة أو المذهب أو العرق).

إعادة تعريف الهوية لعب دوره في تطوير علاقات المجتمع ونقلها من دائرة المنظومات الأهلية الضيقة إلى طور مدني متقدم دفع الإنسان – الفرد للعبور إلى منظومة «الحداثة» وما تعنيه من مؤهلات ذاتية يمكن الاعتماد عليها لتحديد الاختيارات ونمط الحياة والتعامل مع الآخر المختلف.

تحديث الهوية ساعد على التوافق باتجاه تحديد الجامع المشترك لمرجعية المواطن الدستورية ولكنه فشل في إبطال دور «الخصوصية» والتنافس على الأفضلية. فالحلقات المتوارثة عن النمط التقليدي القديم في تحديد الولاء وتسمية الانتماء استمرت تمانع في تقبل المفاهيم الجديدة التي بدأت تدفع القارة للعبور نحو عصر حديث في معرفته وعمرانه.

حقبة انتقالية

كان لابد من فترة انتقالية فاصلة تطلبت الكثير من التضحيات لاجتيازها حتى تتكامل صورة الهوية المستحدثة مع واقع يتعرض دائماً للتغيير.

الاستجابة لم تكن دفعة واحدة، لأن التقدم الذهني كان نتاج تحولات أخذت ترسم خريطة طريق في الواقع متضمنة مجموعة متحولات بدأت تطرأ على المجتمعات الأوروبية بسبب تدخل مجموعة عوامل موضوعية تؤثر على آليات القطاعات المنتجة وأسواق العمل والفروع الاقتصادية التي ترفد خزينة الدولة بالمال (الضريبة) أو تحرك آليات السلطة وخياراتها السياسية وقراراتها الحاسمة.

أوروبا بعد الحرب الأولى دخلت في سياقات تاريخية وهي لم يكن بإمكانها إلا التجاوب مع شروطها والتزاماتها بدءاً من السوق وآلياتها الاقتصادية التي تطورت من الإنتاج البضاعي (السلع) إلى سلعة النقد (البورصة) وشركات المال (المصارف) ونمو ظاهرة الشراكة بين المؤسسات للاحتكار والتحكم بمصادر الدخل وتلك المنظومات المتمردة أو التشكيلات غير القادرة على التكيف وصولاً إلى السباق على التسلح والإنفاق على القطاع العسكري لحماية المصالح أو الدفاع عن الموقع والدور في ظل منافسة دولية أخذت تتسارع في تخطي الحدود القومية.

آنذاك شهدت أوروبا طفرة نوعية في كل المجالات وأنجزت في أقل من عقود أكثر ما حققته من تقدم خلال خمسة قرون. فانتقال القارة من عصر السفينة (الملاحة البحرية) إلى عصر الطائرة (الملاحة الجوية) ألهب مخيلة العقل في لحظة تحالفه مع مخيلة العلم. وتعاضد المخيلتين في حقبة تراجع فيها دور الكنيسة السياسي لمصلحة تعزيز موقع الدولة أنتج «نخبة» طموحة في خياراتها الكبرى. والنخبة التي انتقلت من موقع المفكر (المصلح) إلى موقع الحاكم ساهمت في تسريع خطوات النمو لأنها أصبحت في مكان يعطيها صلاحيات تحويل «الفكرة» إلى مشروع ينفذ على أرض الواقع. وبحكم اختلاف شرائح النخبة وتنوعها الإيديولوجي تعرفت القارة على حالات متعارضة في تصوراتها من الشرق «السوفياتي» إلى الغرب في ألوانه المتعاكسة وأمزجته القومية ورؤيته للعالم والآخر. ولهذه الأسباب تعرضت القارة في قرنها العشرين إلى تجارب مؤلمة وامتحانات قاسية سواء في أزمة النقد العالمية (إفلاس البورصات في العام 1932) أو اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939-1945) التي جاءت بمثابة ملحق للأولى بأسلوب مختلف إيديولوجياً (النازية والفاشية) ولكنه أكثر عنفاً في وسائله وقوته التدميرية.

الحرب الثانية كانت أسوأ من الأولى في تفاعلاتها البنيوية والدولية. فالجانب الأول فرض على أوروبا القبول بالتدخل الأميركي والاندماج في صورة القارة الأطلسية. والجانب الثاني فرض عليها القبول بميزان القوى الجديد الذي أعاد رسم الخريطة السياسية للقارة وتوزيعها إلى معسكرين ودخولها في حقبة «الحرب الباردة».

الحرب الباردة كانت ثالثة على أوروبا، فهي من جانب تأسست على نتائج مؤتمر يالطا (1945) الذي عقد في شبه جزيرة كريما وضم بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي واتفق على تقسيم ألمانيا (غربية وشرقية وحائط برلين) ورسم الحدود الروسية – البولندية، وهي من جانب آخر ألغت عصبة الأمم وشرعت في تأسيس منظمة الأمم المتحدة (عقدت اجتماعها التمهيدي في سان فرانسيسكو) واختيار نيويورك مقراً لها.

«الحرب الباردة» أنهت عملياً ذاك الموقع التاريخي الخاص لدور أوروبا في صنع العالم الجديد (أميركا) ولكنها لم تتجاوز إطارها الجغرافي الذي أخذ ينشط في سياق اتحادي بدأ يدفع العلاقات الجوارية من حدودها القومية إلى سوقها القارية.

هذه الحقبة الكبرى أنتجت الكثير من التحولات تجاوزت في مجموعها ما حققته القارة منذ لحظة الانتباه إلى اكتشاف أميركا ومعرفة أن الأرض تدور حول الشمس. فما حصل في عقود القرن العشرين من اكتشافات واختراعات أدخل القارة بسرعة في ثورة تكنولوجية نقلت الصناعة من الآلة إلى الكومبيوتر ما كان له أثره في تحقيق طفرة انعكست على حياة الإنسان ونمط معاشه ودرجة استهلاكه أو تكيفه مع عالم الصورة والفضاء.

الحقبة هذه تحتاج إلى قراءة خاصة وهي أيضا تتجاوز فكرة الكتاب عن «نشوء النخبة». فالنشوء تاريخياً حصل وأوروبا تخطت المرحلة بأشواط زمنية في فترة نمو الرأسمالية العالمية وتطور الأسواق الحرة والشركات المتعددة الجنسية ومؤسسات المال الدولية وغيرها من قفزات اقتصادية نوعية ترافقت مع انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفياتي وإعلان نهاية «الحرب الباردة» وبدء التعامل بالنقد الأوروبي (اليورو) ونمو فكرة الاتحاد القاري التي تطمح إلى اختراق الحدود وتشكيل ولايات ما فوق قومية تحاكي نموذج أميركا من منظار تاريخي مختلف في أنماط علاقاته وموروثاته.

الطفرة الأوروبية في القرن العشرين أظهرت أن التقدم الذي حققته القارة منذ القرن الخامس عشر جاء في النهاية في سياق التطور التاريخي وحقق خطوات بدأت خاصة ومستقلة وانتهت عامة ودولية. فالتطور لم يعد سراً. وانكشاف أسرار التقدم أعطى قوة لنمو البشرية في سياق دولي يتحول بسرعة ومن دون حاجة لتلك القراءات الفلسفية المنهجية الصارمة التي ابتكرتها «النخبة» في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (كانط، هيغل، وماركس). فالنخبة الأوروبية التي كافحت في وضع النظريات والفرضيات ورسم الخطوط وترسيم محطات للتطور التاريخي بدأت بتجاوز مفعولها الذهني بعد أن فشلت في توقعاتها ورهاناتها وتطلعاتها.

التقدم المتسارع وما أنتجه من تعديلات على الواقع الإنساني للبشر والقارة الأوروبية فاق توقعات النخبة وساهم بدوره في تحطيم الأصنام الإيديولوجية التي كادت أن تتحول إلى كنائس تمارس وظيفة «الدين» الأرضي في التحكم بعقول الناس. ولهذه العوامل اندفعت النخبة الأوروبية في القرن العشرين إلى كسر تلك المعسكرات الإيديولوجية التي حددت شروط الوعي وربطته بآليات منهجية صارمة في قراءة التطور البشري، واتجهت نحو تبني سلوكيات أو قراءات أكثر مرونة وإدراكا للتعقيدات ما جعلها تندفع إلى تجاوز قيود الالتزام بتصورات نهائية للكون كما فعل هيغل في مخططه التاريخي وقلده ماركس في تشييد هيكل نهائي للمستقبل لم ينل نصيبه من التوفيق بعد تجربة طويلة.

فكر النخبة الأوروبية في النصف الثاني من القرن العشرين يشبه كثيراً طبيعة العصر وظروف التطور وشروطه وقوانينه وقنواته، فهو أكثر حرية ومرونة ويتجنب السقوط في الآليات الإيديولوجية المؤطرة فلسفياً التي تأسر المخيلة في جانبيها العقلي والعلمي

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2884 - الخميس 29 يوليو 2010م الموافق 16 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 3:26 ص

      الاعجاب بشرق اسيا

      ينبغي علينا الابتعاد عن الاعجاب باوربا وامريكا، والاتجاه للهند ولشرق اسيا مثل اليابان، سنغافورة، ماليزيا، هونج كونج، تايوان والصين اخيرا. الحديث كثيرا عن اوربا وامريكا جعلنا نهابهم اكثر من حجمهم الواقعي. التطور الصناعي والاقتصادي في شرق اسيا والهند تفوق على الغرب في جوانب كثيرة. فبعد ان علمت بريطانيا اليابان علوم الهندسة هاهي بريطانيا تشتري قطارات متطورة جدا لان بريطانيا لاتملك المعرفة الكافية لصنعها! وهاهي الهند تنتج أرخص سيارة وحاسوب ! اخلاق الاسيوين افضل، وهم اكثر نظافة وحضارة

اقرأ ايضاً