العدد 29 - الجمعة 04 أكتوبر 2002م الموافق 27 رجب 1423هـ

عناصر أفرقة العالم أقوى من عوامل أمركته

ماذا تساوي العولمة: الأمركة أم الأفرقة؟

عصام فاهم العامري comments [at] alwasatnews.com

.

يخطئ من يعتقد ان العولمة تتجه إلى امركة العالم. صحيح أن الحجج والوقائع التي اوردت تفيد بما يرسخ الاعتقاد بان الامركة والعولمة تكاد تضيق الحدود بينهما، على اعتبار أن الكثير من خصائص الحياة الاميركية صارت سائدة في العالم، ابتداء من الفردانية واقتصاد السوق والديمقراطية ومرورا بانتشار انواع المستهلكات التي تحفل بها الحياة الاميركية مثل المشروبات الغازية وبنطلونات الجينز والهمبرغر والثقافة الشعبية (البوب) وموسيقى الراب، وانتهاء بالتأثير الذي تمثله صناعة السينما والفيديو والتلفزيون وهيمنتها على المستوى العالمي ما ادى ليس فقط التعاطي مع خصائص الحياة الاميركية، وانما ايضا انتشار اللغة الانجليزية. فهذا الامر جعل الالمان على سبيل المثال يدعون لاقامة «حائط برلين» بهدف المحافظة على لغتهم، ودفع الفرنسيون إلى اتخاذ مجموعة من القوانين والاجراءات لمواجهة التحدي الذي بات يتهددهم بفعل الغزو اللغوي الاميركي.

كما ان التاريخ طالما اكد لنا ان بعض خصائص الحضارة المهيمنة وبالتالي الدول المهيمنة تسود في حقبة معينة، ومؤكد ان الصدارة الاميركية بشموليتها تعزز الاتجاه الاميركي في العولمة، وبالتالي تجعل الكثيرين في العالم يبدون مسحورين بنموذج الحياة الاميركية ولكن كم عدد هؤلاء؟. البروفسور صموئيل هنتغتون يعترف ان عددا من تأسرهم الامركة لا يمثلون سوى 1 من تعداد العالم. فضلا عن ذلك شهد مسيرة التاريخ انتقال ازياء وموضات واكلات وحتى مفردات لغوية معينة من مجتمع إلى آخر، ومن حضارة إلى أخرى، ومن شعب إلى آخر من دون أن يكون لذلك تأثير على القيم والمقومات الثقافية للحضارة المستقبلة أو الشعب الذي يتقبل ذلك. كما ان عمومية الاهتمام الانساني بالحب والجنس والعنف والثروة والغموض التي تحفل بها صناعة السينما في هوليوود، وقدرة الشركات المسيطرة على هذه الصناعة من استغلال تلك الاهتمامات لتحقيق الربح. لا يقدم الدليل الذي يدعم الافتراض القائل إن ظهور وسائل الاتصال الكونية وانتشارها يؤدي إلى تحول في الاتجاهات والافكار بشكل حاسم بما يعزز الامركة في العالم. وأكثر من ذلك أن الصور المرئية في أنحاء العالم تؤدي إلى تصورات عكسية فما يعتبر سيطرة اعلامية يعتبر من منظور معاكس استعمارا ثقافيا (غزو اعلامي) وهذا ما شجع انتشار صناعة اعلام محلية واقليمية لخدمة الأذواق المتمايزة الخاصة بكل مجتمع من المجتمعات الانسانية.

وفيما يتعلق بهيمنة اللغة الانجليزية واتساع نطاقها، علينا أن ننظر اليها بحذر. فالاحصاءات تقول ان نسبة عدد السكان الذين يتكلمون اللغات الاوروبية الرئيسية الخمس (الانجليزية، الفرنسية، الالمانية، البرتغالية، والاسبانية) انخفضت من 24,1 في 1958 إلى: 208 في 1992 وأن 15,2 من سكان العالم يتكلمون الانجليزية في تسعينات القرن الماضي ومع اعتبار الانجليزية لغة الاتصال الأشمل فأن ذلك لايجعلها مصدرا للهوية أو دليلا على الامركة. فرجل الاعمال الصيني الذي يتكلم الانجليزية لا يعني انه تغرب أو انتمى للقيم الانكلوسكسونية. يضاف إلى ذلك ان الذين يتكلمون الانجليزية في انحاء العالم، اخذوا يتكلمون إنجليزيات مختلفة، فقد صارت اللغة الانجليزية تطوعا محليا وتأخذ صفات خاصة تميزها عن الانجليزية البريطانية أو الاميركية. فالانجليزية الهندية باتت تأخذ سماتها الخاصة، فهي «تهند» أو تطوع محليا فتنمو الفوارق بين الناطقين بالانجليزية بألسنة مختلفة حتى يبلغ ذلك مدى بعيدا فتصبح إنجليزيات غير مفهومة لبعضها الأخر. كما إن الضغوط «الاجتماعية والسياسية المتزايدة تؤدي إلى استخدام اللغات المحلية في الكثير من البلدان التي كانت تستخدم الانجليزية، فالاوردو تستأصل الانجليزية كلغة للحكومة والتعليم في باكستان وتحل محلها، ولغات اعلام محلية تحل محل الاعلام الانجليزية في الهند.

وبذلك يمكن للمرء أن يخلص إلى النتيجة الرئيسية الا وهي: ان العولمة لا تسير بالعالم نحو حضارة كونية واحدة بأي معنى من المعاني، ولا تتجه به إلى الامركة، بل ان العالم يسير نحو التعدد الحضاري والتنوع الثقافي أكثر، وان ميزان القوى بين الحضارات يتغير. فالغرب يتدهور في تأثيره النسبي، بينما الحضارات غير الغربية عموما تعيد تأكيد ذاتها وبشكل خاص الحضارات الآسيوية. كما ان مزاعم اميركا في العولمة تضع الشعوب المختلفة وبشكل متزايد تتمسك بهوياتها الثقافية وعلى نحو متعصب في معظم الاحيان وتاليا فإن الاتجاه نحو العولمة يرادفه اتجاه متصاعد نحو النزعة الاقليمية وبشكل أكبر نحو المحلية. وهذا ما يؤدي إلى نزعات الانفصال والانشطار داخل الدول كنتيجة لتصاعد النزعات المحلية والهويات العرقية. اما فيما يتعلق باتساع الديمقراطية واقتصاد السوق، فمع ان ما يحدث بالنسبة لاقتصاد السوق وما يرتبط به من خصخصة تعزز الراسمالة المتوحشة، فانه في الواقع سيجعل من العولمة تتجه إلى تعميم الواقع الافريقي على العالم. فاذا كانت القارة السوداء ارتبطت في الاذهان بالجوع والديكتاتورية والصراعات العرقية والقبائلية، فان ملامح المشهد الراهن للعولمة وما ينبئ به من تطورات مستقبلية يشير إلى ان العالم مقبل على الفقر والجوع والديكتاتورية والصراعات العرقية.

وهذا ما حدا باستاذ الاقتصاد في جامعة اتاو في كندا ميشيل تشوسودوفيسكي يتحدث في كتابه الصادر العام 1998 تحت عنوان «عولمة الفقر» لا فقط عن اتساع جغرافية الفقر من افريقيا وجنوب اسيا واجزاء من اميركا اللاتينية ليصيب النمور الآسيوية واوروبا الشرقية والبلقان وروسيا فحسب وانما ايضا الغرب نفسه بما في ذلك اميركا ذاتها، ليقول ان تحطم دولة الرعاية لم يؤد بالفقر في مناطق الفيتو والاكواخ في المدن الاميركية والاوروبية أنْ يتزايد فقط وانما ايضا ليأخذ شكلا شبيها في الكثير من نواحيه لما هو سائد في افريقيا جنوب الصحراء. ومع تزايد الفقر وارتفاع مستويات البطالة تتصاعد النزاعات المدنية والتشققات الاجتماعية والغليان. وما تشهده المجتمعات الديمقراطية في اللحظة الراهنة بسبب تزاوج العولمة مع التكنولوجيا يعيد تشكيل هذه المجتمعات ويخلق التقلصات والتوترات التي تقود إلى كل الاحتمالات، وفي مقدمة هذه الاحتمالات التحولات المضادة للديمقراطية عبر تطور نزعة الشمولية العرقية والدكتاتورية الفئوية أو حتى الدكتاتورية الشعبية في ظل الاوضاع العالمية الراهنة التي يمكن ان تدفن الميول الديمقراطية.

ومن الطبيعي والاجواء كذلك ان تتعزز الاتجاهات المضادة للديمقراطية لو باسوب غير مباشر فالصحافي الاميركي وليم خريدر يصف اللحظة الراهنة التي تعيشها المجتمعات الغربية بانه «ظرف يسبق المرحلة الفاشية». ويضيف اذ أن كل سياسي يوحي بشيء من الصدقية حينما يعد شعبه بأنه سيحقق له سبل الحصول على لقمة العيش. وسيفوز فوزا باهرا خصوصا عندما يقدم وعده هذا وقد زخرفه بنبرات عنصرية الفحوى»، وهو في هذا القول محق تماما، فالنزعة إلى تأسيس النظم الاستبدادية تنتشر كرد فعل على تطبيق الزائد عن الحاجة لليبرالية المحدثة في ارجاء المعمورة وما سببته من فزع من اللا مساواة التي احدثتها الرأسمالية القاتلة التي دمرت التماسك الاجتماعي وطحنت الغالبية العظمي من السكان.

وهذا الانطباع يتجلى بتصاعد اسهم السياسيين اصحاب النزعات العنصرية والدعوات المعادية للاجانب، والواعدين بتدخل الدولة المنظم اقتصاديا واجتماعيا من اجل تأمين الرفاه الاجتماعي. فالنرعة إلى تأسيس النظم الاستبدادية تنتشر كرد فعل على التطبيق الزائد عن الحاجة لليبرالية الجديدة في ارجاء المعمورة وماسببته من فزع من اللامساواة التي احدثتها الرأسمالية القاتلة التي دمرت التماسك الاجتماعي وطحنت الغالبة العظمي من السكان. وهذا الانطباع يتجلى بتصاعد اسهم السياسيين اصحاب النزعات العنصرية والدعوات المعادية للاجانب في معظم الدول الغربية التي تمثل منبت الديمقراطية الحديثة. فما بالنا بالدول الاخرى؟

ان الشيء المؤكد هو ان العولمة تسير بتضاد مع الامركة، وان الافرقة صارت المرادف لها. وان الافرقة بما تثيره من تداعيات صارت تصيب بعدواها الدول الغربية نفسها. والنماذج عديدة: التطهير العرقي اضحت معالمه الاولى بارزة منذ الآن في بعض الولايات ونطاقه سيتسع في السنوات المقبلة. عنف السلطة والحد من الحريات الفردية ليسا مرتبطين في جوهرهما بهجمات سبتمبر/ أيلول الماضي بما في ذلك توسيع صلاحيات الحكومة المركزية في اميركا واجهزتها الامنية وانما هو تطور لمسيرة تحولات سابقة. عنف السلطة شهدناه قبل ضربة سبتمبر ويكفي المقارنة ما بين مواجهة السلطات الديمقراطية للاحتجاجات في قمة سياتل ليدرك المرء كيف ان عنف السلطة كان آخذا بالتنامي حتى قبل الهجمات الارهابية على اميركا، وبالتأكيد فإن الهجمات عمقت من هذه التحولات وعززت الاتجاه نحو اقامة الامبراطورية وتتويج الرئيس الاميركي فيها قيصرا

العدد 29 - الجمعة 04 أكتوبر 2002م الموافق 27 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً