العدد 2931 - الثلثاء 14 سبتمبر 2010م الموافق 05 شوال 1431هـ

الإصلاحات التركية... والمصالحة بين الدولة والمجتمع

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تصويت 58 في المئة من الأتراك على التعديلات الدستورية التي تقدم بها حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي الحاكم منذ العام 2002 تعتبر سياسياً خطوة تاريخية باتجاه تعزيز المصالحة بين الدولة والمجتمع. فالإصلاحات التي اشتملت على 26 مادة ومسألة يمكن لها أن تحد من تسلط المجلس العسكري على القوانين وتفتح الباب أمام نمو توجهات معتدلة تضمن التوازن بين سلطة علمانية انقلبت على تاريخ الدولة ومجتمع مسلم لعب دوراً في تشكيل مؤسسات كان لها دورها في تكوين هيئة الجماعة الأهلية وشخصية الشعب وعاداته وتقاليده.

التصويت الذي جرى في 12 سبتمبر/ أيلول 2010 يرجح أن يحتل موقعه في سلسلة محطات تاريخية عبرتها الدولة التركية (العلمانية) منذ انقلاب جمعية «الاتحاد والترقي» على السلطنة في العام 1908. فهذه الدولة العثمانية (السلطانية – الجمهورية) دخلت منذ ذلك التاريخ عهد الانتقال من طور المرحلة الإسلامية (السلطانية) إلى طور افتراضي يتمثل في المرحلة العلمانية (الجمهورية) ما أدى إلى حال من الانفصام بين سلطة فوقية تدير الدولة وفق تصورات جاهزة ومنجزة وبين مجتمع يتحرك تحتياً في إطار قنوات خاصة ومستقلة لا تنسجم مع رؤية نخبة عسكرية انقلابية.

هذا الانفصام التاريخي بين الدولة والمجتمع الذي كانت بداياته في مطلع القرن الماضي تطور زمنياً ليتحول مع الأيام إلى أزمة علاقة بين مجتمع مسلم وسلطة علمانية قادها كمال أتاتورك عنوة باتجاه يخالف طبيعة الجماعة الأهلية وتكوينها الثقافي وتراثها الذي تراكم خلال ثمانية قرون من التجاذبات والتصادمات. وبسبب نمو الانفصام بين علمانية السلطة وهوية المجتمع اندفعت النخبة العسكرية نحو اعتماد سياسة القبضة الحديد لإعادة تشكيل شخصية الجماعة الأهلية التي تمردت أحياناً على قرارات الدولة وتوجهاتها وخصوصاً حين اتخذت القوة الانقلابية العلمانية سلسلة خطوات متطرفة ضد التقاليد والعادات ومنظومة العلاقات المتوارثة منذ عهود غابرة.

التصادم بين فوقية السلطة العسكرية العلمانية وهوية الجماعة الأهلية أنتج مجموعة أزمات بنيوية دفعت الدولة نحو مزيد من الاستبداد والمجتمع نحو مزيد من الانكفاء والانزواء عن تلبية شروط قوانين لا تنسجم مع الهوية وخصوصيتها التاريخية.

عدم تكيف المجتمع مع دستور الدولة أدى إلى تشكيل مجلس عسكري يتحكم بالدستور وينفذ القرارات عنوة وضد إرادة الناس بذريعة «التقدم» و «التخلف» ما فتح باب الصراع الداخلي بين تيار سلطوي يتسابق مع الزمن لأوربة الجماعة الأهلية وبين قوة ممانعة تاريخية ترفض الانسلاخ عن هوية الإسلام.

هذا التجاذب الذي بدأ في العام 1908 تراكم إلى أن نجح أتاتورك في العام 1924 في اتخاذ سلسلة تدابير علمانية (انقلابية) أخذ بفرضها عنوة على المجتمع ما أدى إلى تكوين هوة كان من الصعب تجسيرها من دون انقلابات عسكرية تطيح بكل تجربة سياسية تحاول الجمع بين هوية الناس ودستور الدولة.

خطوات أتاتورك (النموذج الكمالي) التي حصلت بتشجيع من الدول الأوروبية في عشرينات القرن الماضي جاءت لتلبي حاجة دولية كانت ترفع شعار محاربة الإسلام بذريعة كونه يشكل عقبة تاريخية تمنع التطور الاجتماعي وتحد من التحديث الاقتصادي. فالخطوات الانقلابية كانت قسرية وليست طوعية وجاءت في سياق ضغوط دولية أوروبية تطمح بإضعاف نفوذ «السلطنة» بقصد كسر حصونها الداخلية وفتح سوقها المحلية أمام الشركات ومنتوجاتها والمعاهد وثقافتها.

لعبت الأتاتوركية آنذاك وظيفة تاريخية في تشكيل سلطة فوقية منعزلة عن الجماعة الأهلية ولكنها في الجانب الموازي بدأت تلبي طموحات أوروبية أخذت تكتسح العالم العربي (الإسلامي) عسكرياً في نهاية الحرب العالمية الأولى وقبل سنوات من اندلاع الحرب العالمية الثانية. ونجحت الأتاتوركية في الزمن الفاصل بين حربين عالميتين في ترسيم صلاحيات سلطة دستورية أخذت تضغط على المجتمع للقبول بها من دون إعطاء حق للمجموعات الأهلية والمدنية بالاعتراض على سلبياتها وإضرارها.

بسبب هذه الظروف الاستثنائية والضاغطة تحولت الأتاتوركية إلى نوع من «المقدس» لا يجوز نقده أو مساسه بوصفه حالة «محرمة» يمنع على الناس تعديلها أو تكييفها أو تجاوزها بغض النظر عن المتغيرات ومتطلباتها الزمنية والاجتماعية والإنسانية والثقافية.

فكرة «المقدس» و «المحرم» أعطت شرعية دستورية للانقلابات العسكرية، وعززت القبضة الحديد للأتاتوركية، وتحول المجلس العلماني الحاكم إلى قوة قابضة فوق القانون يتدخل في تسيير شئون الدولة من وراء ستار ايديولوجية قهرية تستبد في حياة الناس وتتحكم في تصنيع هويتهم وتشذيب شخصيتهم وتحديد خياراتهم الدنيوية (ممنوع ارتداء الحجاب، ممنوع الأذان بالعربية، ممنوع الصوم، ممنوع استخدام الحرف العربي، ممنوع التحدث عن التاريخ العثماني، ممنوع التوجه نحو المحيط العربي - الإسلامي).

سياسة الأوربة بالقوة وعلمنة المجتمع عنوة أنتجت ايديولوجية فوقية تجنح نحو تقديس الفرد وتحريم الناس نقده أو إعادة قراءة أفعاله وتقييمها في ضوء التحولات التاريخية والنتائج التي وصلت إليها تركيا خلال عقود من التحطيم أو التشطير بين الماضي العلماني والحاضر التائه بين أوروبية وهمية وإسلام واقعي في تأثيره على رسم شخصية المجتمع.

هذه السياسة الضاغطة دفعت السلطة العلمانية الحاكمة إلى ترتيب اغتيالات ضد القوى المعارضة أو تدبير انقلابات عسكرية حين كانت النخبة الفوقية المختارة تتحسس من وجود حزب أو فئة أو مجموعة تبحث عن خشبة خلاص تنقذ المجتمع من تحكم «المقدس» و «المحرم». وأدت مخاوف السلطة المنعزلة في إطار ايديولوجية منغلقة إلى تشريع انقلابات عسكرية في العام 1960 والعام 1980 وأخيراً 1996 حين قررت قطع الطريق على محاولات نجم الدين أربكان الإصلاحية.

أربكان (الأصولي) هو أستاذ (شيخ) رجب طيب أردوغان وعبدالله غل وكل الجيل المخضرم من حزب «العدالة والتنمية». فهذه الكتلة من المريدين تمردت على شيخها وأستاذها واستقلت عنه حين بدأت تكتشف أنه غير قادر على ملاحقة التطور ولا يستطيع التكيف مع متطلبات المصالحة بين الدولة والمجتمع، وشروطها الموضوعية التي تقضي بالدفع نحو نوع من التوازن لا يقطع مع علمانية سلطة ولا ينزلق باتجاه هوية أصيبت بالتشوه.

تجربة حزب «العدالة والتنمية» تشكل في إطارها التاريخي خطوة زمنية باتجاه تحقيق تلك المصالحة المطلوبة بين دولة يسيطر على أجهزتها ويتحكم بقانونها المجلس العسكري العلماني الحاكم بذريعة الحرص على جمهورية أتاتورك وبين مجتمع مسلم (عثماني الهوية) يحرص على المحافظة على موقع شخصية تاريخية لعبت دورها في تغيير الكثير من المعادلات في المحيط الجغرافي والجوار الأوروبي.

التجربة الإسلامية المعتدلة لاشك ذكية وفريدة، ولكنها في النهاية لا يمكن عزلها عن مسارها الزمني.فهي جاءت بعد أن شاخت الأتاتوركية وفقدت وظيفتها التاريخية واستنفدت أغراضها ولم تعد تشكل تلك الحاجة الأوروبية، كما كان أمرها منذ عشرينات القرن الماضي إلى التسعينات. الظروف تبدلت والحرب الباردة تلاشت وانقسام أوروبا إلى معسكرين انتهى مفعوله والعالم المعاصر لم يعد في موقع يستطيع أن يستخدمه بسهولة للتغطية على القهر والاستبداد وفرض شروط الهوية بالقوة على الجماعة الأهلية.

كل هذه المتغيرات ساعدت على إعطاء دفعة لنمو منطق حزب «العدالة والتنمية» في التسوية التاريخية، والنجاح بداية في الوصول إلى السلطة شرعياً من طريق الانتخابات... ومن ثم الانتقال بهدوء ورويداً نحو تعزيز قوة القانون خلال العمل على إصلاح الدستور من دون حاجة للتقويض حتى لا تلجأ النخبة الحاكمة إلى الانقلاب على المسار التصحيحي للمصالحة بين الدولة والمجتمع.

زمن الانقلابات السهلة والسريعة والبسيطة بدأ يغيب عن المشهد التركي. وهذا الغياب يؤكد أن الأتاتوركية لم تعد قادرة على الاستمرار في الساحة من دون العودة إلى المجتمع للضمانة والحماية. والعودة إلى المجتمع تعني تاريخياً القبول بالمصالحة والتعايش والتساكن مع الإسلام. وهذا ما بدأ يتأسس منذ التصويت على التعديلات الدستورية في 12 سبتمبر الجاري.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2931 - الثلثاء 14 سبتمبر 2010م الموافق 05 شوال 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً