العدد 2940 - الخميس 23 سبتمبر 2010م الموافق 14 شوال 1431هـ

توزيع السلطات أسقط القداسة عن الدولة

جون لوك وفلسفة التسامح (3)

محمد خاتمي comments [at] alwasatnews.com

تتوزع السلطات عند لوك على النحو الآتي:

1 - السلطة التشريعية، وهي الهيئة المخولة سن القوانين والإشراف على حسن تطبيقها.

2 - السلطة التنفيذية، وهي التي تتولى مسئولية القضاء إلى تصديها لإدارة المجتمع. وقد عرفت السلطة القضائية فيما بعد كسلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.

3 - السلطة الاتحادية، وهي التي تعنى بتنظيم علاقات الدولة بالخارج، وإدارة شئون الدولة الخارجية.

وفي توزيع السلطات هذا مصداق إضافي على أن الحكومة برأي لوك ليست على شيء من القداسة أو الغيبية، وإنما يمكن تحديدها في ضوء العقل، وتوجيهها وتقييمها بالموازين والمعايير العقلية.

باعتبار الحكومة أمراً معقولاً، ومفيداً، فإن صلاحها وشرعيتها أمران يقاسان بملاكات عقل الإنسان المصلحي الفكر، والنفعي الطلب، والله الذي وهب الدنيا للناس بصورة مشتركة وهبهم أيضاً العقل ليستخدموه في الانتفاع من الحياة بشكل أفضل.

فعقل لوك يدرك أن: «الأرض ذللت للإنسان لتكون له مقاماً وليستمتع بما فيها من خيرات وثمرات، وليس لإنسان أن يملك الحكومة على الآخرين باسم حق أصيل فيه أو مفارق للطبيعة البشرية».

إن الاعتقاد بأولية الفرد أو الفردية (Individualism)، محور تدور حوله فلسفة لوك وآراء كثير من المفكرين. وعلى سبيل المثال فإن لوك من القائلين بأن حرية الفرد أمر طبيعي تجب المحافظة عليه؛ يقول: «يولد الناس (...) مع الحق بالحرية التامة والحق بالانتفاع، بلا منازع، من جميع ما تنص عليه القوانين الطبيعية، فكل شخص يستوي مع سائر أفراد الإنسان في الدنيا، إذ إن الطبيعة قد منحته الحق لا في أن يحمي ما يملكه، (النفس والحرية والأموال)، من الأخطار والاعتداءات فحسب، بل أن يقف أيضاً بوجه الآخرين عند مخالفتهم القانون وتعديهم على حقوقه الشخصية».

ويقول في موضع آخر: «إن جميع أفراد الإنسان أحرار بالطبع، ومتساوون مستقلون، فلا يمكن حرمان أحد من حقوقه الطبيعية، وإخضاعه من دون رضاه لهيمنة شخص آخر ونفوذه. والطريق الوحيد لأن يحرم الإنسان نفسه من الحرية الطبيعية، هو بأن ينضوي تحت حد المجتمع، وأن يتفق مع آخرين على تشكيل هيئة اجتماعية واحدة، بغية أن يتيسر له الأمن وراحة البال والسلامة والحياة الآمنة، فيستثمر أمواله مطمئناً، ويحصل من الأمن على أكثر مما يحصل عليه من ليسوا من أفراد ذلك المجتمع».

السياسة، برأي لوك، أمر عقلي، والنظام السياسي ينبع من رغبة الإنسان ورأيه وإرادته، ويستهدف غاية واضحة. فغاية المجتمع السياسي هي المصلحة، أي حفظ حرية الفرد وملكياته، وواجب الحكومة حراسة هذه المصلحة والدفاع عنها، إذ لا مصدر لوجود الحكومة ولشرعيتها غير رضا الناس. ومن الطبيعي أن سلطة كهذه لا يمكنها أن تكون مطلقة، بل هي مشروطة برضا الناس، ومقيدة بالوفاء بالواجبات التي على عاتقها، أي الحفاظ على السلم، والحرية، والأمن. وبتعبير مختصر، على مصالح الناس وخيراتهم. وإذ يتبدى أن فلسفة الدولة عند لوك تقوم على أصلين هما تقييد السلطة السياسية ومصلحة المجتمع، وإذ إنه من المعروف أن هذين الأصلين هما في الواقع أساس النظام السياسي في العصر الحديث، لا يبقى من حاجة إلى التنبه على حداثة أفكار لوك ومعاصرتها.

فغاية الحكومة رعاية المصلحة، وأمرها بيد المجتمع، وشرعيتها رهن رضا الناس، وهي طبعاً مشروطة بشروط، ومحدودة بحدود، و»المجتمع هو مالك السلطة الأصلي... (و)... حيثما عرض أولياء الأمر، حتى ولو كانوا من أفراد السلطة التشريعية، أموال الرعايا إلى الخطر، وإن كان تعريضهم لها عن سهو أو عن سوء قصد، وحيثما ألجأ أحد أفراد الأمة إلى العبودية، كان للشعب الحق في تخليص نفسه من هذه الشروط التي تعتبر تعدياً على حق أساسي ومقدس وثابت هو حق حفظ النفس وصيانتها».

لوك مفكر سياسي بالدرجة الأولى، وإن اشتغل بالبحث والفكر في حقول أخرى أيضاً، وهو فيلسوف لكن غرضه من الفلسفة إثبات السياسة على مقتضى آرائه. والسياسة ليست أمراً مجرداً ومطلقاً، بل هي طريقة حياة اجتماعية منظمة للإنسان، ترتبط بطبيعة النظرة إلى الإنسان وماهية حركته وأهدافه. وللوك نظرة خاصة إلى العالم والإنسان، وسياسته تتناسب مع هذه النظرة، لكنه، من أجل أن يوجه نظرته الخاصة، لا يرى بداً من أن يبدأ مسيرته الفكرية بالتأمل في العقل والإدراك والمعرفة البشرية.

هكذا فإن علاقة الإنسان بالعالم تتبع نظام معرفته له، فإذا انهار هذا النظام لأي سبب كان، فإن العالم البشري يتغير أيضاً. وليس عبثاً أن نقول إن نهاية حضارة ما تأزف عادة حين تتغير رؤية الناس الذين تتعلق تلك الحضارة بهم إلى العالم والإنسان، ومرادف هذا أن ظهور حضارة جديدة منوط بظهور رؤية جديدة. فالإنسان الجديد إنما يبدأ عهداً جديداً من التاريخ باستدباره لمعالم السلف. وطبيعي أن العقل وماهية الأحكام وميزان اعتبارها بعض أهم المجالات التي يتبدى فيها إدبار مرحلة وبزوغ مرحلة أخرى.

قد رأينا في الأزمنة الأخيرة من تاريخ الغرب كيف سقطت آراء الماضين في باب العقل والمعرفة والعالم، وهي الآراء التي تعلقت معرفة الإنسان بها عن الاعتبار والقيمة. فلا الإنسان الغربي بات يعتقد بصحتها، ولا «الإنسان الحديث» و»العالم الحديث» يريدانها. ولوك كان يعيش في زمان تهدمت فيه أسس العالم القديم، وظهرت فيه أسس العالم الجديد فسعى، وقد كان من جملة معماريي «العصر الحديث»، إلى تحكيم هذه الأسس بذكاء وفن.

على هذا الأساس، فمن الطبيعي أن يستأثر موضوع الفهم والمعرفة، والعقل والماهية وقيمة الأحكام العقلية ودرجة حجيتها، بقدر كبير من الأهمية عنده، ولا عجب إن كان من مؤلفاته «رسالة في الفهم البشري». وإذ يولي الفيلسوف ما يولي من شأن لموضوع «الفهم البشري»، أي لموضوع الإدراك ودور العقل في ذلك، فلأنه بتعيين هذا الدور، حدوده وآفاقه، يصل إلى تعريف الإنسان وما يمكن أن يكون له من يد في صياغة وجوده والتحكم به؛ ومن جملة هذا الوجود وجوده السياسي والاجتماعي.

وهذا ما يتطرق إليه لوك ويتكفل ببيانه في كتابه الآخر المهم «رسالتان في الحكومة». ينكر لوك في إحدى هاتين الرسالتين حق الملوك الإلهي، وأي منشأ غير بشري للحكومة، ويثبت في الأخرى النظرية التي تمثل نزعة الإنسان الغربي الحديث التي كان أحد مجاليها ثورة 1688م، وأحد إنجازاتها التي أدت إلى تثبيت فكرة الحكومة الدستورية. وواقع الحال أن لوك يقول بنفسه إن غايته من وضع هاتين الرسالتين هو الاحتجاج لشرعية ثورة 1688م، وقطعية حق وليم الأورانجي وتكتمل منظومة لوك الفكرية السياسية مع كتابه رسائل في التسامح (Letters of Toleration) الذي يضم ثلاث رسائل كاملة، ورابعة ناقصة نشرت بعد وفاته.

نشأت سياسة لوك من رؤيته الفكرية الفلسفية ونظرته الكونية المرتبطتين بإنسان المرحلة الحديثة، ومن الرؤية الدنيوية التي طبعت هذه المرحلة بطابعها. ولوك من المؤمنين بالتجربة أيضاً، وبأن مجال العقل هو الفحص عن الطبيعة وإدراكها. وطبيعي أن فيلسوفاً يعتقد بأن التجربة أساس للمعرفة يعول عليه، يعتبر أن الأمور العقلية رهن بالتجربة، ويعتبر الطبيعة المادية القابلة للتجربة موضوعاً للتعقل، ويخرج ما خلا ذلك، إن وجد، من دائرة العقل والتدبر العقلي.

إلى المنهج التجريبي، فإن أولية المنفعة من أمهات المسائل في رؤية الإنسان الحديث الفكرية وطبيعته التي ينظِّر لها لوك، ومما يمكن توجيه السياسة والحكومة به. فالحكومة إذ كانت مفيدة فهي واجبة، ولما كان العقل هو الميزان في تعيين النفع، والنفع المقصود هو النفع الدنيوي، فإن السياسة والحكومة ليستا بمحل أو بمستودع لأي لون من ألوان القداسة أو الغيبية. ومع ذلك لا يخلو أمر مهم كالحكومة من أن يطلب أساساً ومنشأ. فما هو أساس الحكومة برأي لوك؟

يعتقد لوك أن الحكومة تستند إلى «رضا» الناس و»اختيار» هم وأنها في المحل الأخير رهن قبولهم. لكن هذه المبادئ والأسس لا تبلغ النتيجة المطلوبة والمنسجمة مع روح العصر إلا إن تكاملت مع أصل آخر هو التسامح أو التساهل الديني. ففي أي مجتمع آراء واعتقادات مختلفة، وما من سبيل للتعايش - وصولاً إلى الغاية المقصودة التي هي الأمن والرفاه والسعادة الدنيوية والمكنة المادية - أفضل من التسامح والتساهل الديني في العقائد والأفكار. فإذا كان مقصد الإنسان من التزامه وتقيده بما يملكه ويختاره الحصول على الأمن، فلابد للوصول إلى وضع كهذا من الحيلولة دون تدخل الإيمان والدين في أمر النظام الاجتماعي.

بالرغم من هذا كله فإن لوك لا يعادي الدين، بل يعتبر الاهتمام بالديانة أمراً لا غنى عنه، إذ يعتقد أن المحافظة على حرمة الديانة وحراسة السنن في الحياة أمر ضروري. ومن جملة السنن المهمة، (التي كانت شائعة في الغرب)، المحافظة على الحدود الفاصلة بين الدين والسياسة وتمايزهما، أحدهما عن الآخر. لكن لو يسعى إلى رسم الحدود وتعليمها على نحو لا تتعرض معه سياسة العصر المادية، ماهية وغاية إلى المساءلة.

الدولة برأي لوك هي «جماعة من الناس تتألف لتحقيق الروابط المدنية وتطويرها، وقوام هذه الروابط الحياة والحرية والسلامة والراحة الجسمية وتملك الأشياء، مثل المال والأرض والدار ولوازم المعيشة، وما شابه». أما الكنيسة فهي «اجتماع طوعي لأفراد مترابطين فيها بينهم، وفقاً لاتفاق مشترك في سبيل التعبد جماعة، بالأسلوب الذي يرون فيه مرضاة الباري وسبيلاً إلى غفران ذنوبهم...» وليس من حق الكنيسة أن تتدخل في الشئون الدنيوية والمدنية، ولا أن تستعمل القوة القهرية. فهذان الأمران حكر على الحكومة الدنيوية، ومنتهى واجب الديانة إشاعة النظام في حياة الأفراد على أساس أوامر الدين وأصول التقوى».

يعتقد لوك بوجوب التسامح حيال عقائد الأمم والمذاهب الأخرى، حتى غير المسيحية. ويعتبر هذا الوجوب مؤيداً بحكم العقل البشري الخالص والمنكرين له من غير ذوي البصيرة. وهو، وإن ذهب إلى عدم ثبوت حق للحكومة بفرض عقيدة دينية على الناس، يعتبر في المقابل أن من واجب الحكومة أن تحفظ على الكنيسة حريتها وأن تيسر سبل العبادة وأن «تحد من أي نشاط آيل لأن يعطل سير الحياة المتعارف عليه». فكل ما يؤدي إلى إضعاف المجتمع ممنوع برأي لوك، وجدير بأن يحال دونه، وإن اتصف بالصبغة الدينية.

ختاماً، لابد من التسليم بأن شيوع أفكار لوك ورسوخها في مجال الفكر والعمل السياسي في الغرب مردهما إلى أنها لبت طموحات تيار قوي تضرب جذوره في المجتمع والسياسة منذ أواخر العصور الوسطى - ذلك التيار الذي ضاق ذرعاً بالوضع السياسي - الاقتصادي (الإقطاع) وبظهيره الفكري - العقائدي (المسيحية البابوية)، فسعى إلى الخلاص منه وأفلح.

إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "

العدد 2940 - الخميس 23 سبتمبر 2010م الموافق 14 شوال 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 4:50 ص

      موضوع شيق وجدير بالقراءة .. ونتمنى لو أن الكاتب

      قد أعطى رأيه في هذه الافكار ومدى تأثره بها
      .
      لان مثل هذا الرأي من شخص بمنزلة الكاتب هو مهم للكثيرين من القراء.
      .

اقرأ ايضاً