العدد 2954 - الخميس 07 أكتوبر 2010م الموافق 28 شوال 1431هـ

روسو... والعقد الاجتماعي

الثورة الفرنسية والتعارض بين النظرية والواقع (2)

محمد خاتمي comments [at] alwasatnews.com

الظاهر أن ما يقوله لاسكي في هذا الباب صحيح تماماً إذ: «... ليس المقصود أن فلسفة القرن الثامن عشر قامت على آراء فولتير، بل المقصود أن الطبقة المتوسطة استلهمت هدفها - الحريات المدنية - من فولتير، وأضفت عليه (...) مسحة دينية رقيقة للغاية، ليس للدين معها، على أي نحو، أن يتدخل في الحياة العامة». «إن فولتير الذي كانت له، بفضل مواهبه الذاتية وثروته ومكانته، مشاركات باهرة في الحياة العامة لم يأتِ بجديد حقاً، بل بلور ببلاغة حجج الطبقة التي كان ينتمي إليها وأطروحاتها، وفي الطليعة منها ضرورة الاحترام الكامل للملكية».

ويقول أيضاً: «... إن المجلدات الستة من الانسيكلوبيديا (دائرة المعارف) تتحدث بإعجاب عن تقدم العلم. وليس ما يدهش أن يروق هنا الحديث لأفراد الطبقة الناشئة وأن يجدوا فيه صدى لطموحاتهم».

إن سقوط الرؤية القديمة، ومعها نظام امتيازاتها الاجتماعي، هيأ الأرضية لدخول الحرية إلى المعترك - حرية الكسب والإنفاق، كما حرية التعبير عن الرأي، ومن ثم يمكن القول إن التسامح هو الحرية في مجال الاعتقادات الأخلاقية والدينية، ومن ثم أيضاً ما نلحظه من تركيز لدى جميع منظري الحرية على فكرة اعتبار التسامح أصلاً لا يتدنى عن الحرية في شيء، رغم اشتقاقه منها.

كانت اليد العليا في المجتمع للطبقة المتوسطة وللمدافعين عن النظام الرأسمالي. ولكن المجتمع، بطبيعة الحال، لم يخلُ من قوى أخرى ذات طموحات تصادم طموحات الطبقة الحاكمة.

فلقد تزامن استقرار الأنظمة الديمقراطية - الليبرالية مع بداية تبلور آراء أدت، بعد أجيال، إلى نشوء وتوجيه حركات اجتماعية طبعت بلداناً عديدة بطابعها، وتركت آثاراً ما يزال بعضها ماثلاً إلى يومنا.

لكن ما يعنينا في هذا المقام هو الإشارة إلى أن الطبقات المحرومة الكادحة، التي لم تخلُ من التعبير عن رفضها للوضع المستجد القائم، لم تدخل الحلبة السياسية فعلياً إلا عندما امتلكت من الوعي ما سمح لحركتها بالتواصل والتصاعد، ولانتفاضاتها ألا تصادر لمصلحة فريق آخر كما حدث مراراً. وهذا الوعي لم ينضج إلا في أواسط القرن التاسع عشر حيث بدأت أفكار المعارضين للرأسمالية ولليبرالية - الديمقراطية، بالشكل الذي يفسرها عليه الرأسماليون، تتبلور بصورة تيارات متماسكة قادرة على الدفاع عن نفسها، وحيث أخذ عود بعض الحركات الاجتماعية يشتد ونجمها يتألق بمقدار ما أخذت تتجلى للعيان مظالم الرأسمالية، مما هدد النظام الليبرالي - الديمقراطي ودعاه إلى مراجعة أعادته إلى صوابه.

أقبلت الطبقة الوسطى، التي غرها وصولها إلى سدة الحكم، على دنياها الجديدة، فراحت لا تتراجع عن أي سلوك أو تدبير يزيد من قدرتها، ويضاعف من مكاسبها، وحصلت هذه الطبقة على ما يؤهلها لأن تكون قابلة الحضارة الجديدة، وكتب للأفكار التي تحتج لها أن تصمد في ساحة الفكر، فضربت تلك الطبقة عرض الحائط بامتعاض الطبقات الكادحة وبتحفظات المتحفظين على شيوع الروح المادية وتحكمها.

ونظير لامبالاتها، سعت هذه الطبقة التي كانت قد استقرت في الحكم إلى القضاء على كل ما لا ينسجم مع مفاهيمها ومعاييرها، ولم تتراجع عن هضم أفكار بعض المخالفين لها وإعادة إخراجها على النحو الذي يوافق مصالحها. ومن هؤلاء المفكرين الذين لاقت أفكارهم هذا المصير جان جاك روسو (1712 – 1778م). فمن المعروف أن كتابات روسو أشبه بمنجم يمكن أن يجد فيه كل ذي رؤية أو رأي ما يؤيد رؤيته أو رأيه. وسيتاح لنا في الصفحات التالية أن نرى كيف أن روسو «الذي تُستشم من كلامه رائحة الاشتراكية» قد بُوِّئ مكانة سامية في هيكل الثورة الفرنسية التي انتصرت بعد وفاته بقليل، وكيف كان الثوريون والخطباء والمثقفون والعلماء يتسابقون إلى استلاب أفكاره وتحويلها عن وجهتها التي أرادها لها.

إن كثيراً من أفكار روسو كانت في واقع الحال لا تنسجم مع ما تشهده أوروبا، ولا مع ما كتب له النصر في آخر الأمر أيضاً. ويمكن القول إن جواب فولتير إلى روسو، بعد تسلمه رسالته التي تحمل عنوان مقالة في عدم المساواة، يمثل حكم ذلك الزمان على تخيلات روسو وأفكاره.

كتب فولتير إلى روسو يقول: «بلغني الكتاب الذي كتبته ضد عنصر الإنسان وأشكرك عليه. لا أظن أن قدراً من الذكاء من مثل ما يحتوي هذا الكتاب قد استنفر يوماً لاستبلاه الناس، بل إن الإنسان يرغب عند قراءة كتابك أن يجري محتبياً على يديه ورجليه، ولكن أما وأنني قد أقلعت عن هذه العادة منذ أكثر من ستين عاماً، فإني أشعر للأسف الشديد أني غير قادر على استئنافها...».

يحاول روسو في هذه الرسالة أن يبين أن الإنسان حسن بالطبع و»ليس ما يجعله سيئاً غير المؤسسات (...). فهو يعترض على التفاوت المتأدي من الامتيازات التي يؤيدها ويقرها العرف والعادة (...)، ويعتقد أن التفاوت هذا مرده إلى الملكية الخاصة». كما يدين روسو في هذه الرسالة الكثير من مظاهر الحضارة والتقدم.

صحيح أن الطبقة الجديدة التي رفعت راية الثورة الفرنسية تتفق مع روسو في رفض الامتيازات التي تفرد صدارة المجتمع للإقطاعيين، وترفض بشدة أن تكون الأرض وملكيتها منشأ امتياز وقوة، لكنها ما كانت تتفق معه في أن الملكية هي السبب في التفاوت الاجتماعي، وظهور الظلم والإجحاف في المجتمع، (وهو ما يقول به الاشتراكيون في شأن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج). فلقد كانت الملكية عند الطبقة المتوسطة أصلاً مقدساً، وإن كانت طبيعة هذه الملكية قد تحولت من الأرض إلى الأموال المنقولة. والحق أن أفكار روسو المنادية بالمساواة كانت طليعة للأفكار التي تجلت بعد مدة في أوروبا والعالم مع اشتراكية ماركس وأنغلز أكثر منها حججاً تؤيد الحركة الاجتماعية والسياسية والثورية التي شهدتها أوروبا في القرن الثامن عشر.

كيف نفسر إذاً أن أفكار روسو المتعارضة مع حركة الوقائع في زمانه، أو التي لا تنسجم في كثير من الجوانب معها على الأقل، قد احتضنت من قبل الثورة الفرنسية ورجالاتها، حتى لم يبقَ منهم من لم يستشهد مرة على الأقل بكتاب العقد الاجتماعي، علماً أن هذه الثورة يمكن عدها مظهراً من مظاهر انتصار الوجه الرأسمالي والليبرالي للحضارة الجديدة. «وكيف نفسر أن ميرابو لا يفتأ يذكر روسو ويطريه، وأن مدام دي ستال لم تتردد في الدعاء إلى روحه أن تعين والدها الذي عين في بدايات الثورة وزيراً لمالية فرنسا».

يمكن القول، جواباً عن هذا السؤال، إن الأبلغ تأثيراً من أفكار روسو في الثورة وتحول الأوضاع هو كتابه العقد الاجتماعي، دون أفكاره التي تتضمنها كتبه ورسائله الأخرى التي لا تنسجم في واقع الحال مع الرياح الجارية بما يشتهي البورجوازيون. فكتاب العقد الاجتماعي يختلف، من حيث المضمون واللهجة، عن كثير من مؤلفات روسو الأخرى، ومواضيع هذا الكتاب لا تصدر عن الأحاسيس والمشاعر، بل تتبع خطاً منطقياً وتحليلاً عقلياً، يؤدي بها إلى تصوير النظام الاجتماعي المطلوب، الذي يمكن للإنسان في ظله أن يفجر مواهبه وطاقاته، ويلبي احتياجاته، ويحقق السعادة والحظوة المرتبطة بالحياة الدنيا... وهو ما كان زمان روسو في أمس الافتقار إليه.

إلى ذلك، ورغم أن إثبات فكرة العقد الاجتماعي كأصل لنظام المجتمع في مقابل «الأصل الطبيعي» أو الإلهي للمجتمع والدولة، قد وجدت من اقترحها قبل روسو، فإن أحداً ممن سبقوه لم يشرح أمر «العقد» ويفصل أصله كما فعل هو. فبشرية الحكومة، ورفض أي لون من ألوان السلطة الغيبية للملك أو الحاكم، هما من جملة قواعد النظام الجديد في أوروبا والغرب وأسسه. وروسو يصر، أكثر من سواه، على طبيعة المجتمع التعاقدية، فلا عجب إن أقبل المصلحون على أفكار السياسية كما وردت في العقد الاجتماعي. والحال أن روسو لم يكتفِ بإثبات العقد الاجتماعي قباله حق الملوك الإلهي، بل ذهب إلى أن العقد الاجتماعي يعبر عن الإنسان الجديد الذي يحاول ترسيخ دعائم الحضارة المادية الجديدة، ويريد أن يحتل مكان إله العصور الوسطى، (ولو في مجال الحياة الأرضية والدنيوية).

بعبارة أخرى، فإن الإرادة العامة الناشئة عن العقد الاجتماعي هي الوجه الفلسفي لسيادة الشعب - الشعب بصفته، يومذاك، ظاهرة حديثة العهد تحتاج إلى من يدافع عنها وينظر لها. فالعقد الاجتماعي برأي روسو يتمثل في أن: «يشارك كل أحد في الشأن العام بشخصه وجميع قدراته، ويضعها تحت أمر الإرادة العامة، وتكون مشاركة كل عضو من أعضاء هذه الشركة جزءاً لا ينفك عن الكل».

من خلال عقد من هذا القبيل تظهر هيئة عامة معنوية جامعة. والهيئة العامة هذه هي ما كانت عليه المدينة عند اليونان ومن حذا حذوهم، وهي ما يسميه روسو الجمهورية أو الهيئة السياسية، ويمكن، بملاحظة الحيثيات المختلفة، إطلاق اسم الدولة (Etat) وصفة السيادة (Souverainete) على هذه الهيئة السياسية. ويتوصل روسو في تحليله إلى أن «الإرادة العامة هي وحدها التي يمكنها أن تدير سلطات الدولة وفق المراد المتصور من تأسيسها».

تتميز «الإرادة العامة» التي يقول بها روسو، التي هي عنده مصدر الحكومة والسلطة وملاك شرعيتهما، من حيث إنها، بخلاف الإرادة الشخصية التي تنظر إلى المصلحة الشخصية أو اتفاق مجموعة من الإرادات الشخصية على مصلحة ما، لا تنظر إلا إلى المصلحة العامة ولا تأخذ في الحسبان المصلحة الشخصية لكل فرد على حدة أو كل مجموعة من الأفراد دون المجموع.

يعتبر روسو «الإرادة العامة» أمراً واقعاً، ولكن في منأى عن إرادات الأفراد في الوقت نفسه، ويقول: «إذا حذفنا من حاصل جمع إرادات الأفراد النقوص والزيادات التي يحيد بعضهما البعض فإن ما يبقى هو الإرادة العامة. وروسو يؤيد الديمقراطية، وإن كان يميل إلى ديمقراطية مباشرة من قبيل ما كان معمولاً به في المدن - الدول اليونانية، ومن ثم فهو يعتبر الديموقراطية مستحيلة في الدول الوسيعة الكثيرة السكان.

إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "

العدد 2954 - الخميس 07 أكتوبر 2010م الموافق 28 شوال 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً