العدد 2989 - الخميس 11 نوفمبر 2010م الموافق 05 ذي الحجة 1431هـ

الاختلاف مع الصديق ومغادرة غرناطة

رحلة ابن خلدون إلى الأندلس (3)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كانت بجاية تعتبر آنذاك ثغراً لإفريقيا «في دولة بني أبي حفص من الموحدين» وصولاً إلى عهد السلطان أبوبكر بن يحيى فولى ابنه الأمير أبوزكريا على بجاية وابنه الآخر عبدالله على قسنطينة، في وقت كان في حال تنازع مع ملوك تلمسان في المغرب الأوسط (بنو عبدالواد). وتدخل ملك المغرب الأقصى من بني مرين في النزاع وزحف سلطانهم أبوالحسن إلى تلمسان وملكها عنوة لمدة سنتين في العام 737 هجرية (1336م). فارتاح الموحدون من ضغوط بني عبدالواد إلى أن توفي سلطان قسنطينة في سنة 740 هجرية (1339م) فولي ابنه الكبير أبوزيد مكانه. وما لبث أن توفي سلطان بجاية سنة 746 هجرية (1345م) فخلف ابنه الكبير أبوعبدالله عليها. إلا أن السلطان أبوبكر بعث ابنه الأمير أبوحفص لولايتها فمال أهل المدينة إلى أبي عبدالله فأخذ الولاية إلى أن توفي السلطان أبوبكر في سنة 747 هجرية. فما كان من السلطان أبوالحسن إلا أن زحف إلى شمال إفريقيا (تونس والجزائر) وملكها و«نقل الأمراء من بجاية وقسنطينة إلى المغرب» (التعريف، ص 498). فاستقر الوضع السياسي إلى أن اقدم السلطان أبوعنان على خلع والده في واقعة تعرف بحادثة القيروان، وارتحل من تلمسان إلى فاس ونقل معه الأمراء من أهل بجاية وقسنطينة وقربهم إليه وبالغ في تكريمهم ووزع عليهم الثغور من جديد، فأرسل الأمير أبوعبدالله وأخوته من تلمسان وأبوزيد وأخوته من فاس لاستعادة الثغور وانتزاعها من السلطان أبوالحسن الذي طردهم منها ونجحوا في مهمتهم. وهكذا استقر أبوعبدالله في بجاية حتى توفي سلطان جبال المصامدة أبوالحسن. واستغل السلطان أبوعنان الفراغ فزحف إلى تلمسان سنة 753 هجرية (1352م) وهزم «ملوكها من بني عبدالواد وأبادهم ونزل المدية وأطل على بجاية. وبادر الأمير أبوعبدالله للقائه». لكن السلطان أبوعنان اختلف عن حاله السابق إذ قويت شوكته ولم يعد يقبل بتوازن السلطات فأخذ ولاية بجاية وملكها وكلف عماله بإدارة شئونها وتحصيل الجباية. ونقل الأمير أبوعبدالله معه إلى المغرب وأبقاه عنده تحت رقابته وتراوحت علاقتهما بين «جفاية وكرامة» على حد وصف ابن خلدون. فالسلطان أبوعنان أكرم الأمير أبوعبدالله ورعاه لكنه انتزع منه ملكه وولايته الأمر الذي كان مصدر قلق وتوتر خفي بين الطرفين.

حتى هذه اللحظة كان ابن خلدون خارج المشهد إذ لم يكن التقى الأمير أبوعبدالله. وحصل التعارف عندما وصل ابن خلدون للعمل في خدمة السلطان أبوعنان آخر سنة 755 هجرية (1354م). وقامت صداقة بينه وبين الأمير أبوعبدالله الأمر الذي دفع بعض الحاسدين والمتنافسين و«أهل السعايات» إلى إثارة مخاوف السلطان أبوعنان وذكروا له أن هناك مؤامرة يحيكها مع الأمير المعزول لاسترداد ولاية بجاية وإعطائه منصب الحجابة فيها. فأقدم السلطان على اعتقال ابن خلدون، كما مر معنا، وسجنه لمدة سنتين بتهمة التآمر ومساعدة الأمير أبوعبدالله على الفرار إلى بجاية. وظل في الاعتقال إلى أن توفي السلطان أبوعنان فأطلق سراحه صاحب الدولة الجديد الوزير حسن بن عمر. ثم استولى السلطان أبوسالم (شقيق السلطان أبوعنان) على المغرب وكلفه بمهمة «كتابة سره» نظراً للخدمات التي قدمها إليه وساهمت في وصوله للسلطة.

نلاحظ أن ابن خلدون دخل صورة المشهد وعاش مختلف المنازعات بين الأمراء وأولاد العم والخال والأخوة من دون مقدمات محسوبة بل لجملة مصادفات قررت مصيره البائس من اعتقال وتشريد كلها ناتجة عن وظيفته وما تستتبعه من علاقات واتصالات وعداوات.

بعد خروج ابن خلدون من السجن يخرج مرة ثانية من الحدث. فالحوادث عنده موضوعية وليست ذاتية فهو عندما يروي ذكرياته في كتاب «التعريف» يذكرها في سياق التحولات الكبرى ولا يجد في نفسه محرك التاريخ. حتى أنه لا يرى في فئة «أهل السعايات» قوة معادية له شخصياً بقدر ما هي ظاهرة اجتماعية تلعب الدور المذكور في دائرة لعبة السلطة والصراع على الجاه. فالعداء ضده ليس شخصياً بل هو عداء عصبي - قرابي ينتج آلياته الداخلية فيتجه يميناً ويساراً، صعوداً وهبوطاً، في منطق يتحرك من هنا وهناك ومع هذا ضد ذاك. وسواء كان ابن خلدون في صورة الحدث أو خارجه فإن المهم عنده هو وصف الطبائع ودراسة عواملها. لذلك يستكمل قراءة الحدث بما هو تداعيات تتتابع من جهة إلى أخرى ومع منطقة ضد أخرى. وابن خلدون مجرد شاهد على تتاليات الصورة أكثر مما هو شريك مظلوم. فالجانب الأخير يحتل الموقع الثانوي في تفكيره لأن الرئيسي عنده هو تلك الجوانب الموضوعية التي تتحرك بسياق يتجاوز الشخص وقيمته الفكرية ودوره المعنوي.

إذن جاء السلطان أبوسالم وكلف ابن خلدون بمهمات في الدولة وذهب السلطان لأخذ تلمسان وملكها من بني عبدالواد وولى عليها أبوزيان ابن السلطان أبو تاشفين. وعاد أبوسالم إلى فاس وبرفقته الأمير أبو عبدالله (صاحب بجاية وصديق ابن خلدون) ثم خرج من جديد وملك سبتة في سنة 760 هجرية (1359م) بعد صراع اشتركت فيه عصبيات مختلفة.

استقرت صورة المشهد السياسي في العام المذكور كالآتي: أقدم صاحب تلمسان أبوزيان (الذي عينه السلطان أبوسالم عليها) على إرسال بعثات من الأمراء الموحدين لاسترداد الثغور فأرسل الأمير أبوعبدالله (صديق ابن خلدون) إلى بجاية وأرسل الأمير أبوالعباس إلى قسنطينة. وحصلت مواجهة في بجاية مع واليها أبواسحق (من بني مرين) فطال حصارها بسبب وقوف الأهالي مع صاحبها. بينما نجح أبوالعباس في امتلاك قسنطينة بدعم من السلطان أبوسالم.

في لحظة الصراع وتوازن القوى للسيطرة على بجاية يدخل ابن خلدون في مشهد الحدث فيذكر أنه كان له «المقام المحمود في بعث هؤلاء الأمراء إلى بلادهم. وتوليت كِبْر ذلك مع خاصة السلطان أبوسالم وكبار أهل مجلسه، حتى تم القصد من ذلك» (التعريف، ص 499).

يذكر أن ابن خلدون سبق وتحدث عن دوره في تأليف شيوخ بني مرين وإقناعهم بتأييد السلطان أبوسالم ونجاحه في المهمة التي رتبها مع ابن مرزوق. وبسبب دوره سلمه «كتابة سره».

تحت سقف الوظيفة أعاد ابن خلدون تنظيم علاقته مع الأمير أبوعبدالله الطامح باستعادة بجاية ووعده خطياً «بولاية الحجابة متى حصل على سلطانه» وسلم الأمير شقيق ابن خلدون الأصغر (يحيى) وثيقة العهد وانصرف هو مع السلطان أبوسالم إلى فاس. ثم حصل ما ذكره لنا واضطر إلى المغادرة إلى الأندلس بعد أن تم رفض عودته إلى تونس أو تلمسان خوفاً من تسلله إلى بجاية. فسافر إلى غرناطة في العام 764 هجرية (1362م) واستقدم أسرته وكاد أن ينسى الأمر لولا بداية توتر بينه وبين صديقه الوزير المؤرخ ابن الخطيب فوقع في حيرة وارتباك وبات لا يعرف ماذا يفعل.

جاءت رسالة صديقه تنقذه من الورطة من جهة وتفتح له باب الجاه السياسي من جهة أخرى. يصف ابن خلدون أمره كالآتي وبينما «نحن في ذلك وصل الخبر باستيلاء الأمير أبي عبدالله على بجاية من يد عمه (السلطان أبوإسحق) في رمضان سنة خمس وستين (765 هجرية) وكتب الأمير يستقدمني فاعتزمت على ذلك» (التعريف، ص 499). وكانت مشكلة ابن خلدون أنه يريد الإذن من سلطان غرناطة من دون أن يعرف عن موضوع خلافه مع صديقه الوزير و«عميت عليه شأن ابن الخطيب إبقاء لمودته».

يكررها في صفحة أخرى عندما استغرب صاحب غرناطة طلب الإذن بالمغادرة «إذ لم يطلع على ما كان بيني وبين الوزير ابن الخطيب، فأمضيت العزم، ووقع منه الإسعاف والبر والألطاف» فوافق على الأمر وودعه وكتب له مرسوم السماح بالمغادرة «من إملاء الوزير ابن الخطيب». ويتعمد ابن خلدون نشر المرسوم بنصه الكامل وفيه ما فيه من مفردات التبجيل والتمجيد مع خط سلطان غرناطة وعلامته وتاريخ صدوره في سنة 766 هجرية (1364م).

كانت كل مدة إقامته منذ وصوله إلى مغادرته الأندلس أكثر من سنتين وقف خلالها على أطلال أجداده واختلف مع صديقه الوزير وأخفى السر عن السلطان لأنه لا يريد إغضابه ولا كسر العلاقة مع صديقه. وهذه من حسنات صاحب المقدمة التي سببت له خسائر كثيرة وجلبت له مصاعب جمة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2989 - الخميس 11 نوفمبر 2010م الموافق 05 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً