العدد 2990 - الجمعة 12 نوفمبر 2010م الموافق 06 ذي الحجة 1431هـ

العراق... خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

خطوة إلى الأمام، خطوة إلى الوراء... هذا هو حال العراق منذ ثمانية أشهر ويرجح أن يستمر التذبذب بين الصعود والهبوط فترة طويلة قبل أن تستقر البلاد على هيئة سياسية لن تكون كما كانت عليه قبل الاحتلال الأميركي في العام 2003. فالعراق «الجديد» الذي وعدت إدارة جورج بوش الابن شعوب الشرق الأوسط به تحقق ميدانياً على قاعدة التمزق الأهلي والتشرذم في الولاءات والانقسام في الانتماءات والهويات.

الجديد في العراق أسوأ من القديم لأنه اعتمد سياسة التقويض وتحطيم الدولة وتوزيعها على أربعة أرباع. ربعان للشيعة، ربع للأكراد، وربع للسنة والفئات الأخرى مجرد قوى مضافة تستخدم حين الحاجة لتحسين صورة «الديمقراطية» الطائفية - المذهبية والفوضوية.

ما حصل في العراق في السنوات السبع الماضية ليس تفصيلاً، أو مجرد سحابة خريف عابرة يمكن السيطرة على أضرارها بعد انقشاعها. فالحال أسوأ مما يمكن تصوره لأن مشروع التقويض لم يقتصر على تحطيم ما هو قائم بل دفع العلاقات الأهلية إلى القبور وأعاد فتح ملفات مغرقة في التاريخ أخرجت ثأر الماضي من الغرف المظلمة إلى النور في سياق سياسي تقهقري وضع الجماعات كلها في مربع الانتقام.

العراق سيبقى يدور حول نفسه في المربع واحد حتى لو نجحت الأطراف والتكتلات والهيئات السياسية في تشكيل حكومة اتحادية تتوزع المناصب والحصص بضمانات دولية. والسبب أن الاحتلال لم يعد من الماضي كما تحاول أن تظهره الإدارة الأميركية بل هو هدية مسمومة للحاضر والمستقبل. وما حدث قبل سنوات بفعل الانقضاض الخارجي لا يمكن أن يستدرك أو يستوعب بسهولة لكون خريطة الانكسار كانت مدمرة وأكبر من القدرة على احتواء تداعياتها.

الانسحاب الأميركي من بلاد الرافدين لن يكون الفصل الأخير من المشهد لأن مسرح التقويض والتفكيك لايزال في حال مكشوف على التطورات والاحتمالات. وما هو ظاهر في الصورة لا يعطي فكرة عن التخبط الذي تمر به بلاد الرافدين باعتبار أن الزاوية المرئية لا تغطي كل الزوايا. والمشهد الجميل (صناديق اقتراع، وقاعة برلمان، وخطابات أخوة) الذي تحرص إدارة باراك أوباما على إخراجه أمام عدسات التصوير لن يكون الوحيد في ساحة انفتحت على دمار هائل أصاب العمران البشري، وأعاد توزيع جماعاته الأهلية على مربعات جغرافية وخرائط سياسية (طائفية، مذهبية، وأقوامية) لا تستطيع إعادة البناء من دون تزاحم على الغنيمة.

القوى الحزبية التي أنتجها الاحتلال تنتمي في مجموعها إلى عائلة سياسية واحدة تدين بالشكر إلى الولايات المتحدة. فالأسرة واحدة ولكنها في لحظة التموضع الأميركي وإعادة الانتشار العسكري على مسرح الشرق الأوسط يتحول التنافس إلى صراع الأخوة الأعداء على الوصية وما تنص عليه من توزيع للتركة. وحين تكون الورثة غنية بالنفط يصبح الاقتتال على المناصب هو أساس القانون الذي ينظم العلاقات ويضبطها على إيقاع التناحر في إطاره السياسي (داخل مقاعد النواب والوزراء) وفي إطاره الأهلي (عمليات التفجير في الشوارع والمدن) وما يردفه من تناسل دموي وانتحار جماعي.

المشهد المتكرر يومياً لن يكون من بقايا الماضي وإنما هو خريطة طريق لمستقبل يرجح أن يتعرض إلى ارتدادات شبه دائمة في مرحلة الانكفاء الأميركي والغياب التدرجي عن المشهد. فالفراغ التقويضي الذي أحدثه الهجوم قبل سبع سنوات ستتشكل منه فراغات ارتدادية تدميرية ستنجم عن الانسحاب (التموضع وإعادة الانتشار). وهذه الفراغات ستؤدي إلى اجتذاب قوى إقليمية مجاورة إلى الداخل العراقي حتى تستكمل وظيفة تعبئة المخلفات الأميركية.

دخول إيران على خطوط التماس في الداخل العراقي مسألة طبيعية ومنطقية وهي تشبه في قانونها الفيزيائي أي حالة ناجمة عن فراغ في الهواء. فالفراغ يجذب القوى عنوة وهو يشد الأطراف إلى نقطة المركز بغض النظر عن النوايا والمخططات والتصورات والطموحات. وما حصل في العراق ردة فعل بديهية على إستراتيجية اعتمدت التقويض واستهدفت خريطة العمران البشري الذي مزق صورة الدولة وأعاد توزيعها أشلاء طوائف ومذاهب على الزوايا والمداخل والمخارج. والمشهد السياسي المتشرذم على القوائم واللوائح هو في النهاية نتاج ساحة تحطمت إلى جزئيات صغيرة في هوياتها الضيقة. وحين تكون «الدولة» خارج المعادلة تصبح الصورة مجموعة فسيفساء ينقصها التجانس بسبب تبعثر الوحدة القسرية إلى وحدات اختيارية تحتاج إلى زمن غير قصير حتى تتقبل القوى المعنية بالحاضر السياسي النتائج التي توصل إليها العراق بعد الاحتلال. والقبول بالمشهد كما هو من دون تعديل أو تحسين يحتاج فعلاً إلى قناعة سياسية والاستسلام للأمر الواقع من دون اعتراض أو ممانعة.

هنا بالضبط سيبدأ الطور الآخر من المأساة العراقية، لأن حاضر البلاد السياسي لم يكن نتاج تطور طبيعي وتقدم هادئ وتغير عادي في الموازين والمعادلات وإنما صناعة خارجية انقضت على الداخل وأحدثت فراغات غير طبيعية ودفعت بالعلاقات الأهلية إلى تصادم عنيف وانكسار قهري في نمط الحياة والمعاش. وبسبب هذا المشهد الذي تم صوغه بالقوة وبسرعة قياسية يرجح أن يستمر العراق على حاله، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء، قبل أن يستقر على قاعدة ثابتة تتقبل النتيجة كما هي من دون طموح للعودة إلى ما كان عليه الماضي قبل الاحتلال.

المأساة العراقية وقعت وهي تشبه في الكثير من مظاهرها وزواياها نكبة فلسطين التي كانت نتاج الاحتلال البريطاني في الحرب العالمية الأولى الذي قوض العلاقات الأهلية وأشرف على ترسيم خريطة طريق بشرية (سكانية) أدت إلى انكسار التوازن وتحطيم المعادلة. الفارق الوحيد أن نكبة فلسطين اعتمدت على استجلاب الناس من الخارج بينما مأساة العراق اعتمدت على أهل البلاد لصناعتها، ولكن النتيجة السياسية التي تمظهرت على خشبة المسرح كانت تغير صورة الهيئة وإعادة تشكيل العلاقات في إطار متحطم يصعب شده إلى نقطة مركزية تجمع ولا تفرق.

ما يحصل في العراق من صراع بين الأخوة الأعداء ليس غريباً وغير مألوف. فهو في النهاية صورة عادية تعكس المشهد السياسي بعد أن حطمته قنبلة فراغية قوضت ما هو قائم ومزقته إلى أجزاء متنافرة تتناحر على هيئة البديل وشكله ومظهره في لحظة تستعد القابلة القانونية إلى مغادرة غرفة الولادة قبل خروج الوليد من الرحم. وأميركا تعلم أكثر من غيرها نوع الجريمة التي افتعلتها لذلك أخذت تستعجل خطوات الرحيل حتى لا تتحمل مسئولية التشوّه الذي أصاب «النموذج الديمقراطي» في دائرة الشرق الأوسط ومسرحه الممتد من أفغانستان إلى فلسطين.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2990 - الجمعة 12 نوفمبر 2010م الموافق 06 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 1:55 ص

      تركة صدام

      الشعب الدي تربى على الحياة الدكتاتورية صعب جداً ان يقبل بالديموقراطية المعارضون للنظام السياسي الجديد هم في الغالب القريبين من النظام السابق والمسنودين من أنظمة عربية التدخل الايجابي من قبل ايران هو الدي سيحمي المستضعفين في هدا البلد والا فكل محيط العراق لايريد هدا التغيير ومستعد ان يسمي 65% من الشعب العراقي بالعملاء وبغير العراقيين وانصار الاستعمار

اقرأ ايضاً