العدد 2998 - السبت 20 نوفمبر 2010م الموافق 14 ذي الحجة 1431هـ

«أنين الصواري» والسواحل!

ندى الوادي nada.alwadi [at] alwasatnews.com

.

منذ أن أرّخ شاعرنا البحريني الرائع علي عبدالله خليفة سنين الغوص ورحلته في نهاية الستينيات في مجموعته الشعرية الأولى، وصوارينا البحرينية لاتزال في أنين.

ليس عليكم لكي تصغوا إلى أنينها الذي لا ينقطع إلا التوجه إلى أقرب ساحل للبحر. ولكن مهلاً، ليس بهذه البساطة، فلم يعد الوصول إلى ساحل البحر أمراً روتينياً اعتيادياً في البحرين، لقد أصبح رحلة شاقة، تماماً كرحلة الغوص الشاقة التي رصد تفاصيلها شاعرنا المبدع بكلماته العذبة في قصيدته التي لا يمكن لبحريني ألا يعرفها «أنين الصواري».

مازالت صوارينا تأن، ليس تعباً من الموج أو لفح السموم، وليس تناغماً مع آهات النهام التي «روعت الظلم وأنصاف الرجال»، إنها تأن لأنها لا تملك غير الأنين سلاحاً تواجه به وحدتها واشتياقها لموج البحر. ذلك البحر الذي تم دفنه ولم يعد يسمع لموجه من صوت. ومثلما تأن الصواري، يأن معه إنسان هذه الجزيرة الذي كان البحر على الدوام جزءاً من تركيبه الاجتماعي والنفسي قبل أن يكون مصدر رزق ومخزناً لقصص وحكايات لا يمكن تعويضها.

يقولون إن هناك تأثيراً مباشراً للبيئة الطبيعية على التجمعات البشرية التي تقطن بالقرب منها، فإنسان الغابة أسرع، وإنسان الجبال أقوى، وإنسان القطبين المتجمدين أكثر قدرة على الاحتمال. أما إنسان البحر فلابد أن يكون كإنسان «البحرين»... مدرسة في الصبر! فلله درك أيها البحريني ما أصبرك!

لقد لعب البحر دوراً محورياً في تشكيل علاقة إنسان هذه الجزيرة مع محيطه تاريخياً واجتماعياً وحتى سياسياً، منذ كان الغواصون «ينبرون وحله باصطبار باحثين عن صدفة يفلقونها فتلد لهم درة حبلى نضيرة». لذلك نجد تراثنا البحريني مليئاً بقصص وألعاب وعادات اجتماعية ارتبطت دوماً بالبحر، كتقليد الضحية أو «الحية بية» الذي يترافق مع مناسبة عيد الأضحى المبارك.

يحدثنا الأولون بأن الأطفال في هذه الجزيرة الوادعة كانوا يتجهون عصر يوم العيد بملابسهم الجديدة إلى أقرب ساحل للبحر ليرموا «ضحيتهم» التي لا تعدو كونها سلة محاكة من سعف النخيل تضم بداخلها بذوراً زرعوها سابقاً ليتشبهوا بفعل التضحية ذاك بحجاح بيت الله الحرام.

لايزال البحرينيون يحاولون التشبث بأهداب تقاليد تراثية من هذا النوع، فيحرصون مثلاًَ على أن يتجه أطفالهم عصر يوم عيد الأضحى أو الأيام التالية له إلى السواحل - أو ما بقي منها - ليرموا بأضحياتهم أو «الحية بية»، غير أن السواحل التي لا يجدون اليوم منفذاً لها تقف لهم بالمرصاد لتذكرهم بأنين صواريها، وبأن طريقهم إليها مسدود، وبأن زمان الدرر الحبلى قد ولى دون رجعة، تاركاً معه «ليل المحرق الذي يغرق في متاهات الظلام».

تزامناً مع كل عيد أضحى في كل عام، ووسط فرح الأطفال وصخبهم قريباً من سواحل البحرين التي يتزين بعضها لمرتاديها على غير العادة، يتصاعد في المساء وبعد أن يخفت الصخب «لحن عراقي حزين يزرع الآه وأصداء الأنين» مذكراً بأن سنين الغوص تحولت إلى علاقة موسمية، وأن أساطير الخليج محظورة فمنافذ البحر محدودة وغير قابلة للتنفس.

تنتظر الأطفال وأهاليهم في هذه المناسبة من كل عام متاهات يجب عليهم أن يخوضوها قبل أن يصلوا إلى أي ساحل للبحر فيرموا «الحية بية» ويولوا مدبرين. فالطريق ليس سهلاً أو معبداً حتى لو «زغردت لهم أم جاسم».

ومع الاعتذار للشاعر الرائع علي عبدالله خليفة على كثرة الاستعارات في هذا المقال، سيبقى «الإنسان في ذاته يردد: متى أرفع رأسي للصواري شامخاً مثل شراعي في فضا كل البحار؟». وستبقى الصواري تأن، وسيظل ابن البحرين باحثاً عن جزاء «لصبر قلبه المحرق» حتى يستعيد علاقته الطبيعية «ببحوره»

إقرأ أيضا لـ "ندى الوادي"

العدد 2998 - السبت 20 نوفمبر 2010م الموافق 14 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 11:22 ص

      أم جاسم

      تسلمين على هالمقال يا بنت الوادي

    • زائر 4 | 10:18 ص

      على الوتر

      اصبتي يااستاذه .. ولاكن الأهم من الذي باستطاعته ان يملك الساحل والبحر ؟ هل هو المواطن ( المعتر الغلبان ) ام صاحب النفوذ والذي لا يوجد من يستطيع محاسبته ولا منعه لانه خط احمر ... ويمنع حتى النظر اليه !!!!!!!!!!!

    • زائر 3 | 9:19 ص

      ذكريات لاتغيب عن مخيلتي

      في ستينيات القرن الماضي كنت مع ابناء جيلي نفترش العشب الجميل والرمال الناصعة البياض على شاطئ باربار وكنا نصطاد سمك الميد بالقرب من ذلك الساحل المعروف بجذوره التاريخية وارتباطه بحضارة الغوص وكانت بقايا اسطول الغوص لرجل اللؤلؤ المعروف الحاج احمد الشويخ شامخة تشير الى عمق ارتباطه بحضارة الاجداد ، في ذلك الزمان كان الاهالي يتوجهون زرفات زرافات في عيد الاضحى للاستمتاع بجمال الساحل الطبيعي وممارسة الطقوس الدينية والشعبية ويزيد صراخ الاطفال وضحكاتهم ذلك الشاطئ جمالا.
      تلك نعمة ازيلة من ذاكرة التاريخ.

    • زائر 2 | 4:08 ص

      نعيش ونشوف

      من يملك قرار الدفن ليس عنده مشكلة في الذهاب لأي ساحل ممنوع على البشر

    • زائر 1 | 3:04 ص

      هبه الله

      البحر من نعم الله التى لا تحصى وهبها لكل كائن حى ونحن نتفنن فى القضاء عليه ودفنه بكل ما اتينا من قوه _ شكرا استاذه لهذا الاهتمام وارجو المزيد من التركيز على هذا البحر الذى لم نعد نراه الا فى الصور بعد ان كانت امواجه ترتطم ببيتنا فى راس رمان

اقرأ ايضاً