العدد 3010 - الخميس 02 ديسمبر 2010م الموافق 26 ذي الحجة 1431هـ

الاعتزال القلق واقتتال غرناطة وفاس

ابن خلدون بين السياسي والثقافي(1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قبل أن يأخذ ابن خلدون قرار الانقطاع للعلم والعزلة الاجتماعية في قلعة ابن سلامة مر في مرحلة انتقالية يمكن وصفها بالقلق السياسي إذ أبقى صلته بالمحيط والعالم الخارجي. فالعزلة الاجتماعية لم تكن واردة آنذاك أو أنه لم يفكر بها بشكل جدّي.

كيف قضى انعزاله السياسي ولماذا اندفع لاحقاً إلى العزلة التامة والانقطاع عن العالم؟

استقر ابن خلدون كما ذكرنا عند أمير بسكرة وشيخها وأرسل شقيقه يحيى إلى تلمسان ليأخذ نيابة عنه منصب الحجابة وقرر هو الانقطاع إلى العلم والتدريس.

في هذه الفترة وصلته رسالة من صديقه الوزير المؤرخ ابن الخطيب يعتذر فيها عن ما مضى ويبث فيها أشواقه وعواطفه ومحبته واحترامه. ويبدو أن رسالة ابن الخطيب كان لها وقعها الطيب عند ابن خلدون إذ وصلته في أصعب حالاته، وحركت فيه الحنين إلى الماضي وأعادت ترميم صداقة تجمع ما بين السياسي والثقافي وتشترك فيها تلك الرغبة في معرفة التاريخ وملاحقة حوادث الحاضر.

لكن رغبة الثقافي كانت تصطدم بعقبات السياسي إذ تتدخل عوامل المحيط بالدوافع الذاتية. فالرغبة بالعلم والتدريس مزقتها المغامرات المفروضة من الخارج في محاولة منها للاستيلاء على مستقبل رجل شاب أصابه الإحباط وأراد أن ينفرد بعالمه الخاص ويتأمله داخلياً انطلاقاً من تجاربه القاسية. لكن الرغبة الفردية شيء والواقع بما يفرضه من شروط شيء آخر. إذ على رغم قرار ابن خلدون اعتزال السياسة في بسكرة واصل سلاطين المنطقة الاتصال به طمعاً لكسبه إلى جانبهم أو الطلب منه التوسط بين بعضهم. فيذكر أن سلطان تلمسان أبو حمو واصل مسعاه للسيطرة على بجاية وانتزاعها من السلطان أبو العباس فأخذ يعمل على «استئلاف قبائل رياح لذلك ومعولاً على مشايعتي فيه» (التعريف ص 515). وحاول سلطان تلمسان تنظيم تحالف مع سلطان تونس من بني أبي حفص مستغلاً عداوته لابن أخيه سلطان بجاية أبو العباس بسبب خلافهما على «مقاسمة النسب والملك». ومن أجل تنظيم العلاقة وبناء التحالف كان يرسل له الوفود في كل وقت و«يمرون بي، وأنا ببسكرة، فأوكد الوصلة بمخاطبة كل منهما» (التعريف، ص 515).

ابن خلدون الذي كره السياسة وابتعد عنها وجد نفسه من جديد يقوم بدور الوسيط وتأليف القبائل وتنظيم الاتصالات غصباً عنه في وقت كان نظام القرابات يشهد حالات من التفكك والتبعثر. فالسلطان أبو حمو ضد ابن عمه سلطان بلاد حصين أبو زيان، وسلطان بجاية أبو العباس ضد ابن عمه سلطان تونس أبو اسحق ابن السلطان أبو بكر (بنو حفص). وأبو حمو يحاول ترتيب علاقة مع سلطان تونس لمواجهة ابن عمه الذي تحالف ضده مع سلطان بجاية أبو العباس، الأمر الذي منعه من استرداد المدينة التي كان يحكمها والد زوجته.

هكذا وجد ابن خلدون نفسه في اتون صراعات تتناسل من دون نهاية بين أقرب الأقرباء وكل طرف يريد تأييده أو مؤازرته في تأليف القبائل أو تأليبها. وأقدم السلطان أبو حمو على تنظيم عساكره وتوجه إلى بلاد حصين لانتزاعها من ابن عمه أبو زيان في منتصف سنة 769 هجرية (1367م) واعتصم في جبل تيطري وطلب من ابن خلدون مساعدته... و»بعث إليّ في استنفار الدواودة (القبائل العربية) للأخذ بحُجزتهم من جهة الصحراء» (التعريف، ص 515). ووجد نفسه في قلب المعمعة القبلية إذ سار مع قبائل الدواودة وأولاد ابن مزنى لتعزيز قوات سلطان تلمسان. ووصل خبر الحشود إلى سلطان بجاية أبو العباس فاستنفر قبائل رياح فارتبكت احياء الدواودة و»هجموا على معسكر السلطان أبو حمو ففلوه ورجع منهزماً إلى تلمسان» (التعريف، ص 515).

لم يتعلم صاحب تلمسان من هزيمته الثالثة فاستمر ينظم جيوشه ومعسكره ويكلف ابن خلدون بمساعدته في تأليف القبائل ويعيد «الكرة على بجاية عاماً فعاماً، وأنا على حال في مشايعته وإيلاف ما بينه وبين الدواودة والسلطان أبي اسحق صاحب تونس، وابنه خالد من بعده» (التعريف، ص 515).

استمر صاحب تلمسان يكرر الأمر بين كر (هجوم) وفر (هزيمة) إلى أن كانت سنة 771 هجرية (1369م) «فوفدت عليه بطائفة من الدواودة (...) نطالعه بما يرسم لهم من خدمته (...) وضرب لنا موعداً بالجزائر (...) وبينما نحن في ذلك، بلغ الخبر بأن السلطان عبدالعزيز صاحب المغرب الأقصى من بني مرين، قد استولى على جبل عامر بن محمد الهنتاتي بمراكش (...) وأنه عازم على النهوض إلى تلمسان (...) فأضرب السلطان أبو حمو عن ذلك الشأن الذي كان فيه، وكر راجعاً إلى تلمسان» (ص 516).

وجد ابن خلدون نفسه في وضع لا يحسد عليه فهو تردد سابقاً في قبول منصب الحجابة في تلمسان وأرسل شقيقه نيابة عنه لأنه لا يريد العودة إلى تسلم الوظائف وتعاطي السياسة الرسمية، وقرر أيضاً ترك «غواية الرتب» لما فيها من أهوال والإعراض عن الخوض في أحوال الملوك والتفرغ للمطالعة والتدريس بعد أن طالت فترة «إغفال العلم» كما قال.

لكن القرار في النهاية ليس شخصياً بل هو بحاجة إلى ظروف مساعدة لتنفيذه. وعندما لم تتوافر له تلك الظروف المناسبة قرر التهرب من تلك المهمات المكلفة التي تضيّع الجهد والوقت، وفكر في ترك بسكرة والذهاب إلى الأندلس.

اختار ابن خلدون غرناطة بعد أن عادت الاتصالات بينه وبين صديقه وغريمه ابن الخطيب حين أرسل الأخير خطابات له بدأ باستلامها في 770 هجرية (1368م) يعتذر فيها عن الماضي ويؤكد حبه وشوقه له وإعجابه بعلومه ومعارفه. ويبدو أن تلك الخطابات شجعته على التفكير بالارتحال مجددا والانتقال إلى الأندلس للالتقاء بصديقه الوزير المؤرخ.

طلب الإذن بالانصراف إلى الأندلس «فأذن لي وحملني رسالة فيما بينه وبين السلطان ابن الأحمر» (التعريف، ص 516). وحمل المسكين ابن خلدون الرسالة لكنه وجد صعوبة في الانتقال إلى الأندلس بسبب انقطاع السبل وكثرة الاقتتال القبلي واضطراب الأحوال فوجد نفسه يقيم لفترة في بلدة هنين بانتظار توافر وسيلة للأبحار إلى غرناطة. وعلم السلطان عبدالعزيز الذي كان اعتزم الاستيلاء على بجاية بأمره فأرسل سرية إلى هنين لاعتقاله وأخذ الوديعة (الرسالة) التي يحملها. وجاءت السرية واعتقلت ابن خلدون وحملوه إلى السلطان عبدالعزيز الذي كان في طريقه إلى تلمسان فوجد مبالغة في الخبر و»سألني في ذلك المجلس عن أمر بجاية (...) فهونت عليه السبيل إلى ذلك فسر به» (التعريف، ص 517). لم يدم اعتقال ابن خلدون أكثر من ليلة واحدة وأطلق سراحه في الغد «فعمدت إلى رباط الشيخ الولي أبي مدين ونزلت بجواره مؤثراً للتخلي والانقطاع للعلم لو تركت له» (التعريف، ص 517).

بقي قرار ابن خلدون بين ترك السياسة والانقطاع إلى العلم في «رباط الشيخ الولي» معلقاً. فهو ترك السياسة لكن رجال السياسة لم يتركوه. إذ لم يستقر في رباطه الجديد عند الشيخ أبو مدين حتى جاء خبر دخول السلطان عبدالعزيز تلمسان والاستيلاء عليها.

آنذاك قرر ابن خلدون الاعتزال وهو في سن الأربعين والتفرغ للعلم والتدريس إلا أن السلطان الجديد (عبدالعزيز) استدعاه وهو في خلوته «بالعباد عند رباط الولي أبي مدين. وأنا قد أخذت في تدريس العلم، واعتزمت على الانقطاع» (التعريف، ص 517). ولم يكن بوسعه سوى قبول العرض ولعب دور الوسيط بين القبائل وتأليف شيوخ الدواودة وكسب تأييدهم له. ويروي العديد من القصص وكلها تدور حول خلافات ابن العم مع ابن الخال والأخ ضد الشقيق والابن ضد الأب والأولاد ضد الأولاد وكلها تشير إلى حال الفوضى القبلية وتفكك العصبيات وقيام تحالفات مطاطية ما أن تنهض اليوم حتى تنهار غداً على أتفه سبب من دون رابط لها ولا ناظم. فلكل دولته ولكل دورته. وأسوأ ما في الأمر اضطرار ابن خلدون إدخال نفسه في دوامة من المنازعات تلبية لرغبات لم تعد تلقى الهوى الداخلي ولا تنسجم مع قراره بالانقطاع والتفرغ للعلم والتدريس. وهكذا نجده يذهب إلى أحياء حصين ثم إلى بلاد رياح وأولاد سباع بن يحيى من الدواودة لتجميع القوى وتأليفها لدعم السلطان عبدالعزيز. وما كان ينجح في مهمة حتى تفشل أخرى في وقت كان السلطان عبدالعزيز يلاحق السلطان المهزوم أبو حمو إلى بطاح بني عامر حين كبسوا معسكره وهزموه من جديد لكنه أيضاً «نجا بنفسه تحت الليل (...) واجتمعوا بقصور مُصاب من بلاد الصحراء» (التعريف، ص 518).

في الفترة نفسها كان ابن خلدون نجح في مهمة تأليف شيوخ الدواودة وارتحل معهم «في وفد عظيم» إلى السلطان عبدالعزيز، وكان حسب وصفه «يوماً مشهوداً» أذن لهم بعد اللقاء الانصراف إلى بلادهم. ثم كلفه بمهمة جديدة وهي اقناع الدواودة بأخراج أبو زيان من مضاربهم خوفاً من رجوعه إلى أحياء حصين الذين «توجسوا الخيفة من السلطان وتنكروا له» (التعريف، ص 519). ووصل صاحبنا متأخراً إذ حصلت تحالفات انقلابية جديدة وعاد الخلاف إلى ما كان عليه، الأمر الذي أدى إلى اشتعال «المغرب الأوسط ناراً» على حد قول ابن خلدون. فاضطره الاضطراب الدموي الجديد إلى الانقطاع في بسكره «وحال ذلك ما بيني وبين السلطان إلا بالكتاب والرسالة» (التعريف، ص 519).

وحصل ما لم يكن يتوقعه ابن خلدون حين وصله خبر هروب صديقه الوزير المؤرخ من الأندلس وطلبه اللجوء إلى تلمسان. وكتب إليه السلطان عبدالعزيز يخبره بوصوله في وقت طال مقامه مع أسرته في بسكرة و«المغرب الأوسط مضطرب بالفتنة المانعة من الاتصال بالسلطان عبدالعزيز» (التعريف، ص 526).

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3010 - الخميس 02 ديسمبر 2010م الموافق 26 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً