العدد 3059 - الخميس 20 يناير 2011م الموافق 15 صفر 1432هـ

متى كتب ابن خلدون المقدمة وكيف؟

الانقطاع عن العالم والخروج من العزلة (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يبدو كلام ابن خلدون الثاني يناقض الأول عن كتابته المقدمة وتاريخه عندما كان معتكفاً في قلعة ابن سلامة. لكن إذا دققنا في الفقرتين نجدهما غير متناقضتين على رغم الغموض والتشويش الذي يحوم حولهما.

في كلامه الأول يقول «أكملت المقدمة منه (من تاريخه) على ذلك النحو الغريب» و«فرغت من مقدمته إلى أخبار العرب والبربر وزنانة» وأراد «التنقيح والتصحيح» فلم يجد المصادر والمراجع الكافية.

في كلامه الثاني يقول «أكملت منه أخبار البربر وزنانة، وكتبت من أخبار الدولتين وما قبل الإسلام ما وصل إليّ منها»، ثم أكمل من مؤلفه النسخة الأولى رفعها إلى السلطان فوضعها في مكتبته للاطلاع عليها بسبب شغفه بالمعارف والأخبار.

وفي حال قارنا بين الفقرتين نجد الاختلاف الآتي:

في كلامه الثاني لم يتطرق إلى المقدمة، الأمر الذي يسمح بالافتراض أنه فعلاً أكملها خلال فترة وجوده في القلعة وبالتالي لم يجد ضرورة لمراجعتها أو على الأقل تهذيبها وتنقيحها.

حتى هنا لا مشكلة، يبدأ التشويش عند كلامه عن تاريخه، فهو في الفقرة الأولى يقول إنه بعد الفراغ من المقدمة وصل «إلى» أخبار العرب والبربر وزنانة، وفي الفقرة الثانية يقول «أكملت منه» أخبار البربر وزنانة، ولا يشير إلى أخبار العرب. فهل كان انجزها خلال إقامته في القلعة ولم يجد ضرورة لمراجعتها، فانكب على تنقيح وتصحيح أخبار البربر وزنانة بسبب غموضها أو عدم وضوح تشعباتها في ذهنه. ابن خلدون لا يشرح الأسباب لأنه يأتي على ذكر أخبار التأليف والتنقيح سريعاً وكأنه جانب ثانوي في حياته. حتى أنه لم يذكر فترة انقطاعه للعلم وانعزاله في القلعة إلا مرة واحدة وفي أقل من فقرتين.

نتابع المقارنة بين الفقرتين. في الأولى يتحدث عن نقص المراجع والمصادر، بينما في الثانية يؤكد أنه أضاف وكتب من أخبار الدولتين (يقصد الأموية والعباسية) وما قبل الإسلام. ويضع ملاحظة ملفته وهي «ما وصل إليَّ منها» أي كأنه يشير إلى نقص في المراجع والمصادر فوضع الخطوط العريضة ثم أكمل تاريخه في فترات لاحقة.

استغل بعض الباحثين التشويش المذكور ليشن حملة ضد ابن خلدون اتهمه بعضهم بأنه أخفى المدة الزمنية الفعلية التي قضاها في كتابة مقدمته وتاريخه، كذلك أخفى الفترات التي عاد بها إلى المقدمة وكتاب التاريخ ليراجعهما ويصححهما وينقحهما، كذلك لم يذكر تلك الاضافات والتعديلات والزيادات، الأمر الذي أوقع مختلف الباحثين في حيرة للتمييز بين نسخته الأولى الناقصة التي أهداها لسلطان تونس قبل مغادرته إلى مصر وتلك النسخ الكاملة والنهائية التي اشتغل عليها في القاهرة.

قبل الانتقال إلى خلافات الباحثين بشأن هذه النقطة يمكن ترتيب كلام ابن خلدون وفق السياق الآتي:

فرغ من كتابة المقدمة في قلعة ابن سلامة، وضع الخطوط العريضة وصاغ مخططه التاريخي «إلى» أخبار العرب والبربر وزنانة في القلعة، وجد أن مكانه لا يوفر له كل المراجع والمصادر، فأخذ يعتمد على ذاكرته لكنه وجد أنه لا مفر من التنقيح والتصحيح بعد توفير المراجع. بعدها انتقل إلى تونس و«أكمل» من تاريخه أخبار البربر وزنانة، ثم أضاف ما وصل إليه من أخبار الدولتين وما قبل الإسلام.

يفترض المنطق المذكور أن ابن خلدون قضى أكثر من 8 سنوات في كتابة النسخة الأولى من مقدمته وتاريخه (4 سنوات في القلعة و4 سنوات في مزرعته في ضيعة الرياحين في تونس) وليس أربع سنوات فقط. كذلك يفترض المنطق أنه تابع كتابة ما نقص من تاريخه وأضاف الكثير من المسائل والنقاط على مقدمته خلال وجوده في القاهرة. مثلما يفترض المنطق أنه خطط لمشروعه بعد سقوط ولاية بجاية في سنة 767 هـ (1365م).

ابن خلدون لم ينكر متابعته لتاريخ الحوادث والاضافات والتصحيحات والتنقيحات. فهو واصل كتابة أخبار عصره إلى سنة 793 هـ (1391م) وختم تاريخه إلى خبر إمارة عبدالرحمن في المغرب، وكرر قصة السلطان ابن الأحمر ومصير صديقه الوزير ابن الخطيب وصولاً إلى «صاحب المغرب لهذا العهد» السلطان ابن العباس (أحمد بن أبي سالم) الذي خص «القرابة المرشحين منهم بمزيد تكرمته وعنايته»... و«الأمر على ذلك لهذا العهد، وهو سنة ثلاث وثمانون وسبعمئة» (المجلد السابع، صفحة 450). وقبل رحيله عن الدنيا انكب ابن خلدون على تأليف كتاب «التعريف» الذي يروي فيه قصة حياته ومذكراته مختلطة بتواريخ رجال عصره من مفكرين وسياسيين وقادة دول وتوقف في 807 هـ (1404م) أي قبل أقل من سنة من وفاته (808 هـ).

إذا كان الأمر كذلك، ما هي الثغرة التي نفذ منها بعض الباحثين للتشكيك في «عبقرية» ابن خلدون وعلومه؟

اتخذ بعض الكتَّاب فقرة وردت في خاتمة المقدمة (وهي الجزء الأول من تاريخه) ذريعة للتهجم ولصق مختلف الرذائل بحق ابن خلدون.

تقول تلك الفقرة التي جاءت بعد خاتمة المقدمة «اتممت هذا الجزء الأول، المشتمل على المقدمة بالوضع والتأليف، قبل التنقيح والتهذيب، في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف العام تسعة وسبعين وسبعمئة، ثم نقحته بعد ذلك وهذبته، وألحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوَّله وشرطتُهُ» (المجلد الأول، صفحة 710).

الفقرة فعلاً تثير بعض التشويش وتفتح مجال «الشك»، لكن في حال قراءة الفقرة ثانية ومقارنتها بما سبق وقاله ابن خلدون في مذكراته (كتاب التعريف) يزول الانطباع السريع الأول ويتضح معنى الفقرة. ابن خلدون دخل القلعة وانقطع عن العالم في سنة 776 هـ (1374م) بعد مقتل صديقه ابن الخطيب. ويقول إنه أنهى الجزء الأول من تاريخه (المقدمة) في منتصف سنة 779 هـ (1377م) ثم يقول إن مدة وضعها وتأليفها أخذت منه خمسة أشهر، أي أن صياغة المقدمة استغرقت هذه الفترة القصيرة لأنه، كما يبدو، قضى أكثر من ثلاث سنوات ونصف سنة وهو يضع مخططه التاريخي ويجمع المعلومات ويسجل الملاحظات قبل أن يبدأ بالكتابة. ثم يتحدث عن مرحلتين من التنقيح والتهذيب، الأولى تنقيح وتهذيب المقدمة وحدها (الجزء الأول) والثانية إعادة التنقيح والتهذيب بعد ذلك قبل أن يلحق بها تواريخ الأمم. وهو أمر استمر طوال حياته، إذ كان يراجع تاريخه (وربما مقدمته وهي الجزء الأول من كتابه) إلى السنوات الأخيرة من عمره. فابن خلدون غادر القلعة بعد أربع سنوات وذلك سنة 780 هـ (1378م) بسبب نقص المراجع والمصادر، ولجأ إلى حماية سلطان تونس آنذاك وشجعه الأخير على إكمال مشروعه، فأكمل وأضاف الأجزاء التي تحدث عنها (النسخة الأولى من عمله) قبل خلافه مع بطانة السلطان ومغادرته تونس إلى مصر في سنة 784 هـ (1382م). إذاً مسألة «خمسة أشهر» هي فترة صياغة المقدمة وكتابتها ولا تشمل مدة الإعداد والقراءة وتجميع المعلومات وتسجيل الملاحظات. كذلك لم يوفَّق في المدة التي قضاها في القلعة (أربع سنوات) من إنهاء كل تاريخه، فمن الواضح أنه أصيب بالمرض ثم شفي، ثم ضربته الوحشة، فخاف أن يموت وهو بعيد عن مساكن أهله ومقابرهم، ثم اكتشف النقص في مكتبته وحاجته إلى المزيد من المصادر والمراجع للتهذيب والتنقيح وإكمال المشروع، فترك القلعة إلى تونس طلباً للراحة والعلم في آن. وإذا جمعنا كل الفترة منذ سقوط ولاية بجاية واعتزاله السياسة (الفترة القلقة) في 767 هـ إلى مقتل صديقه في 776 هـ وانقطاعه في القلعة (فترة العزلة) ثم خروجه إلى تونس ثم خروجه من تونس في 784 هـ يبلغ حسابها المشترك أكثر من 17 سنة قضاها ابن خلدون يفكر ويخطط لإنجاز مشروعه. وبعد أن تجمعت المعلومات والملاحظات لديه باتت مسألة صياغة الفقرات وتركيب الأفكار مسألة سهلة وأقل صعوبة من مرحلة التجميع والتفكير والتأمل.

نتوقف هنا لأننا سنعود إلى هذه المسألة الدقيقة والحساسة مرة أخرى عند معالجة موضوع المقدمة وما طرأ عليها من تعديلات (تهذيب وتنقيح) وكيف رتب ابن خلدون أبوابها وفصولها حتى تتماسك بسبب مراجعته لها وعودته إليها مرات عديدة بعد انجاز نسختها الأولى في تونس. نتوقف لنعود إلى نقطتين: تأثره بفقه الإمام الغزالي و خلافه مع «شيخ الفتيا» في تونس ابن عرفة وبطانته من المحيطين بالسلطان.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3059 - الخميس 20 يناير 2011م الموافق 15 صفر 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً