العدد 307 - الأربعاء 09 يوليو 2003م الموافق 09 جمادى الأولى 1424هـ

أزمة الهوية والانتماء في الكيان الصهيوني والانعكاسات السلبية للتوسع الاستيطاني

خليل تقي comments [at] alwasatnews.com

تكرس وتؤكد الحقائق التي أفرزتها المواجهات اليومية الدامية بين الشعب العربي الفلسطيني المقاوم وقوات الاحتلال الصهيوني منذ اندلاع الانتفاضة الوطنية الباسلة، سقوط النبوءة التي بشرت بأن «اسرائيل» ستكون مركزا روحيا يدعو العالم إلى العيش فيه ويمنعهم من الاندماج في المجتمعات التي عاشوا بين ظهرانيها، إذ ازدادت المخاوف التي تسيطر على عقلية الصهاينة بسبب عدم الاستقرار، في ظل رفض غالبية اليهود في العالم الاستجابة للدعوات الصهيونية، الأمر الذي جعل التجمع الاستيطاني الصهيوني بحاجة دائمة إلى المادة البشرية من أجل تحقيق عملية الاستيطان.

ومنذ الاحتلال الصهيوني لفلسطين العربية في العام 1948، أقدم الارهابي «ديفيد بن غوريون» على نقل عدد كبير من الجاليات اليهودية من الدول العربية الى «اسرائيل» ليس بدافع الحرص على مصلحتهم، وانما بهدف تحقيق غالبية يهودية، لكن هذه الجاليات لم تستطع الانصهار مع الجاليات الأخرى، إذ فشل الصهاينة في مزج (يهود المنفى) ولم يتمكنوا من ايجاد (شعب واحد)، ما أدى الى خلق مشكلات ديموغرافية من جراء وصول جماعات يهودية ذات معتقدات دينية واثنية مختلفة عمقت التمايز العرقي، الذي تفاقم في ظل هجرة اليهود السوفييت في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، ووصل ذروته اثر هجرة يهود روسيا في اعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، ووصول أعداد كبيرة من يهود (الفالاشا) من القارة الافريقية، وأدت محاولات صهر المستوطنين في (هوية يهودية) الى نتائج عكسية عززت التناقض وعمقته، وباتت أزمة الهوية من أبرز الاشكاليات التي رافقت التجمع الاستيطاني الصهيوني منذ وجوده السرطاني فوق أرض فلسطين العربية، إذ تأججت النزعة العنصرية لدى (الاسرائيليين) في مختلف نواحي حياتهم الاجتماعية، فاليهود (الاشكناز) الذي هاجروا من الدول الغربية والولايات المتحدة الاميركية يختلفون عن يهود (الفالاشا) الذين ينتمون الى القارة الافريقية، ويتحدثون اللغة الامهرية، وكلاهما يختلف عن (اليهود الروس) الذين يضمون عددا كبيرا من غير اليهود، الذين فقدت غالبيتهم هويتها الدينية فأصبحت من (الاغيار)، أما اليهود (السفارديم) الذين قدموا من الشرق والدول العربية، وبشكل خاص من المغرب، فيحاولون أن يتركوا أثرا في الحياة السياسية لكي يجعلوا لهم كيانا خاصا بهم بسبب يهوديتهم الواضحة وحقدهم على غيرهم.

وأما (يهود الصابرا) الذين ولدوا على فلسطين العربية المحتلة فينظرون باحتقار الى يهود (الدياسبورا) في الخارج، ويرون أن حياة هؤلاء اليهود تتسم بالسلبية والدونية لأنهم يقبلون حكم (الأغيار).

ومازال التجمع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين العربية المحتلة بتركيبته القائمة غير مهيأ للجمع بين الشروط المتناقضة والمتمثلة في الواقع السياسي والاجتماعي من جهة وما تدعيه الصهيونية بأنها حركة انقاذ لليهود من جهة أخرى، الأمر الذي يشكل أحد أهم سمات أزمته الداخلية، فالصهيونية التي حشدت المستوطنين على أرض فلسطين العربية، وأقامت لهم مؤسسات اقتصادية وسياسية وعسكرية، لم تتمكن من تقديم الحلول اللازمة للاشكاليات التي برزت في سياق تحويل المستوطنات الى (دولة يهودية).

كما ان محاولات الجمع بين (يهودية الدولة) وديمقراطية النظام السياسي في اطار قومي جعلت من «اسرائيل» كيانا لا هو (دولة يهودية) ولا هو (دولة ديمقراطية) بل (تجمع استيطاني صهيوني يكتسب طابع الثكنة العسكرية التي تقف على رأسها مؤسسة عسكرية منظمة تنظيما دقيقا، تحتوي على ترسانة هائلة من الاسلحة النووية والتكنولوجيا المتطورة)، ولذلك امتنع الصهاينة عن وضع دستور لها يحدد طبيعتها وجغرافيتها وعلاقاتها، ولها دورها الوظيفي على الصعيد العدواني في اطار المشروع الصهيوني.

وعلى رغم الاغراءات وعمليات التشجيع التي يتلقاها اليهود في الخارج، ظلت «اسرائيل» هي الخيار الثاني وليس الخيار الأول، إذ ان معظم المهاجرين اليهود يتوجهون الى الولايات المتحدة الاميركية أكثر مما يتوجهون الى «إسرائيل»، ذلك أن اليهود في العالم ولاسيما جيل الشباب يميلون الى الاندماج في الحضارة العلمية السائدة في المجتمع الغربي، حتى جيل (الصابرا) الذي يسمى جيل التكنولوجيا، تسيطر عليه الثقافة الشعبية ذات الصبغة الاميركية إذ تنتشر في «اسرائيل» الافلام الاميركية مثل رعاة البقر وأفلام الجريمة والسرقة والاغتصاب، ولذلك تعمل الصهيونية على تحقيق الانسجام مع التوجهات الراهنة لليهود في المجتمعات الغربية من خلال تقديم «اسرائيل» على انها بلد المشروعات الرأسمالية الناجحة.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل إلى لجوء بعض المستوطنين للهجرة المعاكسة، إذ ذكر التلفزيون الاسرائيلي بتاريخ 2 يناير/ كانون الثاني 2003 أنه بدأت ظاهرة توجه عدد من الاسرائيليين الى السفارات البولونية والألمانية لاستعادة جنسياتهم القديمة قبل الهجرة بهدف البقاء في بلدانهم وعدم العودة الى «اسرائيل»، ما زاد من مخاوف القادة الصهاينة على مستقبل اليهود في «اسرائيل»، في ظل التكاثر السكاني للفلسطينيين وتشبثهم بالأرض على النحو الذي جعلهم قنبلة ديموغرافية تهدد مستقبل اليهود.

وتبذل الوكالة اليهودية جهودا حثيثة لمعالجة النقص الحاصل في عدد المستوطنين من جراء الهجرة المعاكسة باللجوء إلى تهجير جاليات يهودية كاملة مع قياداتها الروحية تحت اسم (هجرة الحاخام وجاليته) من مدن مختلفة في الولايات المتحدة الاميركية وأوروبا، وبشكل خاص من فرنسا مستغلة ما تسميه (تعاظم مظاهر اللاسامية).

وعلى رغم الجهود المبذولة لتحقيق الهجرة الى «اسرائيل»، فإن الوكالة اليهودية لم تتمكن من حل مشكلة (الهوية اليهودية)، ولم يقتصر فشل الصهاينة على عجزهم عن مزج (يهود المنفى)، بل فشلوا في تعريف اليهودي أيضا، إذ ان المهاجرين الذين يعتبرون يهودا بناء على مواصفات اصلاحية يتحولون الى اشخاص ليسوا يهودا بمجرد وصولهم الى «اسرائيل» وفقا للتفسيرات الدينية للقانون اليهودي.

ويمثل هذا الموقف جوهر الصراع بين التيار الأصولي والتيار العلماني في «اسرائيل»، الذي يعتبر ان اليهودي هو ذلك الشخص المولود لأم يهودية أو الذي اعتنق الدين اليهودي وليس من أتباع ديانة أخرى، بينما الأحزاب الدينية تحاول اضافة فقرة (بناء على الدين اليهودي)، ويؤيد هذا الموقف حزب الليكود ويرفضه حزب العمل، وأحيانا يرفضه الحزبان معا، ما يجعله قضية انتخابية وتحالفات حكومية لكسب الاحزاب الدينية الصغيرة، الى أن تم تعديل (قانون العودة) الذي يمنح الجنسية الاسرائيلية بشكل فوري لكل من يتحدر من عائلة فيها أب يهودي أو أم أو جد أو عم أو خال يهودي، وأصبح القانون الجديد بحسب قرار الحكومة الاسرائيلية في جلستها بتاريخ 23 يونيو/ حزيران 2002 يقضي بأن المهاجر الجديد يحصل على الجنسية اذا هاجر الى «اسرائيل» وجلب معه قريبا يهوديا، أي لا يتيح له الحصول على الجنسية اذا حضر وحده، وقد وافق كل من حزبي الليكود والعمل على هذا التعديل الذي يعتبر شرطا لضمان (يهودية الدولة) بعد ان عارضاه قبل عشر سنوات عندما طرح على الكنيست.

ومهما يكن من أمر، فإن التحديات التي تواجه التجمع الاستيطاني الصهيوني في تحقيق (يهودية الدولة)، ستزداد بشكل مطرد كلما حاول قادة الاحتلال توسيع رقعة الاستيطان، في ظل الازمة المتشكلة من جراء الهجرة المعاكسة والحضور الفلسطيني المتمثل بالتشبث بالأرض والتمسك بالهوية العربية والقومية في مواجهة الاحتلال الصهيوني وآلته القمعية الارهابية

العدد 307 - الأربعاء 09 يوليو 2003م الموافق 09 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً