العدد 3080 - الخميس 10 فبراير 2011م الموافق 07 ربيع الاول 1432هـ

القاهرة... حضرة الدنيا وبستان العالم ومحشر الأمم

رحلة ابن خلدون إلى مصر (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

السؤال لماذا اختار ابن خلدون مصر وليس غيرها من البلدان؟ لا جواب مباشراً في كتاب (التعريف). كل ما يذكره أنه تذرع بفريضة الحج ليتهرب من سفرات وجولات سلطانه وليهرب من البطانة وأهل السعايات في تونس. وبما أن طريق الحج (من المغرب) يمر بالضرورة في مصر فانه اختارها مصادفة كذلك وجد مصادفة سفينة تجار الاسكندرية فاستقلها وأبحر.

لكن الأمر أبعد من ذلك. اختيار ابن خلدون ليس مصادفة بل هو المكان الوحيد الآمن المسموح له بدخوله آنذاك. كذلك مصر هي البلد الذي لا تعم فيه الفوضى ولا تقوم على أرضه المشاكل.

الأندلس ممنوع عليه دخولها وهي في حال قتال دائم مع ممالك الفرنجة. والمغرب في حال فوضى واضطراب كذلك يخاف من القاء القبض عليه بعدما اتهم انه حاول التوسط للافراج عن صديقه ابن الخطيب لدى سلطان غرناطة ابن الاحمر. وصاحب تلمسان غاضب عليه لانه تهرب منه واعتذر عن القيام بمهمات دبلوماسية كلفه بها مع قبائل الدواودة. وصاحب بجاية يحرم عليه دخولها بعد سقوطها ومقتل صديقه السلطان وخسارته منصب الحجابة وعدم مناصرته السلطان الجديد.

اختيار مصر ليس مصادفة بل جاء عن قصد لأنها البلد الوحيد الذي يحق له دخوله ويستطيع ان يتحرك فيه بحرية. كذلك أخذت مصر تنعم منذ فترة ليست وجيزة بالهدوء والأمن في عهد المماليك وخصوصاً في فترة السلطان الظاهر. وشهدت آنذاك حركة عمرانية وفكرية قل نظيرها وتحولت إلى مركز استقطاب لمختلف التيارات الفقهية والثقافية بسبب اعتماد الدولة المملوكية نظام التعدد المذهبي وعدم التزام السلطة بمذهب فقهي واحد فاحدث الأمر حالاً من النضج الثقافي والازدهار الفكري في القرن الثامن للهجرة لا يقل أهمية عن تلك الفترة الذهبية التي عاشها الإسلام في عصر الدولتين الأموية والعباسية.

يدل الواقع المذكور على مسألة مهمة وهي أن ما يسمى بعصر الانحطاط لم يطل برأسه بعد. فالأمة كانت تمر بعصر فوضى قبلية في المغرب وتتعرض لهجمات الافرنج في الأندلس – تم التصدي لها في عهد السلطان ابن الاحمر – إلى هجمات مغولية (تترية) على المدن الداخلية لبلاد الشام نجح المماليك مراراً في صدها. فالأمة كانت إلى تلك الفترة تعتبر العالم الأول وكانت مصر آنذاك قلب ذلك العالم. فأوروبا الشمالية كانت ماتزال نائمة، وأميركا لم تكتشف، وأوروبا الجنوبية كانت تبحث عن مناطق خارج العالم الإسلامي بعد فشل حروبها الصليبية واسقاط كل ممالكها في ساحل الشام.

كان العالم الإسلامي العالم الأول وكان هو النموذج الذي يقلد ويحتذى، ومقياس علماء العصر آنذاك كان التاريخ الإسلامي. وقياس المؤرخين كان مقارنة حاضر العالم الإسلامي بماضيه. فالقياس كان بين وضع إسلامي سابق ووضع إسلامي لاحق وليس بين نموذجين أحدهما إسلامي والآخر أوروبي. فالماضي اذن كان مقياس حاضر المسلمين حتى القرن الثامن الهجري وما بعده. فاكتشاف علماء المسلمين للتفاوت التاريخي الذي حصل لاحقاً بين أوروبا والعالم الإسلامي تأخر إلى القرن الثاني عشر الهجري. أما في عصر ابن خلدون فلم تكن المسألة واردة فقياسه التاريخي هو الماضي على الحاضر والحاضر على الماضي. وهو تقليد لم يكتشفه ابن خلدون بل سُنة سار عليها السلف والخلف. فالاعجاب كان بالذات وليس بالآخر لأن الآخر لم يكن قد استفاق من نومه وخرج من ظلماته.

الاستثناء الوحيد عن القاعدة المذكورة هو الصين لان أنوار الحضارات آنذاك كانت في الشرق وصولاً إلى فارس إضافة إلى الفكر اليوناني والسرياني الذي ترجم إلى اللغة العربية في العهدين الأموي والعباسي. لذلك تركزت معظم المقارنات الحضارية، خصوصاً عند المؤرخين والرحالة من المسعودي وابن فضلان وصولاً إلى ابن جبير وابن بطوطة (والأخير عاصر ابن خلدون وقام برحلاته البطوطية في أيامه) على حضارة الصين وحكمة الهند واساطير الفرس وتنظيماتهم وفلسفة الاغريق. وعندما تقدمت الحضارة الإسلامية وتطورت علومها وفنونها تراجعت المقارنات بالشرق والصين والهند وفارس واليونان وتركزت على الداخل الإسلامي بين سابق ولاحق وتحديداً بين ماض وحاضر وهو أمر مازال موجوداً إلى الآن.

كان لابد من هذا الاستطراد لتوضيح صورة الوضع السياسي في عصر ابن خلدون وللاجابة عن سؤال لماذا اختار صاحبنا القاهرة وليس غيرها من المدن الإسلامية؟ كانت مصر، كما يقال آنذاك، أم الدنيا وقلب العالم الإسلامي ونبضه الثقافي، فجذبت اليها كل العلماء والفقهاء وأصحاب الفكر والقضاة والمؤرخين. والدولة المملوكية التي استقلت بمصر، وإلى حد ما بلاد الشام، بدأت أساساً كتجمع لأسرى الحروب و«الرقيق» في العهد الايوبيي وعندما تفككت الدولة الأيوبية استولى المماليك على الحكم وكانوا أساساً «أهل السيف» فقادوا المعارك ضد بقايا الممالك الصليبية (الإفرنجة) في ساحل الشام وقضوا عليها واخرجوها نهائياً. ونجحوا في الآن في كسر شوكة المغول في معركة عين جالوت واستقرت دولتهم في مصر وبعض بلاد الشام. ولأن المماليك «أهل سيف» تركوا العلم لأهل القلم ولم يتدخلوا في شئون الفقه ولم يفرضوا شروطهم المذهبية على المجتمع فتركوا المسألة تتدافع ثقافياً بين القضاة والعلماء ولم يتدخل السلاطين في اختصاصات «أهل القلم» إلا عندما كان هؤلاء يطلبون رأي السلطان في حسم موقف أو اتخاذ قرار.

أدت الأجواء المذكورة إلى تأسيس فضاء فكري شهدت مصر خلاله اهم نهضة ثقافية في العالم الاسلامي وباتت محطة لقوافل التجارة الداخلية وممراً لقوافل الحجاج أو الراغبين في تحصيل العلم والامن وتأمين الرزق والمعاش في مناخ من الحرية والتعدد المذهبي. فخيار ابن خلدون ليس مصادفة بل هو قرار اتخذه لانه لم يجد أي مكان آخر يذهب إليه سوى مصر.

مكث صاحبنا 40 يوماً في البحر قبل وصوله مرفأ الاسكندرية. كانت مصر آنذاك شهدت منذ عشرة أيام «جلوس الملك الظاهر على التخت» (التعريف، ص 599). وانتظر صاحب المقدمة قرابة شهر في تهيئة أسباب الحج والانتهاء من احتفالات عيد الجلوس على كرسي العرش. بعدها انتقل إلى القاهرة «فرأيت حضرة الدنيا وبستان العالم ومحشر الامم ومدرج الذَّرِّ من البشر وايوان الاسلام وكرسي الملك» (التعريف، ص 599). فابن خلدون أصيب بدهشة ثقافية وشاهد دولة مختلفة عن تلك التي وصفها وقرأ آلياتها القبلية وطبيعتها العمرانية في مقدمته. يقول: «مررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة وأسواقها تزخر بالنعم» (التعريف، ص 559). وتذكر حديثه عن القاهرة مع قاضي الجماعة في فاس وكبير العلماء في المغرب أبو عبدالله المقري عندما عاد الأخير من الحج في العام 740 هجرية (1339م) فقال له «من لم يرها لم يعرف عز الإسلام» (التعريف، ص 559). كذلك أجابه كبير العلماء في بجاية الشيخ أبوالعباس بن ادريس عندما سأله عن القاهرة. ومثله أجابه قاضي العسكر في فاس الفقيه الكاتب ابو القاسم البرجي عندما كان معه في مجلس السلطان أبو عنان.

دخل ابن خلدون القاهرة وكله شوق لمعرفتها لكثرة ما سمع عنها. وبعد أيام قرر الإقامة بها في مجلس للتدريس في جامع الازهر. واخذ الطلبة يترددون عليه «يلتمسون الافادة مع قلة البضاعة» (التعريف، ص 560). وبعد فترة تم الاتصال بالسلطان فرحب به ووفر له سبل العيش وقعد ينتظر أهله وولده للالتحاق به. لكن سلطان تونس أبوالعباس منع سفرهم للضغط عليه واجباره على العودة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3080 - الخميس 10 فبراير 2011م الموافق 07 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً