العدد 3092 - الثلثاء 22 فبراير 2011م الموافق 19 ربيع الاول 1432هـ

ليبيا ونهاية حقبة ديكتاتور

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

المجازر التي يرتكبها الديكتاتور معمر القذافي ضد الشعب الليبي هي الأسوأ منذ استولى على السلطة بانقلاب عسكري قبل 42 عاماً. فالمجازر هي التتويج المنهجي لسياسة التحطيم (التدمير الذاتي) التي اتبعها منذ تلك اللحظة الكارثية التي حلت بهذا البلد الثري في احتياطاته الطبيعية وشبعه الغني بالعطاء.

قتل الشعب وإبادته هو جواب الديكتاتور في نهاية حقبته. وهذه الخلاصة النهائية هي نتيجة منطقية لمسار التقويض لكل ما يوحد ليبيا ويجمعها. فالديكتاتورية التي بدأت بانقلاب عسكري انتهت إلى تأسيس نظام عائلي - أسري يستبد بالناس والثروة. وهي حتى تستهلك هذا الفائض من القوة كان لابد لها من اعتماد منهج التقويض (الدمار الذاتي) لكل النسيج الاجتماعي للشعب وتقطيع أوصال الدولة وإلغاء النظام وتحطيم المؤسسات وتشليعها إلى هيئات محلية تتحكم بخيوطها لجان متفرقة الأهواء والمسئوليات.

ليبيا في وضعها الراهن هي دولة اللادولة، ونظام اللانظام، والفوضى الأهلية المنظمة بإطارات فضفاضة لا تجمعها وحدة مركزية وإنما وحدات متناقضة تتعايش وتتنافس على البقاء في بيئات محلية غير مترابطة.

كل هذا الدمار الذاتي المبرمج جرى تباعاً باسم «الجماهير» التي لا يجمعها جامع، وباسم «الجماهيرية» التي تتخبط في أنفاق مظلمة لا تقوى على الرؤية من كثرة الانهيارات المتتالية التي تتساقط عليها من سلطة مستبدة احتكرت السياسة والاقتصاد واحتوت العلاقات العامة في الداخل والخارج.

تحطيم الدولة كان خطوة مدروسة حتى تكون السلطة في حال من الشلل والغياب ما يوفر فرصة للديكتاتور بالتحكم في كل القرارات. وتحطيم المؤسسات كان سياسة مبرمجة حتى تلعب الفوضى دورها في ترتيب علاقات أفقية لا تستطيع الارتقاء عمودياً إلى موقع ينافس الديكتاتور في توجيهاته. وتحطيم الجيش وتوزيعه إلى وحدات متفرقة تنتشر في المناطق الجغرافية كان خطة منهجية يراد منها تفكيك القوة العسكرية وتعطيل مركزيتها حتى لا يفكر أحد الضباط بتدبير انقلاب مضاد كما فعل العقيد حين قرر الاستيلاء على السلطة. حتى النظام لا وجود له في جماهيرية الديكتاتور لأن مجرد وجوده يمكن أن تتشكل منه آليات تستطيع أن تراكم تجربة تستطيع أن ترتب علاقات منسجمة تعطي فرصة لنمو قوى منتجة ومضادة للهيمنة الفردية القاهرة لوعي الناس.

إنتاج الفراغ كان قاعدة تفكير الديكتاتور وفلسفته التقويضية التي نشرها في كتابه الأخضر. فالفراغ يعادل الصفر (اللاشيء) والصفر لا يستطيع النهوض والقيام لمواجهة الكل (القوة القابضة على كل شيء). وبسبب منظومة الفراغ نجح الديكتاتور في تأمين سيطرة شاملة على كل الحقول من دون رقيب أو محاسب أو منافس يمتلك البديل الجاهز.

فلسفة الفراغ تأسست منذ أربعة عقود على منظومة تقطيع الأوصال وتحطيم الموجود ومنع بناء البديل. فالدولة مقطعة الأوصال. والنظام مقطع الأوصال. والجيش مقطع الأوصال. والمؤسسات مقطعة الأوصال. والاقتصاد مقطع الأوصال. والشعب مقطع الأوصال ومتوزع إلى مناطق منعزلة أو محصنة بالقبيلة.

لا وجود للوحدة في ليبيا حتى تسقط. كذلك لا وجود للدولة حتى تنهار. ولا وجود للسلطة حتى تتفكك. ولا وجود للجيش الواحد حتى ينقلب. ولا وجود للمؤسسات حتى تتحرك دفاعاً عن الناس والاقتصاد والمصالح. وهذا العدم الشامل كان أساس فلسفة شمولية الديكتاتور. فالشمولية هي الجواب المنطقي عن الفراغ العام والفوضى المنظمة والتقويض الشامل لكل ما يجمع أو يوحد.

هذه هي صورة ليبيا ومنها يمكن أن تفهم أبعاد المجازر التي قرر الديكتاتور ارتكابها اعتماداً على جيوش المرتزقة والشركات الأمنية المحترفة على غرار فرقة «بلاك ووتر» الأميركية التي ارتكبت المذابح المنظمة في العراق. فالديكتاتور حين أنهى الداخل وقطع أوصاله وألغى المواقع ومصادر القوة ومراكز القوى تفرغ إلى بناء قوة خارجية مستوردة تمتلك صلاحيات مطلقة للدفاع عن الديكتاتورية. وهذا المشهد الدموي المريع تمظهر في خطاب ابنه المتلفز الذي توعد الناس بالقتل الشامل والاقتلاع من الجذور.

المجازر التي تنفذها الجيوش المرتزقة وقوات الشركات الأمنية ضد أحياء المدن وشعابها وقبائلها ومناطقها تصبح مسألة طبيعية في سياق منهج تقطيع الأوصال. فالديكتاتور حطم كل شيء بما فيها وسائل الدفاع الداخلية عن سلطته، لذلك تصبح الإبادة الجماعية هي الجواب المنطقي لفلسفة العدم وإلغاء الآخر. الديكتاتور لا يمتلك سوى هذا السلوك المبرمج في التعاطي مع المشكلات التي كانت تواجهه بين حين وآخر. والرد الذي اعتمده الديكتاتور ليس خارج المألوف لكونه يأتي في إطار تدرجي بدأ قبل 40 سنة بإلغاء الدولة والنظام والجيش والمؤسسات واقتصاد السوق وتركيز القوة في أدوات المرتزقة لينتهي بعد 40 سنة في مخطط إلغاء الشعب حتى «آخر امرأة وآخر رجل وآخر طفل وآخر طلقة» كما قال ابنه المسمى بسيف الإسلام.

الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية والمجازر الدموية والمذابح ضد كل ما هو حيّ كلها عناوين سياسية لفلسفة الديكتاتور. فهذا المنهج التقويضي (الدمار الذاتي) هو ختام فصول القهر المبرمج على امتداد أربعة عقود من خطة الإلغاء والتجويف والعزل عن المحيط والعالم وصولاً إلى خط النهاية التي تقتضي تحطيم الهيكل بمن فيه. فسياسة «عليَّ وعلى شعبي يا رب» هي نتاج طبيعي لعملية فلسفية تراكمية بدأت بالموجود وانتهت إلى اللاموجود.

ليبيا في وضعها الراهن دولة غير موجودة ونظام غير موجود ومؤسسات غير موجودة وجيش غير موجود وسلطة غير موجودة. فهي خريطة سياسية لا هوية لها ولا يمكن تعريفها أو إعادة إنتاجها إلا في إطار وظائف الديكتاتور وما تمليه على الفراغ من مزاجية صبيانية وتحركات مسرحية وتذبذب شخصية هوائية لا تستقر من دون الإفراط في تكرار الأنماط البهلوانية.

ليبيا الآن من دون هوية. فهي اللاشيء وكل شيء في فلسفة الديكتاتور المختلطة الأشكال والألوان. ليبيا برأيه عربية وغير عربية، إفريقية وغير إفريقية، إسلامية وغير إسلامية، قبلية وغير قبلية، شعبية وغير شعبية، جمهورية وغير جمهورية، ديمقراطية وغير ديمقراطية، اشتراكية وغير اشتراكية، عظمى وغير عظمى.

ليبيا في رؤية الديكتاتور خليط متنافر وغير موحد ولا إطار يجمعها لذلك أطلق عليها تسمية فضفاضة تعكس ذهنياً تلك الفوضى المنظمة وسياسة تقطيع الأوصال. فالعنوان العريض (الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الديمقراطية الاشتراكية العظمى) هو الدليل على منهج الفراغ وتجويف الأسماء والمسميات من معانيها حتى تكون مناسبة لتعريف هوية غامضة في تكوينها وتركيبها.

المجازر وحملات الإبادة التي يرتكبها الديكتاتور بحق الأبرياء والعزل هي نهاية منطقية لسياسة تحطيم مبرمج تأسست على فلسفة الإلغاء حتى يصبح العدم هو القوة الموازية لقبضة الاحتكار لكل شيء حي. وهذا النوع من الديكتاتورية لا يمكن مواجهته من الداخل لكون الداخل تم تحطيمه وتفكيكه وبعثرته، كذلك الديكتاتور لا يستطيع مواجهة الداخل بقوة ذاتية ما يفرض عليه الاستنجاد بالمرتزقة وجيوش الشركات الأمنية المحترفة مهمات القتل للدفاع عن استبداده المطلق.

ليبيا أسوأ من حال الديكتاتور وهي بحاجة فعلاً إلى دعم خارجي عاجل لإنقاذها من تداعي الهيكل. والشعب الليبي المتشرذم في إطارات الفوضى المنظمة يتطلب قوة إنقاذ من المحيط (الجامعة العربية) والعالم (الأمم المتحدة) وبأسرع وقت ممكن لانتشاله من تحت الأنفاق والنهايات المظلمة والظالمة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3092 - الثلثاء 22 فبراير 2011م الموافق 19 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً