العدد 3102 - الجمعة 04 مارس 2011م الموافق 29 ربيع الاول 1432هـ

الانتفاضات العربية... ورمادية اللغة الأميركية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

انفجار الانتفاضات العربية دفعة واحدة في المغرب والمشرق والخليج مروراً بالعراق وصولاً إلى إيران (الثورة الخضراء) وضع الإدارة الأميركية في إطار مواقف متخالفة في تعاملها مع مطالب التغيير. حتى الآن تبدو واشنطن مسيطرة على إدارة ملفات الأزمة، لكنها أيضاً تظهر مرتبكة أو مترددة وأحياناً متهربة من اتخاذ مواقف واضحة كما هو أمر انتفاضة العراق ضد السرقة والفساد وحكومة المالكي.

السياسة الرمادية التي يتخذها الرئيس باراك أوباما تكشف ضمناً عن مخاوف أميركية من احتمال انزلاق بعض الانتفاضات عن أهدافها المحددة والذهاب بعيداً في مشروع التغيير. وهذه المخاوف تظهر ملامحها في الموضوع الليبي إذ تتأرجح التصريحات بين الاعتراض اللفظي على خطابات الديكتاتور واستخدامه المفرط للقوة وبين الحرص على ضمان تدفق النفط وعدم هروب الودائع من المصارف الغربية التي تقدر بالمليارات.

هناك مناطق (تونس ومصر) تبدو واضحة للسياسة الأميركية من حيث طبيعة قواها السياسية والغايات التي تريدها، لذلك تتعامل واشنطن معها بارتياح ومن دون قلق. وهذا ما دفع الولايات المتحدة التأكيد على مسألة التغيير وإصلاح الدستور وتعديل أنظمة الحكم حتى لو جاءت الانتخابات بحركة الاخوان المسلمين إلى السلطة.

الاطمئنان الأميركي عن الحال المتوقع في تونس ومصر بسبب وضوح هوية البديل غير متوافر في ليبيا لكون المواجهة الدموية بلغت حدها الأقصى واخذت تعرض البلاد إلى انقسام جهوي (مناطقي – قبائلي) ما دفع إدارة واشنطن إلى اتخاذ مواقف غامضة في أسلوب التعاطي مع جبهة المعارضة في بنغازي.

الموقف الاسوأ تجلى في العراق إذ اختارت إدارة أوباما الصمت عن ما يجري من قمع وقتل للمتظاهرين، الأمر الذي فسرته بعض المراجع أنه يعكس مخاوف أميركية من احتمال تزعزع موقع نوري المالكي وعدم قدرته على احتواء مضاعفات الانتفاضة الشعبية.

الصمت الأميركي ودعم واشنطن لحكومة حليفها في بغداد وخوفها من تدهور الوضع في الوقت الضائع والفاصل بين الانسحاب العسكري في نهاية العام وتلك الترتيبات الفنية والتقنية التي عقدتها من وراء الستار مع طهران يطرح علامات استفهام عن مدى جدية أوباما في دعم حركة الاصلاح والتغيير في المنطقة العربية. فالضبابية في المواقف واختلاف اللغة الأميركية بين التشدد في مكان والليونة في مكان يكشفان عن مخاوف من حصول انعطافات حادة لا تقوى إدارة اوباما على احتواء مفاعيلها في المستقبل.

رمادية اللغة الأميركية في التعامل مع الانتفاضات العربية التي انفجرت دفعة واحدة وباتت تهدد في جوانب منها الاستقرار الأمني ومصالح شركات النفط العاملة في بعض الأقطار يمكن قراءة بعض تفصيلاتها في شهادة وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أمام الكونغرس. فالوزيرة حاولت أن تكون موضوعية لكنها لم تستبعد أن تستفيد إيران من المتغيرات الحاصلة أو المتوقع حصولها مباشرة أو بالواسطة من خلال اتصالاتها الخفية بحركة الاخوان المسلمين وحماس أو من طريق دعمها لحليفها اللبناني حزب الله. فالوسيط اللبناني يمكن له أن يلعب دور تجسير العلاقات بين طهران وبعض المجموعات التي تتحرك ميدانياً في مصر والبحرين واليمن.

احتمال استفادة إيران من حركات الاحتجاج العربية أمر لم تستبعده كلينتون في شهادتها. فطهران برأيها تنشط بقوة مباشرة وبالواسطة وهي تسعى للاتصال بأجنحة المعارضة في بعض الأمكنة ومحاولة التأثير على الحوادث وتوجيهها في هذا البلد أو ذاك. وكشفت كلينتون عن وجود اتجاهات تطلب مساعدة واشنطن ودعمها من دون الإعلان رسمياً عن ذلك حتى تكون بعيدة عن تهمة التدخلات الأجنبية.

شهادة كلينتون أمام الكونغرس توضح الكثير من رمادية اللغة الأميركية وغموض مواقفها واختلاف تعاملها مع مسألة التغيير والإصلاح بين بلد وآخر وانتفاضة وأخرى. فالولايات المتحدة تدرك بعد تجاربها المرة والفاشلة في أفغانستان والعراق أنها ليست اللاعب الأول في الميدان وهي لا تستطيع دائماً التحكم بمفاتيح الصراع إذا انحرفت آليات اللعبة عن مسارها المخطط له والمبرمج على الورق.

تجربة أفغانستان والعراق التي كلفت واشنطن مئات مليارات الدولارات انتهت إلى إنتاج حكومات نهب وسرقة ورشوة لا تتردد في ارتكاب المخالفات يومياً ليتناسب البديل مع طموح القبيلة أو المنطقة أو المذهب أو الطائفة. والنماذج الأميركية غير المشرفة التي صنعتها إدارة جورج بوش في كابل وبغداد تشكل فضيحة أخلاقية في كل المعايير الدولية وهي تفرض على إدارة أوباما أخذ الحيطة حتى لا يعاد إنتاج سلطات تقارب تلك البدائل المخجلة التي تسلقت العروش بفضل زحف الدبابات الأميركية.

الحذر الذي أطلت به كلينتون أمام الكونغرس وعدم استبعادها كل الاحتمالات بما فيها تدخل إيران وأيضاً فنزويلا (دفاعاً عن ديكتاتورية القذافي) يؤشران إلى بدء نمو مخاوف أميركية من إمكان انجراف الحوادث وخروجها باتجاه مسارات لا تتوافق مع مصالح شركات النفط واستقرار الأمن الإقليمي. وهذا الاحتمال السلبي برأي كلينتون يتمثل في طموح بعض القوى المحيطة جغرافياً بالمنطقة العربية في مد خطوط الاتصال والتواصل واستثمار الغضب الشعبي وإعادة توظيفه في حسابات لا علاقة لها بالإصلاح والتغيير واحترام حقوق الإنسان وتداول السلطة.

حتى الآن تبدو أميركا مسيطرة نسبياً على خيوط اللعبة وطرق إدارة ملفات الأزمة المتدحرجة من المحيط إلى الخليج. لكن مقدار التحكم بمفاتيح الحل يتفاوت بين بلد وآخر. في العراق تبدو واشنطن أقرب إلى سلطة المالكي وضد الانتفاضة العراقية. في تونس ومصر تتجه نحو دعم الإصلاح والتغيير تحت سقف لا يفرط مستقبلاً بالعلاقات التقليدية مع الولايات المتحدة. في ليبيا تتأرجح إدارة أوباما يومياً بين جانب وآخر مراهنة على عامل الوقت والمتغيرات الميدانية على الأرض. في اليمن تضغط واشنطن على الرئيس علي عبدالله صالح للقبول بالتفاوض والمصالحة في وقت أخذت تمد خطوط الاتصال لاحتواء المعارضة وضمان صداقتها في المستقبل. وفي البحرين تحاول إدارة أوباما لعب دور الوسيط وإقناع المعارضة بأهمية التفاوض وضرورة اقتناص الفرصة للحوار بشأن الإصلاحات المطلوبة تجنباً للتفريط بالمناسبة وما يمكن أن تجلبه الفوضى السياسية من أضرار تنعكس سلباً على الاستقرار الأمني ومنظومة العلاقات الإقليمية في دول الخليج العربي.

كل هذه السياسات في المشهد الممتد من المغرب إلى المشرق والخليج ترسم خريطة طريق تظهر عدم وضوح الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (شعوب مينا). إدارة أوباما تبدو أحياناً مترددة بين دعم مفهوم الإصلاح والتغيير نظرياً وبين انعكاسات هذا التوجه الايديولوجي ميدانياً على الأرض. فالكلام العام الفضفاض عن حقوق الإنسان وتداول السلطة واحترام الحريات لا يتوافق دائماً مع آليات السياسة التي تنتجها الجماعات الأهلية وتضارب مصالحها بين بلد وآخر.

التفاوت بين الفكرة والواقع مسألة تبدو مستعصية على إدارة تحاول استكشاف الجغرافيا البشرية وتنوع تضاريس جماعاتها الأهلية واختلاف توجهات كل فريق عن الآخر في تعامله مع طموح التغيير. وعدم إدراك واشنطن لمخاطر الهوة بين المبدأ والممارسة وضعها في مأزق أخلاقي لأنها حتى الآن لاتزال غير قادرة على توضيح تلك الملابسات التي تكمن في مفاصل الأمن والإصلاح والمصالح. وهذا الغموض يربك واشنطن ويجعلها أحياناً متأرجحة في المواقف وتحديد الأولويات. فهي مع الأمن أولاً في مكان، والإصلاح أولاً في مكان، والمصالح أولاً في مكان. والجمع بين الثلاثة على خط أفقي لا عمودي يفسر الغامض في لغة الولايات المتحدة الرمادية.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3102 - الجمعة 04 مارس 2011م الموافق 29 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 9:26 ص

      ما الامر يا وليد

      امريكا تبارك ثورات الشعوب العربيه
      على غير عادتها يعنى الله هدى الامريكان الى الصواب والا المصلحه الامريكيه والمصلحه وحدها هي التى تحرك مشاعر الببيت الابيض تجاه الثوار وكأنه اسف كل الاسف لعدم احتضانهم قبل الثوره عجايب هليستر امريكا ودها ان تتوب توبه نصوحه الى ربها قبل الوقوف امامه هل تأنيب الضمير اشتغل عند الكونكرس رغم كرها للشعوب وحبه الجنوني لثراوتهم ان انها محاباه للمستقبل الي هم عارفينه اكثر من غيره ياوليد نعيش رجب ونرى العجب الله يستر

اقرأ ايضاً