العدد 3106 - الثلثاء 08 مارس 2011م الموافق 03 ربيع الثاني 1432هـ

ديكتاتور الجماهيرية والمراهنة على التمزق القبلي

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

التوازن السلبي الذي بدأ يرسم خريطته الميدانية على أرض ليبيا بين ميليشيات الديكتاتور وبين قوى المجلس الوطني (بنغازي) أخذ يرسل إشارات لا تبعث على الطمأنينة. فالتوازن السلبي عسكرياً يعني تكافؤ القوى وعدم قدرة أحد الفريقين على الحسم. الديكتاتور مصمم على رفض المغادرة أو التنحي وهو يستعد لاستخدام كل معداته واحتياطه النقدي وتجهيزاته للقضاء على أهالي الانتفاضة والمدن المتمردة. وقوى الاعتراض لم تنجح حتى الآن في توضيح استراتيجية الهجوم وما تتطلبه من قيادة مركزية قادرة على التوجيه وإدارة المعركة ضمن رؤية سياسية تمتلك خبرات في التعامل مع عمليات الكر والفر.

المؤشرات بدأت تذهب نحو الاحتمال السلبي وما يعكسه من مضاعفات وارتدادات قد تجرجر ليبيا إلى حرب استنزاف طويلة تتداخل في وسطها خطوط القبيلة مع المناطق الجهوية في الشرق والوسط والغرب والجنوب. والتشابك بين المنطقة والجهة والقبيلة والمدينة يفتح الباب على نمو آليات تعطل حسم الصراع من دون دفع كلفة غالية الثمن بشرياً وعمرانياً.

التوازن السلبي بين الكفتين يخدم في سياق انفتاح الأزمة المتدحرجة على تضاريس الجماعات الأهلية مصلحة الديكتاتور، لأنه يعزز تلك التهديدات التي أطلقها ابنه ضد الشعب الليبي محذراً الناس من الحرب الأهلية وحروب المناطق والقبائل وتمزق البلاد إلى شرقية وغربية تحصد الزرع وتنهك النفط والغاز.

إنذارات ابن الديكتاتور في مطلع الانتفاضة بدأت ترخي بظلالها ميدانياً على واقع ليبيا وتمثلاته السياسية. فالديكتاتورية يختبر لعبة خطيرة وهي تقوم على معادلة «قاتل أو مقتول» وسياسة إما القبول بالأمر الواقع (أنا) أو الدخول في حفل وداع دموي (حمام دم) ونهاية ليبيا كما نعرفها الآن على الخريطة.

قوى الاعتراض (المجلس الوطني) تبدو خائفة على البلاد وهي أكثر حذراً وحرصاً من عائلة الديكتاتور وأسرته على ضمان الوحدة وصيانة الثروة وعدم المغامرة وتبديد القوى البشرية واستنزاف المدن في معارك جزئية وعمليات الكر والفر.

اختلاف النهجين يوضح حساسية الموقف بين طرف قرر خوض الحرب المحروقة والمفتوحة على التقسيم والشرذمة وافتعال المعارك وجرجرة القبائل والمناطق إلى التصادم والدمار الذاتي وبين طرف لا يريد التفريط بالبلاد ويرى أن الشعب الليبي يستحق أن يسترد حريته وكرامته واعتباره الإنساني من دون خسائر كبرى تحرق الأخضر واليابس.

المسألة أخلاقية في مقامها الأساسي. وبسبب هذا العامل النفسي الضاغط تبدو أحياناً قراءات قوى الاعتراض (أهل الانتفاضة) مثالية في تعاطيها مع تعقيدات الواقع الليبي. فالتصريحات أو البيانات التي تصدر عن المجلس الوطني ورموز قيادته في الداخل والخارج أقرب إلى «العالم الافتراضي» ورسائل الإنترنت ومواقع التويتر وفيسبوك أكثر مما هي تشكل رؤية دقيقة للفسيفساء الليبي وتشكيلاته الأهلية والمناطقية والقبلية.

خطاب أهل الانتفاضة يعيش في أحلام المستقبل ويتهرب من الإجابة عن أسئلة دقيقة وحساسة توضح الصورة الواقعية للبلاد الليبية. فالخطاب يشدد على الوحدة الوطنية والإجماع الأهلي والتعايش والتساكن والتآلف، وينفي وجود الاختلاف والتنابذ بين المناطق والأحياء. وهذا النوع من القراءة المثالية للواقع يعطل كثيراً على قوى الانتفاضة تطوير خطاب قادر على تحديد نقاط قوة وضعف القذافي وما ينتج عنها من ثغرات موضعية تعطي فرصة لأهل الانتفاضة بالنفاذ منها واقتلاعه من تحت الأرض.

حتى الآن يصر خطاب قادة المجلس الوطني على نفي وجود القبيلة والقبلية في ليبيا. كذلك يؤكد الخطاب على وحدة المناطق وتعاضدها ضد سلطة الديكتاتور. وهذا الكلام الصحيح في مثالياته وأخلاقه هو أقرب إلى الطموح والمرتجى وأبعد عن ليبيا في حالها اليوم. فالديكتاتور مزق البلاد خلال العقود الأربعة وتلاعب على تنابذ المناطق وتنافس القبائل ليكسب الوقت ويعزز قبضته ويضمن تسلطه المديد على مصادر القوة والثروة من دون مزاحمة.

الاعتراف بالواقع كما هو، أو كما أراد الديكتاتور أن يكون، ليس عيباً لأن الإثم لم ترتكبه الانتفاضة وقوى المجلس الوطني. والاعتراف بوجود قبلية وجهوية وانزلاقات أهلية - مناطقية لا يقلل من احترام الثوار لسكان المدن وتجاور الأحياء وتعايش الفروع والأفخاذ وتوزع أنشطتها ومراكز قواها ومنابتها الأصلية.

انتفاضة ليبيا لاشك أنها مدينية وهي أساساً بدأت في المدن وستنتهي تموجاتها السياسية في المدن. وهذا الواقع لا ينكر وجود مراكز قوى قبلية تتحرك في إطارات معيشية وثقافية ونمطية محاذية وتقع خارج دائرة التواصل أو الاصطدام. فكرة أن المدن تشتمل على كل القبائل وأن القبيلة في ليبيا لم تعد موجودة كما كان عهدها في قديم الزمان وأنها تمزقت وتنوعت وتوزعت وتساكنت أو اندمجت في الأحياء الحضرية لا تغني الحديث عن أوجه أخرى للقبيلة.

صحيح أن القبائل الليبية لم تعد تنفرد في السكن والتحكم في منطقة معينة كما كان في السابق، وأنها انتقلت من الصحراء والمناطق الخلفية والموحشة وانتشرت للعيش في مدن عدة. لكن الصحيح أيضاً أن كل قبيلة لايزال لها موقع نفوذ تقليدي في الجهة التي نزحت منها، وهي لاتزال تتأثر بالمصاهرة والمعايشة القديمة لاتخاذ قراراتها السياسية. وهذا الواقع لابد من الاعتراف به أو على الأقل التعامل معه بموضوعية حتى لا تتراكم الأخطاء حين إجراء الحسابات الدقيقة والنهائية بشأن معركة الحسم مع الديكتاتور.

القبائل موجودة وهي منتشرة وموزعة على المدن وجهات مستحدثة، وهي أيضاً لاتزال تتمتع بمواقع نفوذ في المناطق التقليدية في الجنوب والوسط والشرق والغرب. قبيلة ورفلة (مليون نسمة) مثلاً تسكن في الكثير من الأحياء المدينية في طرابلس وبنغازي وسرت وبني وليد لكنها أيضاً لم تغادر مناطقها التقليدية. كذلك الأمر قبيلة ترهونة (مليون نسمة) التي تعيش في أحياء طرابلس وتاورغاه. وقبيلة الزوية تعيش في جنوب ليبيا إلى جوار قبائل الطوارق. وقبيلة الزنتان في جبال نفوسة. وقبيلة بني الوليد في مصراته وبني وليد. وقبائل القذاذفة والعبيدات والمقارحة تنتشر في طرابلس وضواحيها وسرت وبنغازي وسبها وغيرها من المناطق والجهات.

هذه القبائل الكبرى (9 قبائل) منتشرة وموزعة ومشتتة في المناطق والأحياء المدينية لكنها تشكل غالبية البنية السكانية للشعب الليبي. والديكتاتور يراهن على انقساماتها لكسب الوقت معتمداً أيضاً على مجموعة عوامل منها العصبية التقليدية والزواج والمصاهرة والتعاقدات الظرفية (المهادنات) التي تحصل عادة بين رؤساء القبائل. فالوحدة القبلية لاتزال موجودة على رغم التباعد الجغرافي والمديني الذي حصل، كذلك الانقسام القبلي موجود على ضفاف وثنايا وتخوم كل قبيلة. وهذا التناغم بين الوحدة والانقسام داخل القبيلة وامتداداتها مع القبائل الأخرى يعطي فرصة للديكتاتور في تنفيذ التهديدات بالحرب الطويلة التي أطلقها ابنه وحذر الشعب الليبي من جرجرته إليها إذا لم يقبل بسلطة والده.

إنذارات ابن الديكتاتور ليست مجرد كلام يقال في الهواء للتخويف. فهو يعايش الواقع وتلاوينه ولا يتردد في استخدامه وتوظيفه لشن الحرب المحروقة انطلاقاً من نزعة مرضية مهلوسة لا تتصور أن ليبيا يحق لها أن تعيش وتنهض من دون حكم الجماهيرية. وهذا الخطاب المجنون في تهوره يفسر إلى حد كبير نجاح الديكتاتور في الدفاع عن مواقعه وفرض نوع من حرب استنزاف طويلة (التوازن السلبي) معتمداً من جانب على قوات المرتزقة والشركات الأمنية ومن جانب آخر على تحالفات قبلية (قرابية) متعايشة في المدن ومنتشرة في بعض المناطق التقليدية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3106 - الثلثاء 08 مارس 2011م الموافق 03 ربيع الثاني 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً