العدد 3214 - السبت 25 يونيو 2011م الموافق 23 رجب 1432هـ

أخطار المثالية السياسية

عبيدلي العبيدلي Ubaydli.Alubaydli [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ما إن يجري الحديث عن مشروع سياسي نموذجي، ويسترسل في الحديث من أجل التأصيل له، حتى ينتهي الأمر عند واحد من فيلسوفين: الإغريقي إفلاطون بجمهوريته النموذجية، والإسلامي أبو نصر محمد الفارابي ومدينته الفاضلة.

والتصور النموذجي لدى إفلاطون هو تخطيط لمدينة واقعية طمح إفلاطون أن يراها مؤسسة على أرض الواقع. وقد أقام إفلاطون حينها بنياناً نظرياً لمجتمعه الكامل الذي طمح أن تجسده جمهوريته، متطرقاً إلى بعض القضايا العملية اللازمة لبناء ذلك المجتمع. وقد أسهب إفلاطون في معالجة أمور محسوسة مثل مناهج الدراسة لتنشئة الأفراد، ولم يتردد عن إجراء مقارنات حية يميز فيها مجتمعه النظري المثالي عن المجتمعات الأخرى القائمة، مُركّزاً في تلك المقارنات على الفروقات بين العدالة في كل منها، حيث نجح في البرهنة على «أن العدل يخدم الفرد والمجتمع». لكن الفلاسفة ومن بينهم العرب من أمثال عبدالرحمن بدوي اعتبروا الكتاب «يوتيبيا سياسيّة يتخيل فيها إفلاطون مجتمعاً كاملاً ويرمي بهذه المدينة إلى إقامة العدل الحقيقي الذي يراه. ولكن للأسف أن إفلاطون اكتشف استحالة قيام مدينته الفاضلة هذه، ووجد كذلك استحالة حصول ما يدعو إليه من أفكار وآراء». الأمر الذي دعاه إلى كتابة مؤلفه الآخر الذي أسماه (القوانين)، والذي «قام فيه بتعديل وإضافة بعض من القوانين والأفكار التي عرف باستحالة تحققها في كتابه الأول».

بعد إفلاطون الإغريقي كان هناك، كما ذكرنا، الإسلامي أبو نصر الفارابي، الذي يقول عنه ألبير نصري نادر، إن «فكرة الفارابي: لا يستطيع أن يبقي وأن يبلغ أفضل كمالاته إلا في المجتمع. والمجتمعات البشرية منها ما هو كامل، ومنها ما هو غير كامل. أما المدينة الفاضلة، فـشبيهة بالجسم الكامل التام، الذي تتعاون أعضاؤه لتحقيق الحياة والمحافظة عليها». ويلقي الفارابي بالكثير من الأضواء على مدينته الفاضلة، من خلال إبراز مساوئ مضاداتها، «وهي: المدينة الجاهلة، التي لم يعرف أهلها السعادة. والمدينة الفاسقة، وهي التي تعلم كل ما يعلمه أهل المدينة الفاضلة، ولكن تكون أفعالها أفعال أهل المدن الجاهلة. والمدينة المتبدّلة، وهي التي تكون آراؤها في القديم آراء أهل المدينة الفاضلة وأفعالها، غير أنها تبدّلت. وأخيراً المدينة الضالّة، وهي التي تظن السعادة، ولكنها غير هذه».

العنصر المشترك بين جمهورية إفلاطون ومدينة الفارابي هو أنهما أسستا على أرضية مثالية، أثبت علم السياسة استحالة قيامهما. وهذا مصير كل من يبحث عن مجتمع مثالي، تتوافر فيه كل مقومات الجمهورية الفاضلة، كي تتسنى له ممارسة أنشطته السياسية فيه.

التجربة تقول إن السياسي الناجح هو ذلك البراغماتي القادر على الاستفادة، دون أية انتهازية، من الظروف القائمة كي يحول عناصرها لمصلحة مشروعه السياسي. ومتى ما تمسك السياسي بمثالية إفلاطون، أو نموذجية الفارابي، فربما يؤول مشروعه السياسي إلى ما آلت إليه تلك المدينة وأختها الجمهورية. ومن هنا تأتي المخاطر المحتملة الناتجة عن المثالية السياسية

إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"

العدد 3214 - السبت 25 يونيو 2011م الموافق 23 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 13 | 11:56 م

      بين مثالية افلاطون ونموذجية الفارابي ....نكاد لا نرى سياسي عربي ناجح ..... ام محمود

      المقال نقلنا الى عالم المثاليات الحالمة والمدن النموذجية الفاضلة و المجتمعات البشريةالمتكاملة ونحن أحوج في هذا الوقت بالذات الى الأحلام والامنيات لأن الواقع رهيب وبشع الذي نعيشه والخاتمة رائعة بها الكثير من المغزى
      نحن بحاجة الى دول العدل فيها يخدم المجتمع بحاجة الى دولة القوانين ودولة العدل الحقيقي
      بحاجة الى قادة يرفعون العالم العربي بعد الكبوات والهفوات والزلات والويلات والمآسي

    • زائر 10 | 3:41 ص

      تغطية اليوم

      الاخ عبيدلي .. يوم بعد يوم نرى حبيبتنا الوسط تسترد عافيتها لتلعب دورها المطلوب في الشان المحلي. المواضيع المطروحة اليوم فعلا على المستوى المطلوب و متماشية الوضع في البلد. نتمنى التوفيق للجميع

    • زائر 8 | 1:55 ص

      تحليل

      تحليل:
      هذه المقالة قد يكون المستهدَف فيها بالدرجة الأولى جمعية الوفاق.. فيا جمعية الوفاق كوني واقعية لا مثالية..!!
      أخي الكاتب: بصفتي مراقب للوضع السياسي المحلي، وخصوصاً لخطابات ورؤى الجمعيات المعارضة وفي مقدمتهم الوفاق لا أرى - في الإجمال - أي مثالية في الطرح، بل لا أعتقد بوجود خطاب واقعي أكثر من خطابهم، وخصوصاً إذا قُورن بالخطابات الأخرى للجمعيات الموالية المحسوبة على الحكومة..

    • زائر 7 | 1:47 ص

      بارك الله فيك

      كم أنت رائع استاذ عبيدلي

    • زائر 5 | 1:23 ص

      شر المدن

      اللهم اكفينا شر المدن التالية: المدينة الجاهلة، التي لم يعرف أهلها السعادة. والمدينة الفاسقة، وهي التي تعلم كل ما يعلمه أهل المدينة الفاضلة، ولكن تكون أفعالها أفعال أهل المدن الجاهلة. والمدينة المتبدّلة، وهي التي تكون آراؤها في القديم آراء أهل المدينة الفاضلة وأفعالها، غير أنها تبدّلت. وأخيراً المدينة الضالّة، وهي التي تظن السعادة، ولكنها غير هذه، من حقنا أن نحلم بالمدينة الفاضلة ومن حقنا أن لا نقبل بمدينة ضالة تتلبس لباس المدينة الفاضلة ويبقى اللهيب تحت الرماد.

    • زائر 3 | 12:38 ص

      لا مجال للنظريات

      ان النظريات تأخذك الى أحلام اليقظة والمثاليات أما الواقع فنتعلم من الغير , أما أن نطر أو نعيش حالة التقليد (تقليدالأفضل)على الأقل . لماذا الغرب وصل الى ما وصل اليه من حرية في التعبير وأحترام العقيدة والدين واللون والعرق والتعايش بسلام مع اختلاف وجهات النظر وحق أختيار من يدير دفة البلاد والعباد ........

اقرأ ايضاً